خليل نزال
الحوار المتمدن-العدد: 2908 - 2010 / 2 / 5 - 17:19
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
*جاء الأخ محمد بركة ليشارك فيها بكل ما فيه من ملامح فلسطينية واضحة المعالم، و بعد أن قام بتجميع ما تختزنه خوابي التجربة الفلسطينية*
*وكأنه يقول: لا مقارنة بين ألم وآخر، فلكل واحد الحق بأن يلوذ كلما شاء بصومعة ألمه، ولا شريك له في عزلته وحواره مع ذاته*
* ألرسالة التي نقلها الأخ محمد بركة إلى الجانب البولندي هي رسالة الواثق من عدالة قضية شعبه*
منذ حوالي عشرين سنة تسللت إسرائيل إلى حجرات الوعي السياسي في دول أوروبا الشرقية وتقمصت دور الوريث الشرعي لكل ما يمتّ بصلة إلى معاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، وأصبح ساسة إسرائيل هم "ضيوف الشرف" في كل تجمع أو احتفال يمكن أن يشكل مناسبة "لتأنيب الضمير الأوروبي" وفرصة لمزيد من الابتزاز له، حتى إن كثيرا من الحكومات الأوروبية – وأمام هذا الحضور الاسرائيلي الصاخب والمتواصل- قد نسيت أو تناست أن حصة شعوبها من ميراث الألم الذي خلفته النازية لا يقل عن نصيب أي شعب أو أية مجموعة دينية أو عرقية أخرى.
وعلى الرغم من خطورة المحاولات الاسرائيلية الرسمية الرامية إلى إبراز ممثلي إسرائيل كورثة شرعيين لضحايا النازية وآلام تلك الضحايا فإن الأخطر من ذلك هو محاولات استخدام تلك الآلام كمبرر لما قامت وتقوم به إسرائيل من جرائم متواصلة بحق شعبنا الفلسطيني، و إن امتلك احد الجرأة على الصراخ في وجه تلك الجرائم فالتهمة جاهزة: معاداة السامية والتنكر لمعاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية.
ألإحتفالات التي جرت هذا العام في ذكرى تحرير معسكر الإعتقال النازي "أوشفيتس" (بولندا) على أيدي الجيش السوفييتي كان يمكن أن تكون كسابقاتها من الاحتفالات: يتغير فيها فقط إسم واحد هو إسم رئيس الوزراء الإسرائيلي ويأتي العالم الغربي كله ووسائل إعلامه للاستماع إلى موعظة جديدة يقدمها في الدروس المستقاة من "المحرقة".. والدرس الأول دائما هو أن إسرائيل يجب أن تتمتع بقوة مطلقة كي لا تتكرر المأساة من جديد.. لا صوت إلا صوت إسرائيل ولا خيار للرأي العام ووسائل إعلامه إلا أن يرددوا ما تريد إسرائيل قوله.
وبالمناسبة فإن إسرائيل لا تخاطب ذاتها ولا تخاطبنا نحن وهي تشارك في احتفالات كهذه، إنما تخاطب أوروبا وتريدها أن ترتكب جريمة الصمت أمام ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من هجمة إسرائيلية منظمة ومستمرة، إسرائيل لا تكترث بانشغال البعض في عالمنا العربي ومحيطه مرة بإنكار الجرائم النازية من أساسها ومرة بالدخول في مزاد التقليل من عدد الضحايا اليهود وكأن قتل مليون "فقط" هو جريمة أقل فظاعة من قتل ستة ملايين يهودي، أو كأننا نخاف أن العدد كلما كبر أصبح فعلا يشكل تبريرا مقنعا لجرائم إسرائيل!
كان يمكن للإحتفالات أن تكون كسابقاتها لولا أن الأخ محمد بركة قد جاء ليشارك فيها بكل ما فيه من ملامح فلسطينية واضحة المعالم، و بعد أن قام بتجميع ما تختزنه خوابي التجربة الفلسطينية من ثقة بالنفس وبعدالة القضية التي تؤرق أعين العالم، وكأنه يقول: لا مقارنة بين ألم وآخر، فلكل واحد الحق بأن يلوذ كلما شاء بصومعة ألمه، ولا شريك له في عزلته وحواره مع ذاته- ينطبق هذا على كل يهودي، تماما وبنفس القدر الذي ينطبق فيه على كل إنسان آخر وفي المقدمة منهم الفلسطيني الذي أصبح ألم جرحه هو العنوان الأكثر وضوحا طوال ما يزيد عن قرن من الزمان.
