ناصر موحى
الحوار المتمدن-العدد: 2887 - 2010 / 1 / 13 - 02:48
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
لقد إرتبط مفهوم كلمة المستوطنات في الذهنية الجمعية لتاريخ الإستعماربعد منتصف القرن العشرين بالأراضي الفلسطينية التي ظلت تقطعها سياسة النظام الإمبريالي في إسرائيل كقطعة جبن قبل التهامها منذ عقود طويلة . وهو وضع طبيعي مادامت قضية فلسطين واحدة من القضايا إن لم تكن أهمها التي تؤرق بال الشعوب على اختلاف ألسنها وثقافاتها وأنظمتها السياسية. لكن المفارقة والغرابة هي حين تصبح كثيرا من تلك الدول المساندة ماديا ومعنويا للحق الفلسطيني , هدفا لنفس السياسات الإستيطانية وإن اختلفت وسائلها ومبرراتها دون أن تحرك ساكنا لمواجهتها بنفس الحزم لجهلها بطبيعة هذا النوع الجديد من الإستعمارالذي أخرج من الباب وعاد وأعيد من النوافد . وحتى لسان العرب أشهر معاجم العرب يجيبك بدون حياء حين تطلب شرح كلمة المستوطنات " لاتوجد تعابير أو كلمات مطابقة أو ذات صلة " !! لنسأل إذن القاموس الفرنسي"لو بوتي لروس 1988" ماذا يقول : هي أراضي محتلة ومسيرة من طرف قوة خارجية وتكون تابعة لها من الناحية السياسية والإقتصادية والثقافية " . وفي هذا المعنى تصبح المستوطنات مرادفة للمستعمرات بكل بساطة.
حين نتمحص التعريف الفرنسي جيدا ونلقي نظرة موضوعية على أوضاع بلدان من المفروض أن تكون قد نالت إستقلالها منذ عقود نصاب بالحيرة والإحباط وتنناسل الأسئلة المستفزة في دواخلنا بصمت مخافة إتهامنا بالخيانة العظمى وباللاوطنية التي كثر اللغو حولها أخيراوأصبح من باعوا الوطن في إكس ليبان يهددون من ضحوا بكل شئ مقابل لاشئ. فهل ياترى حصلنا فعلا على الإستقلال ؟ وهل حالنا أفضل من حال الفلسطينيين ؟؟
لملامسة بعض الإجابات من المهم التنبيه إلى أن الإستيطان يتخذ أشكالا حربائية وقت تنفيذها لزرع اللبس لدى من يشكاون أهدافها لتجنب فعل التصدي والمجابهة المباشرة مثلما عرفه الإستعمار التقليدي .كما أن أسئلتنا لن تتوقف عند حدود الإستيطان كما عرفة القاموس الفرنسي بل سنقارب تمظهرا آخر له وواحد من مخلفات الإستعمار الكلاسيكي وهو الأخطر ألا وهو إستيطان العقل .
إستيطان الأرض
وأنت تتجول في بلد كالمغرب من المفروض أن يكون بلدك وأنت مواطن تتمتع بكامل إنسانيتك , من الصعب أن تجد مدينة بدون مستوطنات ممنوعة على الرعايا بمنطوق الدستور الحسني (نسبة للحسن الثاني الذي وضعة مع مستشاريه الفرنسيين في 1962) أو ليزانديجين كما يسمي الفرنسيون أهالي مستعمراتهم . وقلة هم المغاربة الذين لم يحسوا بالإهانة والحكرة وهم يمنعون من ولوج فضاء أو حي أو شاطئ من المفروض قانونيا أن يكون مفتوحا للمغاربة بدون اسثناء . ذاكرتي لن تنسى إحدى أمسيات صيف 1990 بمراكش . كنت تلميذا يزور المدينة لأول مرة وقادتني اقدامي للوقوف أمام بناية مارايت مثلها من قبل . وقفت في الجانب المقابل للمدخل من الشارع لأشبع فضولي في مغرب آخر لم يخطر لي على البال . لكن حراس المعلمة طردوني بكل أنواع كلمات السب والإحتقار لمجرد أني أمارس حق النظر وفقط من الشارع العمومي . في مابعد علمت أن المبنى هو لفندق ليس ككل الفنادق , المامونية وماأدراك مالمامونية ! حفرة تلتهم ملايين الدراهم من أموالنا ولاحق لنا حتى في النظر إليها !! ويذكر أن البصري حجزت له فيه غرفة على طول السنة كانت تكلف المغاربة ملايين الدراهم شهريا,أما مخاسير إقامات الحسن الثاني فيه فلن يجمعها الفم كما حكى لي أحد الذين اشتغلوا فيه أيام ألف ليلة وليلة الحسنية . نفس السيناريو تكرر بعد 7 سنوات من تلك الحادثة لكن هاته المرة في شمال مملكة العلويين الشريفة . كان الناس يتحدثون في مرتيل عن منتجع كابو نكرو بخوف وإعجاب لأن أكابر البلد من لصوص الخزائن العمومية وأباطرة الحشيش والسياسة يقضون عطلهم الصيفية هناك , فقادني فضولي إلى الرأس الأسود في محاولة لاكتشاف عش الدنابير . ما أن اقتربت من الحاجز المنصوب على الموقع المستوطنة حتى استوقفني الحراس . إلى اين ذاهب ؟ من أنت ؟هل لديك بادج العمل للدخول ؟(لأن العمال وحدهم من يأتون راجلين ) سألت الحراس لما كل هاته الأسئلة . أنا جئت لأتفسح هنا وأرى هذا المكان الأنيق جدا من بلادي ! أجابني أحدهم باستهزاء كما العادة وهو يتفحص هندامي : بلادك ؟ سير الله إعفوا عليك راه ممنوع الدخول بدون إذن . فكرت في أسئلة جنود إسرائيل للفلسطينيين في المعابر و سألته لماذا ممنوع ؟ أليس الطريق عموميا والتبليط والإنارة من مال الدولة وشاطئ المنتجع للعموم ؟ أجابني الآخر بقساوة أكبر " واسير تقود ...راه الدولة كلها ساكنة هنا ...سير فحالك احسن ليك قبل ماتبات فكوميسارية أولا إغبروك ...يالله تحرك صباحاتو لله ...المصيبة أن الحارسين تبدو عليهما علامات التعب من طول ساعات العمل بأجور مخجلة بكل تأكيد. أبناء الشعب المحرومين يتقاتلون فيما بينهم ليهنأ اللصوص خلف إقاماتهم الواطئة !!عدت وقد أزلت هذا المكان من خريطة بلادي .
وفي شواطئ الشمال والجنوب تنبت مستعمرات من نوع آخر كالفطر , إقامات وفنادق تشيد سياجاتها المحروسة من الجبل إلى الماء ضدا على القانون حيث الحياة والعادات واللغات مختلفة جذريا عن السائد في باقي ربوع الوطن والويل لمن يقترب منها ولو عن طريق الخطأ . أراضي خصبة وشاسعة تصبح في رمشة عين دون مساطير وبدراهم رمزية ملكا لأحد الدائرين في فلك النظام السمسار ويحولها إلى ضيعات مقطوعة وممنوعة على من كانوا أصحاب حق فيها . الفظيع أن سياسة الإستيطان لم تكتف بالمناطق العذراء بل إمتدت إلى مدن تاريخية من المفروض أن تكون مصنفة ضمن التراث الكوني ومحمية من حمى المضاربات العقارية . وهنا ستصبح سياسة التهويد الإسرائلية المبنية على شراء الأرض من فقراء فلسطين لفرض سياسة الأمر الواقع هي المثال المتبع في المغرب من أجل إبعاد المغاربة من منازلهم التي تعتبر تحفا تاريخية لاتقدر بثمن ليفيقوا ذات يوم عن وطن عبارة عن مستوطنات.
ومايقع في مراكش وفاس والصويرة وغيرها أسطع مثال على هاته الحملة الإمبريالية المنظمة لدفع أصحاب الأرض والتاريخ لترك منازلهم مقابل زنازن إسمنتية على الهامش . فالوتيرة التي يبيع المراكشيون بها منازلهم في المدينة العتيقة للمستوطنين الجدد عفوا للمستثمرين الأجانب ستجعلنا نقف بعد 30 سنة على المشهد الدرامي التالي :ستصبح 90 في المائة من أحياء المدينة العتيقة في ملكية أجانب ويرحل أهل البلد مضطرين إلى مناطق سكنية خارج المدينة هي أقرب للكيتوهات أو ثكنات عسكرية منه لتجزءات سكنية حيث الشقق صغيرة ومتشابهة لأنهم ماعادوا أهل البلد بل غرباء في وطنهم وتصبح تامنصورت توأم لحي المهاجرين المعروف بباربيس على هامش باريس التي كانت تسمى ذات تاريخ عاصمة الأنوارأو هوامش جوهانسبورغ الجنوب إفريقية سيفهم حجم المأساة التي تنتظر المراكشيين والمغاربة جميعا. وستسيج المدينة التاريخية لعاصمة المرابطين من كل الجهات وتصبح ممنوعة من الدخول إليها إلا بمقابل حتى على الذين كانوا حتى وقت قريب ورثتها والمؤتمنون على هذا الكنز الحضاري الذي شيده من كانوا يستحقون لقب تامغربيت أو سيلجونها كخدم في المطابخ أوعمال نظافة . آنذاك سيندم أصحاب المدينة الحمراء حيث لاينفع الندم لتخليهم عن أرضهم التي ستحول إلى دجاجة ومستوطنة تلد ذهبا يستقر في بنوك العالم إلا المغربية وترسخ ثقافة استعمارية إعتقد المغاربة السذج أنها رحلت مع رحيل آخر جندي فرنسي وإسباني عن البلد. وإذا كانت المسؤولية الكبرى لهكذا وضع يتحملها النظام المغربي العميل كونه من سن سياسة تفقيرية في حق المغاربة لدرجة أصبحوا يبيعون كل شئ من الجدران إلى الأرض والإنسان والوطن لتغطية تكاليف متطلبات حياة حولها نفس النظلم إلى جحيم لايطاق فإن أصحاب الحق لايمكن أن يفرطوا في تراث وتاريخ لاثمن له مقابل لاشئ بل واجب عليهم أن يواجهوا بلا هوادة السياسة التي جعلتهم مستعدين لبيع كل شئ . والدولة لو لم تكن متواطئة مع الرأسمال الأجنبي لمنحت قروضا تسهيلية لكل مغربي يريد تحويل رياضه إلى دار للضيافة ويربح الوطن على واجهتين .الأولى بخلق مناصب شغل محترمة لمالكي المنازل وبقاء عائدات هذا النوع من المشاريع داخل الوطن . والثانية وهي الأهم أن الأرض وتاريخها وهويتها ستظل بين أيدي المغاربة وكل من فرط في أرضه فكأنما وقع بيديه على انقراضه الحتمي .
إن سياسة الإستحواذ على المناطق الأثرية لتحويلها إلى مشاريع سياحية سياسة ممنهجة في المغرب وفي مناطق كثيرة من العالم وليست موجة سياحية عابرة بل وراءها مؤسسات استعمارية تعيد رسم خرائط البلدان على شاكلة سايس بيكو بشعارات غاية في الدهاء. ووكلاؤها الأجانب والمحليين يجوبون المغرب من شماله إلى جنوبه بمدنه وقراه على طريقة المستكشفين الأوربيين قبيل بداية الحملات الإستعمارية في أواخر القرت 19 وبدايات القرن العشرين .وباسم تشجيع السياحة وجلب الملايين يغض النظام الطرف بل ويتآمر على هذا الجشع الرأسمالي المتوحش لأن همه الرئيس هونفخ أرصدة أبناكه بالعملة الصعبة وليذهب ماغير ذلك إلى الجحيم .
حين تصادف أرضا تابعة للدولة وتصادر لخواص بدون وجه حق وغصبا عن القانون وداخله تسري قوانين مخالفة لقوانين البلد ولغات غير لغات البلد وثقافة دخيلة على البلد ,فهذا يعني أن التعريف لهذا المكان ينطبق تماما على تعريف المستوطنة في القواميس الأوروبية والأمريكية أما قواميسنا فهي تجهل حتى وجودها فأحرى أن نفهمها نحن الذين تنطق تلك القواميس بلساننا !!
في الجزأ الثاني سأوحاول تسليط الضوء على أخطر أشكال الإستيطان الذي يتطلب محوه قرون حتى بعد إستعادة الأرض , إنه استيطان العقل والذاكرة والتاريخ...
#ناصر_موحى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