كلام في اللقاء الجزء الثاني

بسام البغدادي

الحوار المتمدن-العدد: 2907 - 2010 / 2 / 4 - 16:12
المحور: الادب والفن
    

أنا الأول, وأنا الآخر , أنا البغي, وأنا القديسة , أنا الزوجة, وأنا العذراء , أنا آيار الألف و الياء عشيقة تموز اللاهب, هذا الانسان الغائب دوماً الذي لا يأتي أبداً الى مدينتي المفقودة في خارطة الزمن, المُحاصرة بذكورها و الغارقة في أنكسارها. تائهة أنا اليوم بين الاوهام التي لاتنتهي في عالم البشر المحيط بي جداً و البعيد عني جداً. أستيقضت هذا الصباح على صوت فيروز و رائحة القهوة السوداء المشبعة بحزننا الشرقي و الهيل المطحون. منذ عشرات السنين و صوت فيروز يصدح في هذا الشرق ورائحة القهوة تفوح كأنما هو أعلان مدفوع الثمن عن توقف الزمان و كل شيء هنا. فيروز, هذا الصوت القادم من أزلية بلا تأريخ و الغائر في قلوب تغرق بالهموم ناسجاً بين النقطتين صدىً للابدية.


بين صدى الابدية و رائحة القهوة في لحظات اليقضة الاولى الغارقة في صور هائمة مُختلطة بالواقع جرى نهر الحياة المقدس المتدفق من جوفي ليعلن بداية ربيع جديد في انتظار حنطة ذلك الذي لا يأتي أبداً. أنها تلك الاحلام المبللة التي تدفع مواسم جسدي في غير طبيعتها, أنها تلك الرشفات اللذيذة من كلماته المبللة التي تدفع بالحياة في داخلي الى مواعيد غريبة. على أمل اللقاء, تتعاقب المواسم, و المواعيد, و تزداد الهوة في داخلي, هذا الصدى المتردد في اعماقي, هذا الاشتياق و الحاجة كي اكون له هو وحده, كي أكون جسداً مرتعشاً بين يديه, طفلتهُ و عشيقتهُ و معبودته عندما تتوقف عقارب الساعة معلنة حلول الله.


رن جرس المحمول على غير عادته, هاتفي المحمول مُمتلئ حد الغيبوبة من رسائلهِ القصيرة الشبقة و الضاحكة و الاسطورية التي تحمل دائماً اسمهُ القدوس بين أرقامها. صوت راهب المطار بالطرف الآخر نطق ببعض الكلمات التي جعلت حيز النور و الظلمة يختلطان و تختفي جميع الابعاد حولي. قالت, رأيتهُ, أنه هنا, دخل قبل قليل, هو, نعم, هو. شعرتُ بالسقوط و الارتفاع في نفس الوقت. فتحة عميقة في الارض تجتذبني كأنها ثقب أسود, وفتحة من نور في السماء ترفعني, و انا بين الاثنين أتشضى الى ذكريات و أحلام و قُبل مُبللة قادمة من حياة أخرى لا أتذكرها جيداً. دفعت الغطاء عني و وقفت كانما في أيعاز لا اعلم مصدره, ثم جلست, ثم وقفت, ثم جلست, قدح الماء كان قد جف الى جواري, هرعت الى الحمام. في الحمام أقفلت الباب, نظرتُ الى المرآة و تذكرت المحمول الذي لازال في غرفة النوم. ركضت الى غرفة النوم و رجعت بالمحمول الى الحمام. بدأ الماء يجري بين اصابعي, وجهي, شعري, نعم.. شعري... كيف سأقابله و انا بهذا الشعر القبيح المهترئ. مجنون أحمق أنت يا تموز كيف تفاجأني بهذا الشكل, أرى وجهي في المرآة و شعري يرفع يافطة من يافطات الجنون و ملابسي تتحول الى قميص أبيض يشدني الى البكاء و الضحك, الى الجنون.


كلما زاد حجم المفاجأة كلما زادت غربتنا عن ردود أفعالنا و أقوالنا. كانها قرون طويلة تلك التي عشتها, هنا, في مدينتي التي توقفت فيها عقارب الساعات كلها. كل شئ غطته غبرة القلق الساكن على أجسادنا منذ دهور, الخوف من الحياة يدفعنا الى الموت, و الخوف من الموت يدفعنا الى الحب, و الخوف من الحب يدفعنا للبكاء لاننا لا نجد من نحبه بكل عنفوان الحياة و الموت و الولادة في نفس الوقت. لا أحب المفاجئات, أنا لم أعرف في حياتي الطويلة كلها مفاجأة واحدة, ليست من هذا النوع على أي حال. تموز, قد يكون الآن هنا فعلاً, لقد أتى أخيراً هذا الذي لا يأتي, جاء كي أرفعهُ الى سمائي و كي ينزلني الى ترابه المقدس, كي أقدسهُ و كي يباركني. لكن, لماذا لم يتصل بي بعد؟ مضت خمس ساعات و من المفروض أن يكون هو الآن هنا, في أي مكان حولي. ربما يقف خارج البيت و ينتظر ان أنظر اليه. لكن, لماذا لم يتصل بي هذا المجنون؟ أهرع للشباك, لا اعرف لماذا, أنظر من وراء الستارة, و أعود أقف أمام المرآة. يجب ان اكون جميلة, لا, هو لا يهتم بالجمال كثيراً, هو من قال هذا, أذن يجب ان اكون ذكية. لكن, كيف؟ أنه يعرفني أكثر مما أعرف نفسي. العمل, يجب أن آخذ أجازة, لا, لن أحصل على أجازة, سأقول بأنني مريضة. لن أكذب, فأنا فعلاً مريضة بهذا المجنون, بهذا تموز الذي لا يأتي, و الذي جاء اليوم هنا.


