|
الذكرى الأولى لصعود الأديب فتحي سعد
انتصار عبد المنعم
الحوار المتمدن-العدد: 2903 - 2010 / 1 / 30 - 22:54
المحور:
الادب والفن
فتحي سعد و الخروج من زاوية العتمة أخيرا!! فتحي سعد ؛ صوت جنوبي رحل سريعا كأغلب الأصوات المترعة بعبق الأسطورة ورحيق الأصالة . عاش يستحضر إيزيس في أعماله ، يحلم بها تلملم تشظياته المتعددة . يراها تركض في خلايا جسده تقاسمه أحلامه المشنوقة ، تجلس معه على مقاهي الحزن ، يرى فيها وجهه المشرق في اكتمال القمر . يراها قارئة فنجان تكشف له ما وراء الحجب ، تفصله عن العوالم المكتظة بالإزدواجية وإن لم يكن هناك مفر غير الجنون الذي وجد فيه أحيانا البدائل المنطقية لحيوات تغص باللامنطقية. كتب فتحي سعد القصة القصيرة بأسلوب متفرد جمع فيه الحياة والعدم جنبا إلى جنب ، في علاقة تجاور لا في حالة صراع كما هو معتاد . أراد سلاما لم يجده في الواقع فلجأ لإشكالية الموت والحياة ، النور والظلام ؛ محاولا إيجاد نوع من التعايش بينهما . حاول إيجاد حالة تعادل موضوعي بين الأضاد تمكن الكائن البشري من الوصول لشفافية يسمو بها على الواقع المتازم دون بارقة أمل في حل قريب . ربما كانت لديه حالة لا وعي عليا أو وعي مقصود يحاول فيها تبئير فكرة قبول الآخر المختلف تماما في الكينونة . تناول فتحي سعد في كتاباته فكرة الموت الذي كان يستشرف نسائمه في جو أسطوري استمد طقوسه من الموروث الثقافي المترع بالحكايا ، ومن أقبية الأديرة التي عرف فيها روعة البهاء الروحاني ؛ بحيث لم يكن يفرق بين مولد العذراء ومولد سيدي عبد الرحيم القنائي فيما يستلهمه من صور وأفكار ينسج بها وحولها عالمه السردي ، الذي جاء ليعكس البيئة الجنوبية التي عايشها مستنشقا ميراث الأسطورة ومسترجعا طفولته على شط القناة ، وما مر به من خبرات حياتية كان علقمها أكثر من حلوها . تميز باسلوب غير مباشر في الكتابة ، مزج فيه كل تلك الخبرات الحياتية مع موروثه الثقافي في اللاوعي ليخرج لنا قصة لا تشير إلى الواقع أو الحقيقة مباشرة ؛ بل إلى عالم رمزي ميتافيزيقي لا تحكمه حدود؛ تماما مثل عالم الأحلام الشاسع . فجاء فعل الكتابة لديه كنوع من حلم طويل يمارسه بكل طقوسة الغرائبية على الورق ، محاولا اختراق حواجز العجز والفشل التي كانت تفرض نفسها على فتحي سعد الإنسان و الأديب وهو يرى الحالة المتردية للواقع الراهن بين نزاعات داخلية وعربية ، في تعليق له منشور على الإنترنت يقول : (أما كيف أعيش على المستوى العام ؟ فهذا ما يقلقنى ، يزعجنى ، يربكنى ، ويذبحنى هماً ، وكمداً ، لأننا كلنا أبناء هم واحد . أبناء خيبات تتسكع فى أوطاننا بنطاعة ، وبلادة ، فلم يبق لنا سوى الجنوح صوب الجنون ، الجنون اللذيذ ، كفعل نمارسه دونما أن يتلصص علينا عملاء أوطاننا الخونة ، الذين قايضوا ملكوت الرب ، بخيمة الذل ، ونفط العار))). في مجموعاته ( رائحة المساء)، و (صخب العتمة) ، (مرايا الرحيل) وفي باقي قصصه المتفرقة التي لم تشملها مجموعة ، عمل جاهدا على تضفير الواقع بالحلم للوصول إلى " الواقع المطلق أو المكتمل " كما أسماه أندريه بريتون. خالف فتحي سعد (فرويد ) الذي تحدث عن (سيناريو الحلم)، الذي يقوم الحالم فيه بإعادة تركيب محتويات الحلم ليخرجها على شكل قصة قريبة الى الواقع، وليس الى الحقيقة الموجودة في اللاوعي . فجاءت قصص فتحي لتفعل العكس تماما ؛ تأخذ الواقع لتجعله قريبا من الحلم وتبقى الحياة كحلم دائم قصير كما قال هو يوما : ((هذا أنا ببساطة شديدة ، لا أحمل فى قلبى إلا كل الحب الأبيض للآخرين ، حتى لو ذبحت فى كــربـــلاء ، لأنى أؤمن بأن الحياة تشبه حلماً قصيراً جداً ، ماذا يا صديقى لو عشت هذا الحلم وأنا أقدم للآخرين أطواق الفل ، دونما أن أنتظر ماذا يقدمون لى . أنا أعيش حياتى على المستوى الخاص بشكل جميل ، وحميم ، ومتصالح مع نفسى ، وبالتالى مع الآخرين ، أعيش السلام الداخلى .)
حالة المصالحة مع النفس ، وما قابلها من احباطات خارجية ، عززت لديه تلك الحالة من الخيال الدائم ،فلم يعد هناك حاجز بين المعقول واللامعقول، بين النوم واليقظة . وكما كان في نتاجه الأدبي ،كان حديثه العادي مترعا بالرمز . سألته يوما ، ماذا فعلت بالأمس ؟ فأجاب بكل بساطة : صافحت كل الذين أحبهم فى مخيلتى الجامحة إلى عوالم غير روتينية ثم دعوتهم لأحتساء الفودكا عند نهر الكوثر. وكما كانت حياته سلسلة من المعاناة دون أن يشكو ، دون تصريح وبوح ، جاءت قصصه هكذا لا تمنح نفسها بسهولة ، على القارئ دوما أن يستحضر معلوماته وخبراته ليفهم أولا ،ثم ليسأل ماذا أراد المؤلف من هذه القصة ، وعندما لا يجد إجابة ، يسقطها على حياته هو ، وفي النهاية يتحول القارئ إلى قارئ متفاعل ويتوارى المؤلف ، بل يموت المؤلف ليظهر القارئ الذي أراده فتحي سعد والذي أراده من قبل رولان بارت في كتابه (موت المؤلف) The death of the Author. هذا القارئ الذي يعيد كتابة النص في ذهنه وفق خارطته الذهنية الشخصية غير محكوم بسلطة الكاتب الأصلي للعمل الأدبي . الفضاء اللغوي الذي تحرك فيه فتحي سعد كان فضاء تشكيليا تصويريا ، له لون وطعم ورائحة . كان فضاء يضج بالحياة محتفيا بها أشد الإحتفاء راسما الربيع والزهور والفل والياسمين والحدائق ، وفي نفس الوقت وفي نفس الفضاء المكاني يحتفي أيضا بالموت كموجود دائم يبسط جناحيه على الوجود ، مستخدما مفردات تدل عليه مثل الصمت ، شتاء غاضب ، أحلام مشنوقة ، أو كلمة العتمة التي تتكرر كثيرا في قصصه وأحيانا مرات عديدة في قصة واحدة . كانت ليه مقدرة هائلة لخلق جمل وصفية غير معقولة مبهرة في جمعه أضاد معا ، أو في تشكيل صور غير مألوفة . ففي القصة الواحدة تجيء المفردات متناوبة المرور على حدائق الورد الصارخ بعبق الحياة تارة، وتارة أخرى تمر بحواف موت يستشعره . في قصة (قلب صغير مفتون بالفل) نجد مفردات مثل ( تابوت .موت إغفاءة. عتمة) والعديد من المفردات الأخرى التي تحيل إلى الفناء وانحباس الروح ، ثم نجد ما يوازيها من مفردات تحيل إلى الخلود والبهجة والحياة المتجددة مثل ( زهور الياسمين ، قوس قزح ، فراشات ، فروع السيسبان ، اوراق البنفسج ، القطن). وفي "بيوت ثكلى" نجد ( مساء بارد،مكفنا ، كوابيس ،العتمة ،غيوم ، اوجاع ) وفي المقابل (زقزقة العصافير ، ازهار الروح ، ازهار الليمون ، القرنفل ، الياسمين ) . وفي "شهقة" نجد (توابيت، الموتى، جثة الصمت،مساءات،حزينة ) وفي المقابل ( اضاءة ، مصابيح ، ضحكات ، بتلات ) ويتكرر نفس التكنيك ، في التجاور اللغوي للأضاد ، ونفس المفردات تقريبا في قصص مثل "ذاكرة الثغاء ثكلى" و "شعاع ضوء في زقاق معتم"، و"رائحة الصمت"و "الصبار ينمو في مرايا الروح" وغيرهم . كان هذه عبور عابر على عالم فتحي سعد ، عبور ألقي فيه تحية الوداع على فتحي سعد الذي رحل عنا فجأة وهو في الأربعينيات من عمره دون أن يعطي أحدا الفرصة لوداعه أو القلق على صحته أو حتى السؤال عن أحواله . رحل سريعا ، عابرا حاجز العتمة إلى براح النور السرمدي . ربما يلتقي إيزيس فتلملمه مرة أخرى وتعيده متوجا ملكا على مملكة الفل والياسمين .
انتصار عبد المنعم مجلة أكتوبر العدد1699
#انتصار_عبد_المنعم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
«الجنوبى» الباحث عن الحقيقة
-
قلب «جاذبية صدقى» الذهبى
-
الكتابة للطفل وعنه
-
الإسكندرية تتنفس شعرا
-
أدباء العرب ونظرية المؤامرة
-
نحن أولاد الغجر
-
عن البهجة والكآبة
-
«ماركيز».. دروس فن الحياة
-
الثقافة المفهوم.. والأزمة
-
ادكو..من الكانو إلى نوكيا!!
-
سأحدثكم عن ندا
-
علاء الأسواني ودوق داركور!!
-
-الصرخة-مابين كرم النجار وأم الرجال!!
-
مشايخ الإنترنت!!!
-
التسكع الرقمي
-
قلب الكاوبوي لا يتسع لأسودين!!
-
قاسم أمين ... ديور وشانيل !!
-
مأزق أحمر!!!!
-
سبعون جلدة وعشرون يوما حبس لمن يطالب بحقه
-
وثائق
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|