|
عامودا .. مدينة الأنفة والمعرفة
عبدالباسط سيدا
الحوار المتمدن-العدد: 2906 - 2010 / 2 / 3 - 18:53
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
تتمتع مدينة عامودة - على الرغم من كل ما تتعرض له من إهمال مبرمج مقصود- بمكانة خاصة بين المدن الكردية الأخرى في الجزيرة، إن لم نقل بين كل المدن الكردية في سورية. وهي مشهورة مذكورة لدى المتابعين العارفين في سائر أجزاء كردستان، وفي جميع المهاجر الكردية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم. فمن المعروف عن عامودة أنها مدينة الوعي القومي الكردي، ومدينة الثقافة والمثقفين بالمعنى الأوسع لهذين المصطلحين. فيها يتمازج الشعر مع الفن والفكر بميادينه المختلفة؛ ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فعامودة هي مدينة الخبرة الزراعية والصناعية والتجارية ضمن الحدود التي تتيحها الإمكانيات المادية المقننة، والسياسات الحكومية الثأرية. يتساءل الكثيرون في يومنا هذا - كما تساءل آخرون قبلهم- عن سر أو أسباب ظاهرة عامودة التي تظل وفق كل المقاييس مدينة فقيرة صغيرة، لا تحظى بأهمية سياحية أو جمالية طبيعية، فأبناؤها يحرصون حتى يومنا هذا على التوجه نحو عين ديور أو سركي كاني (رأس العين) حيث الماء والشجر بغية الاستمتاع بما يفتقرون إليه في بيئتهم. كما أن الظروف المعيشية الصعبة المتفاعلة مع السياسة الحكومية قد أجبرت باستمرار أبناء عامودة على الرحيل والانتشار سواء في المدن السورية أم في المنافي القريبة منها والبعيدة، هذا على الرغم من تعلقهم الشديد بمدينتهم، وحبهم الاستثنائي لها، ومتابعتهم لأخبار أهلها وطرائفهم التي تنبع من معين لا ينضب. ونحن هنا لا نزعم بأننا نتملك الجواب السحري لكل التساؤلات التي طُرحت- أو تطرح- بشأن عامودة، لكننا سنحاول - كما حاول غيرنا- تقديم التفسيرات التي نعتقد بأنها تلقي بعض الضوء على ما أسميناه بظاهرة عامودة. يعود تاريخ عامودة الحديث بموجب التقديرات والمعطيات المتوفرة راهناً إلى أواسط القرن الثامن عشر، وذلك حينما توجه بركو - الصيغة الكردية لاسم بركات- من ﮒري عامودي (تل عامودة) -الذي يقع حاليا في الجانب التركي من الحدود التي قطعت أوصال الجزيرة في عشرينات القرن الماضي- ليبني أول بيت في عامودة الحالية بناء على تعليمات إسماعيل آغا الدقوري (الجد السادس لآل الدقوري زعماء عشيرة الدقوري – دقورا الذين ما زالوا يقيمون بصورة أساسية في عامودة) ، وذلك ليتمكن من إنشاء مزرعة للخضروات. ومع مرور الوقت تحرك أبناء عشيرة الدقورا الذين كان يسكنون على التل وحوله - المسافة بين التل وعامودة الحالية هي في حدود ثلاثة كيلومترات- نحو الموقع الجديد الذي استقطب لاحقاً السكان من المناطق المجاورة لتتحول عامودة فيما بعد إلى قرية كبيرة تمتلك طموحاً مدينياً. كانت عامود تابعة - شانها في ذلك شأن المنطقة كلها- للحكم العثماني الذي يبدو أنه لم يكن يتدخل في تفصيلات حياة الناس، ولم يكن يلزمهم بالتحدث بالتركية، وهذا جلي من خلو عامودة خلال المرحلة العثمانية الطويلة من أية قوة للشرطة أو العسكر.الأمر الذي فتح المجال أمام الآغا ليكون هو المسؤول التنفيذي الأول. يدير شؤون البلدة - إذا صح التعبير- يتابع تحركات الجيران، ينظم عمليات الدفاع عنها لصد هجمات بدو الصحراء الذين كانوا يطمعون في خيرات السكان المستقرين في الميدانين الزراعي والحيواني. ومع ترسيم الحدود بين تركيا وفرنسا في عشرينات القرن الماضي، كانت عامودة البلدة الكردية الوحيدة التي ظلت في الجانب السوري في حين أن البلدات والمدن الأخرى (مثل جزيرة ونصيبين ودربا سية وسري كاني ورها وكلس) أصبحت في الجانب التركي، الأمر الذي أدى بسلطة الانتداب الفرنسية إلى البحث عن مراكز جديدة تعوض عن تلك التي باتت في عهدة تركيا. ومن هنا ظهرت عين ديور ومن ثم ديريك والقامشلي والدرباسية السورية و سري كانيي (رأس العين) السورية، إلى جانب كوباني (عين العرب) وعفرين وغيرها من البلدات الكردية في المناطق الحدودية المحاذية لتركية. كانت عاموده في ذلك الحين مستقرة يشرف عليها الآغا كما أسلفنا إلى جانب إمام المسجد الذي كان يمثل السلطة القضائية. وقد ازدادت حجما نتيجة نزوح سكان المناطق المحيطة بها بفعل ظروف الحرب وتداعياتها. وما أضفى خصوصية استثنائية على عامودة مقارنة بغيرها هو أن الآغا كان عليه أن يوائم بين مصلحة العشيرة ومتطلبات بوادر تكّون المجتمع المديني إذا صح التعبير؛ إذ أن عامودة في ذلك الحين كانت قد فارقت إطار القرية، لكنها لم تكن قد تحولت إلى مدينة بعد، وفي نطاق جهود الموائمة تلك كان على الآغا أن يمنح أبناء العشيرة والبلدة المزيد من الحريات خاصة في ميدان حيازة الأرض والمراعي؛ لم يتدخل بتفصيلات حياتهم اليومية، ولم يمارس الظلم والتعسف معهم، بل كان حريصاً على إشراك الحكماء في المشاورات والقرارات، واحترم آراءهم، وكل ذلك أدى إلى بروز ما يمكن تسميته بالاعتزاز العامودي إذا جاز التعبير. وفي هذه المناخات كان من الطبيعي أن يعبر الناس عن آ رائهم بحرية وصدق، فتكون لديهم ما يمكن اعتباره صيغة من صيغ الذكاء الفطري التي تجسدت غالباً في الطرائف والأسلوب الساخر المعبر في الحديث الذي يتميز به أهل عامودة. إلى جانب ما تقدّم لابد لأي سعي جاد يبغي فهم الخلفية الكامنة وراء الظاهرة العامودية أن يأخذ بعين الاعتبار الدور الهام الذي أدته "الحجرة" في عامودة، والمقصود بهذه الأخيرة تلك الغرفة التي كانت قد خصصت لتعليم الطلبة علوم الفقه والشريعة، إلى جانب علوم النحو والصرف والبلاغة والمنطق والفلك وغيرها من التي كان على الطالب (وكان يسمى فقه) أن يدرسها ليحصل في نهاية المطاف على الإجازة في العلوم الفقهية واللغوية، ويصبح ملا (لقب علمي لا وراثي) في مقدروه أن يحكم بين الناس ويوجههم في شؤون دينهم وحتى دنياهم. ونظام الحجرة هذا كان معروفا في مختلف أنحاء كردستان خلال المرحلة العثمانية، وذلك في ظل غياب الجامعات من جهة، ووجود حاجة ماسة إلى العلم ونزوع كبير نحوه من جهة ثانية. ويبدو أن كل حجرة من الحجرات المعنية كانت مشهورة بجانب من الجوانب المعرفية التي لابد أن يحصّلها الطالب في طريقه نحو نيل الإجازة. كما ان التواصل بين الحجرات كان قائما، وكانت الأخبار تنتقل من منطقة إلى أخرى بفعل تنقّل الطلاب بين مختلف الحجرات، وكل ذلك أدى إلى قيام نوع من التواصل بين المناطق الكردية المختلفة. وهذا فحواه أن الحجرة أدت باستمرار دوريا تنويرياً وتثقيفياً في مجال نشر الوعي القومي والثقافي العام. أما بالنسبة إلى حجرة عامودة موضوع البحث هنا، فقد تأسست في عام 1920 من قبل ملا عبيدالله جانكير قاسم الذي كان يلقب بـ سيدا أو سيدايي مزن (الأستاذ الكبير) الذي كان قد نزح بفعل الحرب العالمية الأولى إلى قرية داري حيث كان يدّرس في حجرتها؛ ومن ثم اقترح عليه لفيف من سكان عامودة في مقدمتهم المرحوم حاج يوسف كرّو الانتقال إلى عامودة باعتبارها اكبر وأكثر حاجة، فوافق على الفكرة شرط افتتاح حجرة لتدريس الطلبة، وذلك انسجاماً مع توجهه الدائم الذي كان يكرره على مسامع زائريه قائلاً: إن كل فقه (أي طالب في الحجرة) يساوي أكثر من مائة صوفي (مريد تابع لأحد الشيوخ). وافق أهل عامودة على الموضوع وتكفلوا مسألة تأمين مستلزمات الطلبة من مأوى ومأكل وملبس. ومع مرور الوقت غدت حجرة عامودة قبلة الطلبة من مختلف أنحاء كردستان، درس فيها العديد من الذي غدوا لاحقاً رواد العمل القومي الكردي، كما برز الكثير من طلبتها في ميادين الفقه والشعر والأدب، ومن بين ابرز طلابها نذكر هنا: ملا إبراهيم صوفي عبدو، ملا عبدا للطيف إبراهيم (سيدا), ملا شيخموس حساري (جكرخوين)، ملا عبدا لحليم ملا إسماعيل، ملا علي توبز، ملا شيخموس قرقاتي، ملا سرّي.... وغيرهم... كانت الحجرة نقطة تحول كبرى في حياة بلدة عامودة، ولا غرابة في ذلك فقد كانت بمثابة كلية جامعية تخرج الطلبة وتحافظ على أواصر التواصل مع الخريجين ومع رواد الفكر القومي في ذلك الحين خاصة أعضاء خويبون، وباتت عامودة مع الوقت قبلة القوميين والمثقفين، واستمرت الحجرة تلك في نشاطها حتى بعد وفاة ملا عبيدا لله عام 1929، إذ تسلّم مهام مسؤولية التدريس فيها بعد وفاته شقيقه ملا فتح الله ثم ملا عبدا للطيف إبراهيم (ولقب هو الآخر بسيدا)، وتوقفت عن العمل في أواخر ستينات القرن المنصرم. ونتيجة لمكانة عامودة الخاصة في ذلك الحين قررت خويبون افتتاح نادي للشباب الكرد في عامودة عام 1938 بإدارة المرحوم محمد على شيخموس (شويش) وقد أخذ هذا النادي على عاتقه مهمة تعليم الطلاب اللغة الكردية، ولأول مرة شاهد الناس في شوارع عامودة طلبة المدارس بزيهم الموحد، هؤلاء الذي كان يأخذون الدروس على المقاعد ويكتبون على اللوح الأسود وكل هذه الأمور كانت من الأمور الجديدة على عامودة وغيرها من المدن الكردية في الجزيرة. وقد رسخت هذه التوجهات والأجواء قناعة لدى أهالي عامودة بأن طريق الخلاص بالنسبة لهم يتمثل في العلم والمعرفة بعد أن لمسوا النتائج وشعورا بالفارق الكبير بين الجاهل والمتعلم. لذلك كان العامودي يفكر دائما في تعليم الأولاد قبل أي شيء آخر. يبخل على نفسه، يقلل من اللقمة لكنه يحرص على تعليم ابنه أو ابنته، وكل ذلك أعطى نتائجه المرجوة على الرغم من المصائب والسياسات التمييزية التي اعتمدتها الحكومات السورية المتعقبة إزاء الكرد. ومن بين المصائب التي تعرضت لها عامودة وما زالت تعاني من آثارها نشير هنا إلى حادثة سينما عامودة في 13-11-1960، تلك الحادثة التي لم تُعرف أسبابها بعد، وما زالت السلطات مصرّة على عدم إجراء أي تحقيق محايد شفاف حولها، ليصل الناس بعد مرور نصف قرن تقريبا على استشهاد أبنائهم إلى تفسير معقول يبّين لهم لماذا وقع ما وقع، و يُعد ذلك جزءاً يسيراً من حقهم الأدبي على الأقل، هذا ناهيك عن الحقوقي. لقد فقدت مدينة عامود في