كلام في اللقاء الجزء الاول

بسام البغدادي

الحوار المتمدن-العدد: 2906 - 2010 / 2 / 3 - 01:58
المحور: الادب والفن
    

لم تكن الوجوه التي رأيتها اليوم هي نفسها الوجوه التي كنت معتاداً عليها كل يوم. لم تكن وجوه الموظفين الذين ودعوني في مطار ستوكهولم يوم أمس و الموظفين التعساء في المطار الذي أنا فيه اليوم تحمل نفس النظرة. بشكل ما, لا أعرف سببه تبدو النظرات ظائعة, و الصمت ملموساً في كل ما يقولونه. أشعر بشدة الضغط (الجوي ربما) رغم أرتفاع درجات الحرارة كلما أقتربنا من خطوط أستوائنا و خفة الهواء فيه. أشعر و أستنطق هذا الصمت في وجوههم كساحر حاذق يعرف كيف يستنطق الاشياء. و تتحدث تلك الوجوه بما لا تريد, و تتحدث تلك الاوراق, و الرشاوي, و الطوابع العبثية و التواقيع السخيفة و الاختام التافهة على اوراقي. و تتحدث نظرات هؤلاء الرجال بزيهم العسكري و مسدساتهم السوداء المعلقة على خصر كل واحد منهم و الذي كما يبدو يضيف شيئاً ما الى رجولتهم المهانة و المسحوقة تحت ثقل الصورة المعلقة خلفهم.

شخص آخر بزي عسكري, و آه من تلك العسكرة في كل شئ التي تعشقها تلك البلدان, يقترب هذا الشخص من هذا الطابور اللانظامي الذي بدأ بالتشكل امام شباك صغير جداً. أقترب هذا الشخص يحاول أبتزاز أي كلمة من اي شخص منا بالتحية باللغة التي كما يبدو انها الوحيدة التي يعرفها. (حمدللهعلسلاما) دون ان يبدي اي شخص من هذا الطابور الطويل الذي اقف فيه أي اهتمام, شعرت بالشفقة على هذا المسكين, فرددت التحية بأدب كما تعودت على أن اردها في المطار الذي تركته يوم أمس. توقف برهة, نظر الى أوراق سفري المهيئاة في يدي و قال لي بانه سيساعدني لانني كما يبدو(من جماعتنا), و اقتادني, كخروف ضائع, الى شباك آخر بعد أن سلب مني اوراقي و جوازي. لكنني بشكل ما فهمت انها احدى تلك الثورات الصغيرة التي يطمح لها كل من نجح في الدخول الى هذا الهرم العسكراتي من اجل ان يجمع اكبر قدر ممكن من الـ(الاكراميات البسيطة) قبل ان يتم سحقه مع غيره و يحل أحد غيره بواسطة أقوى محله.

أن تتحدث لغة الدولة التي أنت فيها, و تحمل جواز دولة تبدو و كأنها بشكل ما و لسبب غير معلوم معادية للمسكين الجالس خلف الشباك الصغير هذا و الذي يحمل افكار و عقائد سياسية و دينية لا ذنب له فيها الا حظه العاثر بوجوده في المكان الذي هو فيه, يعني انك يجب ان تدفع كي تكون صديقاً, ولو لفترة اسبوع واحد. ثم أنك يجب ان تدفع للشخص الذي أقتادك لهذا الشخص و الذي أكتشف (فجأة) بأن هذا العدو المتخيل في اعماق افكاره اللاسياسية و اللادينية. و يجب ان تدفع للشخص الذي يحمل حقيبتك غصباً عنك. و يجب ان تدفع لكل من يحمل زي عسكري سيقابلك حتى تخرج من باب المطار الذي صار اشبه بخليط بين السجن لي و الحانة لكل المدخنين و دار دعارة لكل الجالسين خلف الشباك و المتقاضين ثمن قوادتهم بسخاء, بل و برجاء منا بعض الاحيان.

كل خلية في جسدي تصرخ باللاأنتماء لهذا المكان, لهذه الصورة المعلقة في كل مكان, لهذه الشعارات السخيفة التي تملأ كل الجدران. لهذه الاقوال الزائفة عن الوطنية و عن المعركة المقدسة الازلية مع العدو الازلي و عن الصمود الازلي تحت بصطال القائد الضرورة. أشعر باللاأنتماء لهذه الشوارع التي تملأها الاتربة و لهذه المحلات التي فقدت ذاكرتها فيما لو كانت محلات جديدة يوماً ما. أشعر بالحزن العميق لكل تلك الوجوه التي أراها و المحملة بأطنان من الهموم المجهولة و المبتسمة أبتسامة حزينة متكلفة تزيد من مساحة حزنها العميق على كل هذا الزمن العبثي التي تعيشه و يعيشها و تنتهكه و ينتهكها و تهرب منه و يهرب منها. بين هذه الوجوه التي سكن غبار الايام بين تجاعيدها أبحث عن وجه واحد, لكنني.. لا اجده.

هناك تعويذة سحرية تقوم بأستحضار كبير الآلهة الذكور, الله, لو رددناها مع توفير كل اللوازم لحضوره فهو مجبر على الحضور بحكم القانون السماوي الذي يفرض عليه التواجد عند ترديد هذه الكلمات بهذا الترتيب المذكور في كتاب لن أفصح عنه. وفي هاتفي الشخصي, هناك رقم واحد, بضغطة واحدة و سأكون وجهاً لوجه مع كبيرة الآلهة الاناث. السوآل هو, أن كان من السهل أستحضار الله و التحدث معه حول البشرية و الكون و الخلق, فمن الصعب, أستحضار عشتار بهذه السهولة. الوقوف أمام الله شئ و الوقوف أمام عشتار شئ ثاني. الله الذي خلق بعض الاشياء مجبر على لقائنا شاء أم أبى, ولا خيار له. لكن.. عشتار, هي قلقنا المتجسد في جميع أحلامنا, هي تلك الجنة التي دخولها يعني غفران جميع الاحزان و الآلام و الخطايا. عشتار هي بداية التأريخ و الانفجار الشخصي العظيم في داخل كل واحد منا حيث تختفي الكينونة الماضية عن الوجود. الخوف من فقدان عشتار بسبب هفوة صغيرة او رغبة مستعجلة لا قعر لها يدفعني للتفكير مليون مرة.. قبل ان أضغط هذا الرقم الصغير جداً في هاتفي الحديث جداً.

فهل سأجرؤ على أستحضار عشتار اليوم؟

#بسام_البغدادي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات