|
تذكير المؤنث (دراسة نقدية في الخطاب الشعري )
سلمان ع الحبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2892 - 2010 / 1 / 18 - 09:18
المحور:
الادب والفن
ليست اللغة إلا وعاءً فكرياً وثقافياً ، يمكن من خلاله أن نقف على فكر وثقافة مجتمع ما ،بكل معطياته وإيديولوجياته . ومن هذا المنطلق أردنا أن نمعن النظر في مسألة لغوية تحمل بعداً ثقافياً يحتاج منّا إلى إيضاح حقيقي ، وهي مسألة " تذكير المؤنث " . لقد اعتاد كثير من الشعراء العرب ولا سيما في العصر العباسي وما بعده ، أن يخاطبوا المرأة في شعر الغزل بلفظ المذكّر وأصبحت الضمائر والألفاظ الموجهة للمرأة مذكرةً، حتى استمرّ هذا النهج إلى عصرنا الحديث على سبيل المجاراة والتقليد وتوارثناه جيلاً بعد جيل ، دون أن نحاول التفكير في دوافعه التي تكمن وراءه ، بل أصبح الشعراء في وقتنا الراهن يتداولون هذا النهج بشكل اعتيادي مألوف وليس فيه ما يدعوهم للتأمّل والتحقيق والتدقيق . وإذا أردنا أن نكشف النقاب عن هذه الظاهرة اللغوية ، وأن ننقّب في حقيقتها ، فإننا سنجد أن هنالك بعداً ثقافياً محدّداً ، يقبع وراء هذه الظاهرة اللغوية ، يتمثّل في ( السلطة الذكورية ) التي أعطت الرجل القوامة حتى في اللغة ، وهنالك قاعدة نحوية تؤيد ذلك ، وهي أن الخطاب إذا كان موجهاً لمجموعة من الرجال والنساء ، فإنّ هذا الخطاب يكون بلفظ المذكر حتى لو كان الحاضر رجلاً واحداً بين حشود من النساء . إنّ الخطاب اللغوي مبني على ثقافة إقصاء المرأة باعتبارها عضواً فاعلاً يساهم في بناء المجتمع ورقيه ، لتكون وراء الحجب لا حقّ لها في أن تظهر للوجود أو أن تساهم في مشاركة الرجل حقها الإنساني الذي تتساوى فيه معه فيما يتعلّق بالحقوق والواجبات الإنسانية . لقد كانت المرأة في العصور المتقدّمة عند العرب محتقرة ذليلة وهي أقل شأناً من الرجل ، وهذا ما أدّى بهم إلى ظاهرة (وأد البنات) ، وقد أظهر القرآن نظرة الرجل للمرأة بقوله : "وإذا بشّر أحدهم بالأنثى ظلّ وجهه مسودّاً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بُشّر به ، أيمسكه على هُونٍ أم يدسّه في التراب ، ألا ساء ما يحكمون).وهذه الثقافة ظلّت مستعرة بنيران النظرة الدونية للأنثى حتى أصبحت المرأة أو البنت عاراً أو إثماً لا يحتمله العربيّ بل أصبح هذا العربي يعيب إلهه بأنه اصطفى البنات ، وقد ورد في القرآن قوله : ( فاستفتِهم ألربك البنات ولهم البنون * أم خلقنا الملائكة إناثاً وهم شاهدون ) . وهكذا عاش العربي محتقراً للمرأة ، ناقماً عليها ، محاولاً التخلص منها بدفنها حية كيلا تلحق به العار المحتّم ، واستمرّّ ت هذه النظرة الدونية حتى في العهد الإسلامي ، رغم أنّ الإسلام حرّم وأد البنات إلا أن المرأة لا تزال تئن تحت وطأة الازدراء الذي يجعلها كائناً غريباً أو جنساً أقل شأناً من الجنس الذكوري ؛ لذا وصفت بأنها ضلع اعوج ،وبأنها ناقصة عقل ودين وبأنها عورة وهي بكل تلك النعوت ليست إلا مخلوقاً دونياً يجب أن يرضخ لسلطة الرجل الذي يمتلك القوة والجبروت وكل المؤهلات التي تجعله سيداً مطاعاً لا تمتلك المرأة أمامه إلا الخضوع والإذعان . إنها عبودية من نوع آخر ، عبودية مبنية على جنس الإنسان ، وهو تصنيف لا يزال المجتمع العربي في عصرنا الحديث يتعامل به ويمارسه باعتباره حقاً شرعياً حيناً ، وحيناً آخر يمارسه لإثبات السلطة الذكورية وقوة الفحولة التي تجعله السيد المطاع . لا زالت المرأة في وقتنا الراهن تقبع وراء جدران من حديد ، ولا تزال مكبلة اليدين والرجلين ، لا حيلة لها سوى أن يفرج عنها السيد الفحل ، وهو بهذا لا يختلف عن العربي القديم إلا في الشكل أما المضمون فلا أظنه يختلف كثيراً ، فلا زالت النظرة للمرأة نظرة قاصرة ، ولا زالت هي الضلع الأعوج وهي ناقصة العقل والدين وهي التي نسأل عنها : هل لها الحق في التصويت في الانتخاب أم لا ؟ وهل لها الحق في قيادة السيارة ؟ وهل لها الحق في العمل ؟ وهل لها الحق في أن تكون حرة دون وصيّ حتى بعد بلوغها ؟ وهي التي نخجل من ذكر اسمها ، ونخجل حينما نبشر بها عند الولادة . لا زالت المرأة تقبع تحت أغلال المجتمع الذكوري ، ولا زال الوأد متخذاً شكلاً اجتماعياً ، لا يقلّ بشاعة عن الوأد الحسي الذي تدفن فيه الفتاة وهي حية . وهذا ما دفع شاعر المرأة ( نزار قباني ) للإشارة إلى ثقافتنا العربية المريضة بقوله : ( ثقافتنا فقاقيعٌ من الصابونِ والوحل ِ فما زالتْ بداخلنا رواسبُ من "أبي جهل ِ " وما زلنا نعيش بمنطق المفتاح والقفل ِ نلفُّ نساءنا بالقطنِ ...ندفنهنّ في الرمل ِ ونملكهنّ كالسجّاد كالأبقار في الحقل ِ ونهزأ من قوارير ٍ بلا دين ٍ ولا عقل ِ ونرجعُ آخر الليل ِ نمارس حقنا الزوجيّ كالثيرانِ والخيل ِ ) ويقول أيضاً : ( تمتّعنا بما أيماننا ملكتْ وعشنا في غرائزنا بمستنقع ْ وزوّرنا كلام الله بالشكل الذي ينفعْ ولم نخجل بما نصنع ْ عبثنا في قداسته نسينا نبل غايته ولم نذكر سوى المضجعْ ولم نأخذ سوى زوجاتنا الأربع ْ ) . إنّ المرأة كانت ولا تزال تئن تحت سلطة ذكورية متعسّفة يمثّل فيها الرجل دور السجّان وتمثّل فيها المرأة دور الضحية ،والتي لا يمكن لها أن تكون بدون الرجل شيئاً مذكوراً باعتبارها الكائن الضعيف الذي يحتاج إلى وصاية ذلك الرجل في كل شيء ، وورثنا هذا المنهج السلطوي من ثقافتنا العربية القديمة جيلاً بعد جيل ، وقد تركت هذه الثقافة- التي تعتمد على الطبقية الجنسية بإعلاء الذكر وإنزال مستوى الأنثى – آثارها في اللغة باعتبار اللغة إفرازاً ثقافياً يمكن أن نعتمد عليه لفهم المجتمع بكل ما يحمله من أفكار وما يمارسه من سلوك ؛ لذا ظهرت مسألة تذكير المؤنث في شعرنا العربي منذ العصر العباسي إلى يومنا هذا بشكل لا شعوري لتكون اللغة إشارة إلى هذه الثقافة السلطوية التي تعلي من شأن الذكر . لقد أخطأ الدكتور علي الوردي حين جعل السبب في تذكير المؤنث هو الشذوذ الجنسي في عهود العرب المتأخرة بخلاف العرب الأقدمين من الجاهلية إلى بداية العصر العباسي ، إذ بدأت ظاهرة الشذوذ على يد أبي نواس ، معلناً أن سبب هذا الشذوذ هو وجود (الحجاب) حيث كانت المرأة العربية عند الأقدمين سافرة تخالط الرجال ثم بدأ الحجاب تدريجياً مع ملازمة المرأة لبيتها مما أدى إلى تفشي الشذوذ الجنسي ، ومن هذا الشذوذ ظهر نهج تذكير المؤنث ، وقد خالف هذا الرأي الكتور محيي الدين مرجعاً ظاهرة تذكير المؤنث إلى سببين هما : 1- النزعة الصوفية التي تجعل الغزل في الله لا في الغلمان 2- تحاشي ضمير المؤنث كيلا يتهم الشاعر بامرأة بعينها . وبالنسبة للتصوّف ردّ الدكتور الوردي بأن المتصوّفين بشر ، ولهم أخطاؤهم ، وقد عُرف عنهم اعتزال النساء زهداً منهم ، مما أدى بهم إلى مصاحبة الغلمان ، وبعضهم زعم بحلول "الله" في أجسام غلمان اصطفاها الله لحسنها لتتجلّى فيها معاني الربوبية ، كما تذرّع بعضهم بقول النبي " اطلبوا الخير عند حسان الوجوه " ونحو ذلك من أحاديث نبوية ، وهنالك طائفة من الصوفيين تأتي بصبي أمرد أثناء الغناء فتزيّنه رغبةً في الاعتبار والصبر وزيادة الإيمان بالاستدلال على الصانع ، ومنهم من صاحب الغلام الأمرد مجاهداً رغبته فيه لتقوية إيمانه . وإذا أردنا أن ندقّق ملياً فيما سبق من آراء فإنها – وللأسف – لا تصمد أمام أبسط التساؤلات ، فإذا كان الشذوذ الجنسيّ – كما يزعم الوردي – سبباً لظاهرة تذكير المؤنث ، فهل كان الشذوذ منذ عهد أبي نواس فقط ؟! وماذا عن الشعراء الذين لا يمارسون الشذوذ الجنسي بينما تضج لغتهم بصيغة المذكّر ؟ ولماذا لم تستجب لغة العرب المتقدّمين لظاهرة التذكير مع وجود الشذوذ الجنسي لديهم ؟! إذ لا يمكن نفي هذه الظاهرة عن مجتمع ما استناداً على قضية الحجاب . والأمر الآخر الذي يمكن أن يوجّه للدكتور علي الوردي في رأيه الذي ذهب إليه هو أنّ الخطاب الشعريّ موجّه للأنثى لا للذكر فالمتغزّل بها امرأة فما دخل الشذوذ الجنسي في ذلك ؟! وهذا ما يؤيد القول الذي ذهبت إليه من إرجاعي ظاهرة التذكير إلى مسألة السلطة الذكورية ؛لأن المخاطب امرأة ، فهي المعنية وليس المعنيّ الرجل أو الغلام ، وبهذا تسقط حجة الشذوذ الجنسي من مسألة تذكير المؤنث في اللغة الشعرية . أما عن الشعر العرفانيّ فهو يستخدم آليات تعبيرية مختلفة تتخذ طابعاً رمزياً ، ولم يتحرّر الشاعر العرفاني كغيره من الشعراء من ثقافة مجتمعه ، وأنا هنا لا أنفي وجود قسم من العرفانيين ممن يتغزّل في الذات الإلهية بعيداً عن عقدة الذكورة إلا أننا في المقابل ، لا يمكن أن نتجاهل حقيقة مهمة ، وهي أنّ الشاعر ابن البيئة ، وهو متأثر بكل ما تحمله البيئة من أفكار وعادات وتقاليد ، وهو محكوم بإيديولوجية هذه البيئة التي يعيش فيها ويستمد ثقافته منها ؛ لذا فقوامته الذكورية وسلطته الدينية تجعله متشبثاً بعقدة الفحولة وإسقاط دور ( الأنثى ) باعتبارها كائناً دونياً . أما عن الرأي القائل بأن تحاشي ضمير المؤنث مقصد للشاعر كيلا يتهم بامرأة بعينها ، فهل الضمير المؤنث يعني امرأة معينة ، بينما الضمير المذكّر ينفي ذلك ؟ هل قول الشاعر لمن يتغزّل بها : ( حبيبتي ) تعني امرأة بذاتها بينما حينما يقول : ( حبيبي ) ينفي ذلك ؟! إنّ كل تلك الآراء اتجهت وجهة بعيدة عن التصوّر الثقافي الذي أسّس فكراً يعتمد على الطبقية المبنية على جنس الإنسان . وأتعجّب من الدكتور علي الوردي وهو متخصص في الدراسات الاجتماعية كيف أغفل هذا البعد الذي جعل من الرجل سيداً في بيته وسيداً في لغته حيث اتخذ من القوامة سيادة وسلطة يمارسها في حق المرأة مما جعل المرأة خاضعة مستكينة لا حقّ لها في الظهور حتى في اللغة الموجهة إليها إذ تتغلّب النزعة الذكورية في الخطاب الموجّه لتلك المرأة تماماً كما يحدث لها من إقصاء على المستوى الاجتماعي والثقافي . ومن هنا نقول :إن تلك النظرة الدونية للمرأة أثرت في خطابنا الشعري بشكل لا شعوري وتغلغلت فينا عبر التوارث الفكري والتربية والتنشئة الاجتماعية لتشكّل عقلاً جمعياً يعتمد على إقصاء الأنثى وسيادة الذكر .
سلمان عبد الله الحبيب
#سلمان_ع_الحبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زفرات في حرم الهوى
-
رحلة نحو الشمس - دراسة نقدية تفكيكية
-
وللشوق ابتهال
-
الحداثة وما بعدها في ميزان النقد
-
ساعة بقرب الحبيب أو (دروس في الحب )
-
النص بين سلطة الثقافة وسلطة القارئ
-
الكبت قنبلة موقوتة !
-
حين ينثر الرماد
المزيد.....
-
منها لوحة -شيطانية- للملك تشارلز.. إليك أعمال ومواقف هزّت عا
...
-
لافروف: 25 دولة تعرب عن اهتمامها بالمشاركة في مسابقة -إنترفي
...
-
فنان مصري: نتنياهو ينوي غزو مصر
-
بالصور| بيت المدى يقيم جلسة باسم المخرج الراحل -قيس الزبيدي-
...
-
نصوص في الذاكرة.. الرواية المقامة -حديث عيسى بن هشام-
-
-بندقية أبي-.. نضال وهوية عبر أجيال
-
سربند حبيب حين ينهل من الطفولة وحكايات الجدة والمخيلة الكردي
...
-
لِمَن تحت قدَميها جنان الرؤوف الرحيم
-
مسيرة حافلة بالعطاء الفكري والثقافي.. رحيل المفكر البحريني م
...
-
رحيل المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|