تلك الحادثة الأليمة حوالي 200 طالب من أبنائها البررة وهم في ريعان الصبا، أعمار معظمهم كانت تتراوح مابين 7 إلى 15 ، كانت النتائج كارثية، وكان الوقع ايلامياً على الأمهات والآباء والأهل والجيران، حتى أنه بات مفصلاً يؤرخ به أهالي عامودة تاريخهم المعاصر: قبل السينما وبعد السينما. لكن اليأس لم يشهد طريقه إلى إرادة الناس، بل دفعتهم المحنة نحو المزيد من التصميم، فكان الإقبال على المعرفة لافتاً، وكانت النتائج واعدة وعلى مختلف الصعد، هذا على الرغم من التقييدات والمضايقات الحكومية، التي أدركت خطورة دور المدرسة، فأصرت على تبعيثها، ووضعت العراقيل أمام الطلبة الكرد بغية منعهم من متابعة دراساتهم الجامعية، حرمتهم من البعثات الدراسية الداخلية منها أو الخارجية، أغلقت أبواب العمل أمام الخريجين، لكن كل ذلك لم يحد من عزيمة أنباء عامودة وإصرارهم على العلم والمعرفة، وإبداعهم الثقافي، وإخلاصهم في العمل القومي دفاعا عن حقوق شعبهم المغلوب على أمره؛ ومن هنا كان الانتقام الذي تتعرض له عامودة، خاصة بعد انتفاضة الثاني عشر من آذار 2004؛ فالمدينة تعيش راهناً وضعاً مأساويا شمولياً ، تبكي أبناءها المغادرين، تثير التعاطف من جانب الزائرين، لكنها مع كل هذا وذاك شامخة بكبريائها، عزيزة بتاريخها وحاضرها، تضمد جراحها انتظاراً لربيع آت.
#عبدالباسط_سيدا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تركيا: المحكمة الدستورية في مواجهة الحكومة الشرعية
-
سورية: النجاح الخارجي مقابل القمع الداخلي
-
حل المسألة الكردية في تركيا .. استحقاق كبير
...
-
موقع السحر من العلم في بلاد ما بين النهرين
-
ما هي الأسطورة: دراسة في المصطلح 2/2
-
سورية: المشروع الوطني هو الحل
-
ما هي الأسطورة؟
-
الحرية للكاتب فاروق حاج مصطفى وسائر سجناء الضمير في سورية
-
جائزة أوصمان صبري ومعاناة الشعب الكردي في سورية
-
انتفاضة قامشلي المباركة في ذكراها الخامسة
-
كمال مظهر باحث أصيل متجدد 2/2
-
كمال مظهر باحث أصيل متجدد 1/2
-
غزة: تأملات في مرحلة ما بعد العدوان
-
تركيا بين التمزّق الداخلي والهاجس الإقليمي
-
الشرق الأوسط: معادلات الراهن واحتمالات المستقبل -3
-
الشرق الأوسط: معادلات الراهن واحتمالات المستقبل -2
-
1-الشرق الأوسط: معادلات الراهن واحتمالات المستقبل
-
محاكمة نظام صدام في أجواء صدمة الإعدام
-
اللهاث خلف السراب تكتيك سئمناه
-
جهود مستمرة في مواجهة مأساة مستمرة
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
الانسان في فجر الحضارة
/ مالك ابوعليا
-
مسألة أصل ثقافات العصر الحجري في شمال القسم الأوروبي من الات
...
/ مالك ابوعليا
-
مسرح الطفل وفنتازيا التكوين المعرفي بين الخيال الاسترجاعي وا
...
/ أبو الحسن سلام
-
تاريخ البشرية القديم
/ مالك ابوعليا
-
تراث بحزاني النسخة الاخيرة
/ ممتاز حسين خلو
-
فى الأسطورة العرقية اليهودية
/ سعيد العليمى
-
غورباتشوف والانهيار السوفيتي
/ دلير زنكنة
-
الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة
/ نايف سلوم
-
الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية
/ زينب محمد عبد الرحيم
-
عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر
/ أحمد رباص
المزيد.....
|