* حفاوة الاستقبالألفلسطيني والإنسان في محمد بركة يأتيان معا ليقولا للرأي العام البولندي: أنا الضحية التي شاءت الصدفة أن تبقى على قيد الحياة أتيتكم لأقول لكم: لن يستطيع جلادونا أن يسلخوا عن جسدنا المثخن بالجراح شعورنا بالإنتماء للإنسانية وقدرتنا على الإنصات لأصوات ضحايا القهر والاستبداد أيا كان مصدر تلك الأصوات، وسننصت بإصغاء أشد لأصوات الضحايا اليهود لأنها تذكرنا أن الدم سينتصر على السيف مها اشتدت سواعد الجلادين.
كان لي شرف مرافقة الأخ محمد بركة في مقابلاته في وزارة الخارجية وفي مكتب رئيس الجمهورية البولندية يوم الخميس 28 كانون الثاني 2010، وقد كنت شاهدا على مدى الحفاوة التي قوبل بها هذا الضيف "غير المتوقع" من قبل الرسميين البولنديين- ليس لأنه عضو في الكنيست الإسرائيلي- ولكن لأنه يمثل الضحية الفلسطينية التي أتت لتشارك في إحياء ذكرى الضحايا النازية من شعوب مختلفة بمن فيهم ابناء الديانة اليهودية بصحبة سفير فلسطين وفي سيارة ترفع علم فلسطين.
وبعيدا عن الشكليات- رغم أهميتها- فقد كانت الرسالة التي نقلها الأخ محمد بركة إلى الجانب البولندي هي رسالة الواثق من عدالة قضية شعبه والمطالب بتقديم الدعم له حتى يتمكن هذا الشعب من بناء دولته المستقلة فوق ترابه الوطني، وهو موقف نعرفه عن الأخ محمد ورفاقه المناضلين، ولكنه موقف يصغي إليه البولنديون لأول مرة من إنسان يأتي من "واحة الدمقراطية" في الشرق الأوسط ليقدم المعلومات الدقيقة عما يتعرض له أولئك الذين تشبثوا بالأرض الفلسطينية ولم يرحلوا عنها، ويعطي تفاصيل التمييز العنصري الجائر الذي تمارسه حكومات إسرائيل المتعاقبة ضد أهلنا في الجليل والمثلث والنقب، رغم ادعائها أنهم مواطنون اسرائيليون يتمتعون بكل حقوق المواطنة، ورغم ثقل ما يحمله هذا الزائر من متاع الظلم والإستبداد اليومي فإنه لا ينسى أن يؤكد لمضيفيه البولنديين أن كل ما يتعرض له هو واخوته الصامدون في أرضهم من تمييز وظلم لن يجعلهم يتخلون عن مواقعهم في طليعة المناضلين من أجل تحقيق أهداف شعبنا في الحرية وإنهاء الإحتلال وترسيخ الإستقلال الوطني.
وفي موازاة ذلك كله كان الأخ محمد بركة يقول لمحاوريه: خذوا القمح الفلسطيني من هذه الحوصلة، و ساعدوا أحفاد ضحايا الأمس لكي يتفهموا أنهم آخر من يجوز له أن يشارك في إذاقة شعب آخر طعم الإضطهاد والظلم والقهر، لأن ذلك ببساطة يفقدهم إنسانيتهم.
وأما رسالته إلى بولندا و أوروبا عموما فهي أن الظلم هو الظلم بغض النظر عن مكانه ومصدره، ومن أراد أن يكون منصفا في التصدي لذلك الظلم فعليه أن يدرك أن الأولوية الآن هي لمساعدة شعبنا الفلسطيني في الانعتاق من قيود الإحتلال الأسرائيلي، وهي أكبر خدمة يمكن أن تقدمها أوروبا لنفسها وللانسانية كلها ولذكرى ضحايا المحرقة النازية.
#خليل_نزال (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