ماذا أفعل؟ لا شئ, لازلت متسمرة على الحائط كالمرآة أمام المرآة على الحائط الآخر و أشعر بكياني المهتز الذي أحاول تمالكه. فيروز قد صمتت منذ مدة و أصوات أخرى بدأت تخترق الصمت من خارج البيت. يجب أن أهدأ, لن أستطيع أن أقابله بهذا الحال, لا, ربما سابكي, و سيكرهني, لا, لن يكرهني, لكنني يجب ان اكون قوية. أريد أن أراه و ان أضمه و ان أذوق طعمه, أستنشق عطره و احتفظ في ذاكرتي بهذا العطر الى الابد. لكنهُ... لكنه لم يتصل بعد, ربما لا يقدر أن يتصل؟ لكنه وحيد الآن هنا, ربما لم يخرج من المطار بعد, لكن, الآن قد مضت خمس ساعات, و راهب المطار أكد بانه خرج من المطار. أعرف انه جاء لأجلي, من أجلي فقط و بأنه يكره كل شئ هنا, هو و أنا, نحن, أشبه بياسمينة بيضاء تنبت بين أرصفة شوارع مدينتي الحزينة و المزدحمة بكل الاشياء الرمادية و القاتمة, لا ننتمي الى هذه الصورة. أستجمع كل قواي, و اكبس الارقام التي ستوصلني اليه في هاتفي. بعد رنات عديدة, جاء صوت أمرأة تتحدث بلغة لا اعرفها, لاجواب. أين هو أذن. و لماذا لا يرد.


أرسلت رسالة قصيرة ارجوه فيها ان يحكي معي, أن يتصل او يرد علي. أنتظرت خمسة دقائق أمام المرآة, أنظر في جسدي المرتعش البارد الذي بدا أكبر عمراً الآن عندما جردته من ملابسه. لم يصلني أي رد, شعرت بان تفاصيل جسدي المتضخمة تهاجمني, أنهُ يكرهني حتماً, سيكرهني هو كذلك, جسدي لا ينتمي له و أنا لا أنتمي الى جسدي. يجب ان اكون جميلة, لكن, كيف, و لماذا, لتموز الذي لا اعرف سبباً لقدومه او عدم اتصاله بهِ؟ لكنني أريده, أرغب بهِ, أشتهيه يوم بعد يوم, حيث تتحول جميع الثواني و الدقائق الى لهثات صاعدة بأتجاه تلك اللحظات القصيرة عندما نتحول سوية الى جسدٌ يخترق اللحظة و تخترقه, جسد واحد يرتعش تحت ثقل الحياة ولا يشعر الا بالكينونة في عمق الزمن الذي توقف بيننا قبل ان تبدأ الابدية.


مضت ساعة الآن, دخلت غرفتي, نظرت من الشباك, شمس ساطعة, تماماً عكس ما توقعت, تماماً عكس ما كنت احلم به دائماً, كنت أحلم ان لقائنا سيكون في يوم ماطر, حيث سنلتقي على أحد الارصفة المُبللة و أعانقه عِناق طويل جداً و ندخل أحدى المقاهي الدافئة و نطبع قبلات مسروقة على شفاه بعض عندما لا ينظر الناس الينا. كل شئ قد جاء خطأ, كل شئ لا يطابق تلك النبؤآت التي طالما رأيتها في مخيلتي. أشعر بالنحول و الضعف, اشعر بحاجة شديدة للهروب و البكاء, أشعر بأنني مريضة و يجب ان انام كي أصحو من هذا الكابوس. لماذا لا يتصل بي, لماذا لا يأتي هذا الذي لا يأتي بعدما كان قد أتى؟ أتمدد في فراشي مرة أخرى, أضع الغطاء على راسي و أغرق في ظلمة أفكاري, أتخيله في غرفتي الآن, و أترك لخيالي اشباع جوع كل خلية في جسدي المرتجف خوفاً و المرتعش لذة و انتظاراً.


أريد أن أقول لك, أكرهك يا حبيبي, ولا أريد رؤيتك بعد الآن

#بسام_البغدادي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات