أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عصام البغدادي - خطاب الدموع والدم والنار















المزيد.....


خطاب الدموع والدم والنار


عصام البغدادي

الحوار المتمدن-العدد: 876 - 2004 / 6 / 26 - 08:56
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


باتريس لومومبا- شهاب في سماء أفريقيا- جون بول سارتر
ولد باتريس لومومبا عام 1925 في ستانليفيل (كيسانغاني) بمقاطعة الكونغو الشرقية، وينتمي إلى قبيلة باتيليلا وهي جزء من قبيلة المونغو. وهو من أبناء النخبة الكونغولية التي حظيت بالتعليم في فترة الاستعمار البلجيكي المتحالف معه.

ولكن لومومبا قاوم الاستعمار البلجيكي وأسس الحركة الوطنية عام 1958 وكانت أقوى الحركات السياسية في الكونغو. وحظي لومومبا بشعبية واسعة وقاد مظاهرات ومواجهات مع الاستعمار البلجيكي أدت إلى اعتقاله لمدة ستة أشهر، وأفرج عنه لإنجاح المفاوضات التي كانت تجري في بروكسل لبحث مستقبل الكونغو، ونقل من السجن إلى بروكسل بالطائرة، وتم الاتفاق على استقلال الكونغو وإنهاء ثمانين عاما من الاستعمار البلجيكي.

أجريت انتخابات نيابية في مايو/ أيار 1960 تنافس فيها أكثر من مائة حزب، وحققت الحركة الوطنية بقيادة لومومبا انتصارا نسبيا. وحاولت بلجيكا التي كانت تدير البلاد إخفاء النتائج وإسناد الحكم إلى حليفها جوزيف إليو، ولكن الضغط الشعبي أجبرها على تكليف لومومبا بتشكيل الحكومة. وشكلت أول حكومة كونغولية منتخبة في 23 يونيو/ حزيران 1960 وقام ملك بلجيكا بودوان بتسليم الحكم رسميا. وحدثت أزمة سياسية أثناء حفل التسليم، فقد ألقى لومومبا خطابا أغضب البلجيكيين وسمي بخطاب "الدموع والدم والنار" تحدث فيه عن معاناة الكونغوليين وما تعرضوا له من ظلم واضطهاد. وكان الملك بودوان قد سبق لومومبا بحديث أغضب الكونغوليين واعتبروه مهينا ويفتقر إلى اللياقة.

ولم تنعم الكونغو بالاستقلال سوى أسبوعين، فقد دخلت في سلسلة من الأزمات لم تتوقف حتى اليوم. ووجدت حكومة لومومبا نفسها تواجه أزمات كبرى: تمرد عسكري في الجيش، وانفصال إقليم كتانغا أهم إقليم في الكونغو بدعم من بلجيكا، واضطرابات عمالية.

وقرر لومومبا دعوة قوات الأمم المتحدة للتدخل لمساعدته على توحيد الكونغو وتحقيق الاستقرار، ولكنها تدخلت ضده. وانفض عن لومومبا عدد من حلفائه الأساسيين بدعم أميركي وبلجيكي، وساءت علاقته مع رئيس الجمهورية كازافوبو. ورغم أن منصب رئيس الجمهورية شرفي والسلطة الفعلية بيد رئيس الوزراء، فإن كازافوبو أعلن إقالة الحكومة، ولكن مجلس الشيوخ صوت بأغلبية كبيرة ضد القرار.

ثم أعلنت مقاطعة كازائي انفصالها عن الكونغو ودخولها في اتحاد مع كتانغا. واستغل موبوتو رئيس هيئة الأركان هذه الفوضى فاستولى على السلطة عام 1961 في انقلاب عسكري هو الأول من نوعه في أفريقيا في ذلك الوقت. وألقي القبض على لومومبا واثنين من أهم رفاقه هما: نائب رئيس مجلس الشيوخ جوزيف أوكيتو، ووزير الإعلام موريس موبولو، وأعدموا على يد فصيل من الجيش البلجيكي.

ووفقا لكتاب نشر في هولندا عام 2002 لفه لودو ديفيت بعنوان "اغتيال لومومبا"،
هذا الكتاب ثمرة جهد موضوعي، منصف، استمر طويلاً، سعى المؤلف من خلاله إلى إزاحة الستار عن أسرار إحدى الجرائم الاستعمارية الأكثر بشاعة، والتي ارتكبت في القرن الماضي وراح ضحيتها الزعيم الافريقي باتريس لومومبا الذي ناضل من أجل حرية وطنه، الكونغو، واستقلاله، ومن أجل وحدة القارة الافريقية التي ينتمي إليها. ومؤلف الكتاب، لودو دي فيتي، عالم اجتماع، وكاتب معروف، وقد ترجم كتابه إلى أربع لغات، وأدى نشره إلى قيام البرلمان البلجيكي بتشكيل لجنة تحقيق رسمية لبحث ملابسات عملية اغتيال باتريس لومومبا، بعد أن ظلت الشكوك تحوم حول هوية مرتكبيها والضالعين معهم لأكثر من أربعين عاماً، بينما كان واضحاً أن مسئولية مؤامرة الاغتيال تقع بكاملها على عاتق شركاء كثيرين تتصدرهم الحكومتان البلجيكية والأمريكية ووكالة ال«سي. اي. إيه» وهيئة الأمم المتحدة.

واعتمادا على وثائق بلجيكية سرية حصل عليها المؤلف، فإن لومومبا اعتقل عام 1961 في مطار إليزابثفيل لدى هبوطه من الطائرة على يد درك كتانغا بقيادة خصمه تشومبي المتحالف مع موبوتو، وكان ستة جنود سويديين تابعين لقوات الأمم المتحدة حاضرين لحظة الاعتقال.

ونقل لومومبا ورفاقه إلى سجن بلجيكي في سيارة جيب يقودها ضابط بلجيكي، وأعدموا رميا بالرصاص بعد بضع ساعات على يد كتيبة إعدام يقودها ضابط بلجيكي، وتم التخلص نهائيا من الجثث بعد أربعة أيام بتقطيعها إلى قطع صغيرة وإذابتها في حمض الكبريتيك. ونفذ هذه المهمة ضابط شرطة بلجيكي اسمه جيرارد سويت، وكان الحمض في شاحنة مملوكة لشركة تعدين بلجيكية. وقد اعترف سويت بذلك في لقاء تلفزيوني أجري معه العام الماضي، وقال إنه احتفظ باثنين من أسنان لومومبا كـ"تذكار" لسنوات عدة، ثم تخلص منهما بإلقائهما في بحر الشمال.

يوما ما.. سيقول التاريخ كلمته، ولكنها لن تكون كلمة التاريخ الذي يلقنونه في الأمم المتحدة، او واشنطن، او باريس، او بروكسل.. وانما التاريخ الذي يتعلمه الناس في البلاد التي خلصت نفسها من اسر الاستعمار والدمى التابعة له.. افريقيا هي التي ستكتب تاريخها، وسيكون تاريخ الصحراء الكبرى ـ شمالها وجنوبها ـ حافلا بالمجد والكرامة.

بتلك الكلمات الحزينة كان الزعيم الافريقي باتريس لومومبا يودع زوجته في رسالة كتبها اليها قبيل اغتياله في 17 يناير 1961. كان لومومبا أول رئيس وزراء لجمهورية الكونغو، ورائدا من رواد الوحدة الافريقية. وقد فاز في انتخابات ديمقراطية ليقود حزب الحركة الوطنية الكونغولية الذي كان قد انشأه عام 1958. وكان لومومبا في قلب حركة التمرد والتحدي الشعبي المتزايد للحكم الاستعماري الاستبدادي الذي فرضته بلجيكا على بلاده. وعندما فازت بلاده بالاستقلال في يونيو 1960 استقبل الشعب خطابه في الاحتفال الرسمي في كينشاسا بحماس شديد، واصبح بطل الملايين من ابناء وطنه، واعتبره اولئك الذين كانوا يسعون الى الاحتفاظ بقبضة امبريالية خفية على الكونغو، خطراً داهما عليهم، وخلال اشهر قلائل كانوا قد حاكوا مؤامرة غادرة للخلاص منه، فاعتقل مع بعض وزرائه، وتعرض لتعذيب مروع، واعدم، ثم اذيب جثمانه بمواد كيميائية، امعانا في اخفاء معالم الجريمة.

ويكشف الكتاب المدى الهائل للاكاذيب والنفاق والخيانات التي احاطت بوقائع اغتياله منذ لحظات الاعداد له. وقد استعان المؤلف بعدد كبير من المصادر الرسمية والشهادات الشخصية للعديد من الاشخاص الذين كانوا في الكونغو آنذاك. ويفضح المؤلف، لودو دي فيتي، شبكة التواطؤ التي كانت تجمع بين الحكومة البلجيكية، ووكالة المخابرات المركزية الامريكية، كما قام بتحليل مذكرات رسمية مرعبة تحمل تفاصيل ما اسمته ب« التصفية» وتتمسح بحجة «تهديد المصالح الوطنية»، فضلا عن القصص المفزعة لاخفاء أدلة جريمة الاغتيال والتلاعب بها في واحد من اشد فصول سياسات القرن العشرين سوادا وقبحا.

ويذكر المؤلف ان الكتاب عندما نشر لأول مرة (وكان ذلك باللغة الهولندية) ركزت وسائل الاعلام على النتيجة الرئيسية التي انتهى اليها، ومفادها ان الحكومة البلجيكية هي المسئولة الأولى عن اغتيال رئيس الوزراء الكونغولي باتريس لومومبا، ولكن دي فيتي يرى ان الاطراف الاخرى مسئولة عن ذلك على قدم المساواة، ويقول: «صحيح ان البلجيكيين والكونغوليين قاموا بالفعل بقتل لومومبا، ولكن ذلك لم يكن ليتم من دون الخطوات التي اتخذتها واشنطن والأمم المتحدة خلال الشهور السابقة على الجريمة. ففي يوليو 1960 وبعد التدخل البلجيكي في الكونغو، وبعد انفصال اقليم كاتانجا الغني بالنحاس، بدأت الولايات المتحدة في العمل وايدت تدخل الأمم المتحدة لمنع لومومبا من الاستعانة بجيوش الدول الافريقية الصديقة أو بالاتحاد السوفييتي لمساعدته على مواجهة العدوان البلجيكي ـ الكاتانجي. فقام داج همرشولد الأمين العام للأمم المتحدة بنشر مجموعات من القوات العسكرية، وتولي جنود الأمم المتحدة حماية كاتانجا، ولعبوا دورا حاسما في الاطاحة بحكومة الكونغو. وفي الوقت نفسه اصدر الرئيس الأمريكي دوايت ايزنهاور تعليماته الى مساعديه لتصفية لومومبا، وقد اسندت مهمة التخلص منه الى وحدة بالغة السرية في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ورحبت بروكسل بهذه المهمة ترحيبا حارا، وارسلت ايضا وحدة عمل من الكوماندوز لهذا الغرض نفسه.

نهر مليء بالتماسيح بينما كانت امريكا وبلجيكا تخططان للجريمة، كانت قوى غربية اخرى على الدرجة نفسها من الاقتناع بأن الزعيم الافريقي يمثل خطراً كبيراً على مشروعها الاستعماري الجديد في افريقيا. وفي 19 سبتمبر 1960 اجتمع الرئيس الأمريكي ووزير الخارجية البريطاني اللورد هيوم لبحث ازمة الكونغو. ويستفاد من محضر ذلك الاجتماع ان بريطانيا كانت على علم بخطة واشنطن لاغتيال لومومبا الذي كانوا قد اطاحوا به بالفعل من منصبه، ويورد المؤلف بهذا الصدد الفقرة التالية من ذلك المحضر: «أعرب الرئيس عن تمنيه ان يسقط لومومبا في نهر مليء بالتماسيح".

وقال لورد هيوم: «مما يدعو للأسف اننا فقدنا كثيرا من تقنيات الدبلوماسية القديمة»، وبعد اسبوع التقى ايزنهاور ورئيس الوزراء البريطاني هارولد ماكميلان وبرفقتهما وزيرا خارجية البلدين، وتبين سجلات ذلك الاجتماع بوضوح النوايا البريطانية، وبما لا يدع شيئا للاستنتاج وذلك على الوجه التالي: «تساءل لورد هيوم عن سبب عدم الخلاص من لومومبا في الوقت الحاضر، ذلك لأنه اذا عاد الى السلطة مرة اخرى فسوف يسبب ذلك ضغطا مباشرا على مسألة كاتانجا، مما يدفعنا الى مواجهة جميع انواع الخلافات القانونية. وركز لورد هيوم على ان هذا هو الوقت المناسب للتخلص من لومومبا.. وفي الوقت نفسه، وعلى الجانب الآخر من الاطلسي، كان مسئولون بريطانيون كبار يتشاورون مع اللورد ادوارد هيث (الذي اصبح رئيسا للوزراء فيما بعد). ويتساءل المؤلف: هل كان وجود فكرة اغتيال لومومبا على جداول الاعمال تلك مجرد صدفة؟! وبعد ذلك بأشهر قلائل كان الوزير البلجيكي للشئون الافريقية وممثلوه في الكونغو يعدون المسرح لعملية الاغتيال. وقد تمت عملية نقل لومومبا الى كاتانجا، وتسليمه الى اعدى اعدائه بعلم كامل من رئيس وحدة ال«سي أي إيه» في العاصمة، وهو لورانس ديفلين الذي كان قد ارسل برقية الى واشنطن قبل ذلك بأيام يقول فيها: «إن اتخاذ (خطوات عنيفة) هو الشيء الوحيد الذي يكفل منع عودة لومومبا الى السلطة». ولابد ان رؤساء ديفلين وحلفاءهم في حلف الاطلسي قد تنفسوا الصعداء ايضا، ففي الاسابيع السابقة على نقل لومومبا جرت مباحثات مكثفة بين الولايات المتحدة وبلجيكا وفرنسا، واتحاد روديسيا الخاضع لبريطانيا، والبرتغال، وموبوتو، وتشومبي، في الكونغو لبحث خطط سرية عديدة لمقاومة العناصر الوطنية الكونغولية.

لقد قام عدد كبير من المؤلفين بفحص دور واشنطن في ازمة الكونغو وتحليله على ضوء الحرب الباردة. وكانت ابحاثهم تقوم على اساس الحجج التي اعلنتها كل من واشنطن ولندن آنذاك لتبرير تدحل المعسكر الغربي، والتي كانت تدور حول الحاجة الى محاصرة التوسع السوفييتي.

ولكن هل كانت تلك الحجة تتفق مع حقائق الأمور؟ يرد المؤلف على هذا السؤال بقوله: صحيح ان عام 1960 شهد ذروة الصراع بين الشرق والغرب، ففي أول مايو 1960 اسقطت طائرة التجسس الامريكية يو ـ 2 في الاجواء السوفييتية على الرغم من انكار ايزنهاور وجود تجسس امريكي جوي. وفي اجتماع القمة في باريس وصف الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف الرئيس الأمريكي ايزنهاور بأنه كذاب، وتم الغاء لقاء القمة بينهما.

وقد تحولت ازمة الكونغو إلى حرب كلامية، ووجهت واشنطن ولندن وبروكسل الاتهام الى موسكو بأنها تريد ان تضع يدها على افريقيا الوسطى، ووصفت لومومبا بأنه «شيوعي» أو «شيوعي متخف» او في احسن الظروف بأنه يريد فتح الابواب للتدخل السوفييتي. واثناء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في خريف ذلك العام نفسه رد خروتشوف على ذلك ردا عنيفا واتهم همرشولد بأنه عميل للامبريالية.

يرى مؤلف الكتاب أن أزمة الكونغو لم تكن حقا حربا بين الشرق والغرب، ويقول إن موسكو كانت تعي جيدا ان ذلك البلد يقع ضمن نطاق النفوذ الغربي، وذلك على الرغم من ان ورثة ستالين لم يكن لديهم مانع من ان يمدوا نفوذهم في أنحاء العالم، أو أن يكتسبوا مزيدا من السيطرة، ولم تكن لدى الكرملين النية أو الوسائل لتهديد هيمنة الغرب على الكونغو، وكان ذلك أمرا واضحا لمعظم المراقبين. ومن المؤكد ان الكرملين لم يكن يريد دعم لومومبا بغير شروط أثناء الأزمة، ولكنه كان أكثر اهتماما بتحقيق انتصار اعلامي. وقد هاجم خروتشوف التدخل الغربي ليدعم موقفه الدبلوماسي في العالم الافريقي ـ الآسيوي. وكان القضاء على الحركة الوطنية في الكونغو ضربة قاصمة للمناضلين من أجل التحرير في افريقيا، ولكنها لم تكن تقلق البيروقراطيين المحافظين ضيقي الأفق في الكرملين، الذين كان لومومبا والنزعة الوطنية الافريقية بالنسبة لهم مسائل جانبية لا أهمية لها. ويكشف المؤلف ان خروتشوف قال للسفير الأمريكي في موسكو بصفة غير رسمية انه «كان يشعر بالأسف من أجل لومومبا كشخص عندما كان في السجن، غير ان اعتقاله قدم في الواقع خدمة للمصالح السوفييتية».ويذكر السفير الأمريكي ان خروتشوف قال: «ان ما حدث في الكونغو ساعد الشيوعية، وخاصة اغتيال لومومبا. ويمكن القول بشكل عام ان تأييد موسكو للوطنيين الكونغوليين كان شيئا رمزيا فقط.

ويتساءل المؤلف: ألم يكن أمرا ذا دلالة واضحة ان السفير الأمريكي في الكونغو ـ الذي أمطر واشنطن بالرسائل حول الخطر السوفييتي في افريقيا الوسطى ـ اعترف في مقابلة سرية مع لجنة من مجلس الشيوخ الأمريكي بأن دعم الكرملين لأتباع لومومبا لم يكن إلا عملية «مخادعة»؟!

السياق الصحيح للأحداث لقد كان استقلال الكونغو، في المقام الأول، تعبيرا عن الثورة المضادة للاستعمار. ومنذ الحرب العالمية الثانية ثار ملايين الناس ضد الهيمنة الاستعمارية عن طريق الاضرابات وحركات العصيان المدني والحروب الشاملة. حدث ذلك في الهند عام 1947، وفي الصين عام 1949، وفيتنام عام 1954، واندلعت حرب التحرير في الجزائر منذ عام 1954، وقامت الحرب الثانية في الهند الصينية عام 1957، وأطاح شعب كوبا بنظام باتيستا شبه الاستيطاني عام 1959. وفي عام 1953 أصبحت أربع دول افريقية أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، وبنهاية عام 1960 كان عدد الدول التي نالت العضوية لا يقل عن ست عشرة دولة. وأعلنت الأمم المتحدة عام 1960 «عام افريقيا» إذ نال ما لا يقل عن ست عشرة دولة في القارة السوداء الاستقلال في ذلك العام، وكانت الكونغو أكبرها وأكثرها ثراء.

وفي مواجهة حركة الاستقلال تلك لجأ الغرب الى تغيير سياسة الهيمنة المباشرة العلنية الى سياسة سيطرة غير مباشرة تملي على القيادات الوطنية الجديدة أن تتعلم الرضوخ للنظام الامبريالي الجديد. وكان باتريس لومومبا عقبة في سبيل تحقيق هذا الهدف لانه كان ينادي بالتحرير الكامل من الاستعمار الاستيطاني من أجل مصلحة الشعب ككل، ولذلك كان يجب منع الزعيم الافريقي بكل الوسائل. ويورد المؤلف بعض الخطوات التي أشار بها مخططو الاستراتيجية الغربية، في محاولة لكسب الرأي العام الى جانبهم، ومن بينها الاعلان عن بعض الاهداف التي قد تبدو نبيلة في ظاهرها، فقد منح الملك البلجيكي ليويولد الثاني الشرعية لغزو الكونغو، باعتبار ان هذا الغزو كان يهدف الى تحرير الأفارقة. ولاستكمال الخدعة الاستعمارية لجأ الغرب الى تبرير الاستغلال الاستيطاني بأنه مشروع حضاري، وهكذا تم القضاء على الحركات الوطنية في عام 1960 باسم «حماية افريقيا من الامبريالية السوفييتية»، وأخذ الغرب يروج في العالم عبارات مثل " انقاذ افريقيا من الحرب الباردة» أو «احتواء النفوذ السوفييتي أثناء عملية انهاء الاستعمار."
ويؤكد الكاتب لودو دي فيتي ان باتريس لومومبا لم يكن شيوعيا، كما حاول الاستعمار الغربي ان يروج ذلك الزعم، ويرى المؤلف انه كان زعيما وطنيا وعلى استعداد لقبول المساعدة من أي مكان في العالم، على ألا تكون مساعدة مشروطة وألا تنال من السيادة الوطنية.

يذكر المؤلف في مقدمة الطبعة المترجمة الى الانجليزية من الكتاب عددا كبيرا من أسماء الأشخاص الذين شاركوا في جريمة اغتيال الزعيم الافريقي ومعه اثنان من وزرائه هما مبولو وأوكيتو، وسوف ترد تلك الأسماء، بطبيعة الحال، عند الحديث عن تفاصيل ما سمي بأزمة الكونغو، فضلا عن عدد من الشهود الذين سبق لهم ان أدلوا بشهاداتهم في مقابلات صحافية وتلفزيونية، خاصة وان دي فيتي نفسه كان قد قام بتقديم البحوث الخاصة بأفلام وثائقية عن مأساة لومومبا في الاذاعة والتلفزيون. وقد تعرضت تلك المأساة وحقيقة ما جرى خلالها لمحاولات عديدة لاخفاء الحقائق ومحاولة طمسها منذ شنت المؤسسة البلجيكية حربها ضد أول حكومة كونغولية برئاسة لومومبا. وما لبث التدخل الاجنبي ان بدأ بعد حصول المستعمرة البلجيكية على استقلالها في 30 يونيو 1960، وقد بدأ ذلك التدخل أولا بهبوط عدد من الجنود البلجيكيين في الكونغو ثم أصحاب القبعات الزرق من جنود الأمم المتحدة. وكانت بروكسل والقوى الغربية الأخرى تعمل تحت عباءة المنظمة الدولية باصرار على الاطاحة بحكومة لومومبا الوطنية وان يحل محلها نظام استعماري جديد، يضع البلاد تحت رحمة المستثمرين والشركات القابضة التي ظلت تسيطر على الكونغو على امتداد عدة عقود من الزمان.

وقد أحرز الغرب أولى نجاحاته، وفي شهر سبتمبر عام 1960 نجح في الاطاحة بالحكومة الوطنية والبرلمان المؤيد للزعيم الافريقي الوطني على يد الكولونيل جوزيف ديزيريه موبوتو. ووصلت الحرب على الوطنية ذروتها في 17 يناير 1961 باغتيال لومومبا ومساعديه في اقليم كاتانجا الانفصالي المدعوم بالقوة العسكرية البلجيكية وموظفي حكومتها.

وقد ظل هذا الفصل الأسود من تاريخ الاستعمار الغربي محجوبا عن كتب التاريخ، وكان الخوف يعتري كل من يحاول التصدي للتحليل الجاد الحقيقي لما حدث في أزمة الكونغو كما حدثت وقائعها، ولم يجرؤ أحد من السياسيين على المبادرة باتاحة ارشيفات وزارة الخارجية البلجيكية لأي باحث جاد، أو على طلب مناقشة أو اجراء تحقيق برلماني حول الموضوع، بل على العكس من ذلك سرعان ما بذلت المحاولات لحرمان الأفارقة من الاطلاع على القصة الحقيقية للاطاحة بالزعيم الافريقي وحكومته، ولم تكتف تلك المحاولات بتصفية لومومبا جسديا، بل بذلت جهودا حثيثة حتى لا تتحول حياته وأعماله الى مصدر لإلهام شعوب القارة الافريقية، وكان لابد للاستعمار ان يمحو حلم لومومبا في دولة وطنية متحدة واقتصاد يلبي احتياجات الشعب، وكان الهدف هو محو أفكاره ونضاله ضد سيطرة الاستعمار والاستعمار الجديد من الذاكرة الجمعية حتى لا يظهر لومومبا آخر.

ولكن تشاء الصدف أن يفتضح أمر الجريمة النكراء على يد أداة من أدوات الاستعمار نفسه، وتلك احدى مفارقات التاريخ ... فقد كشفت السر الصحيفة اليومية «لايبر بلجيك» الناطقة بلسان الاستعمار الاستيطاني السابق. وقد وقعت تلك الصحيفة في خطأ محاولة شرح الجريمة باعتبارها دليلا على عدم نضج الشعب الكونغولي سياسيا، وتصويرها على انها عمل كونغولي صرف لا دخل للغرب به. والجدير بالذكر ان الكتاب الذي نناقشه يقلب هذا الزعم رأسا على عقب، مستندا في ذلك على ملفات وزارة الخارجية البلجيكية، وعلى رسالة دكتوراه غير منشورة حول تحقيق في اغتيال باتريس لومومبا، وقدمها جاك براسين ونوقشت في الجامعة الحرة في بروكسل عام 1991 ومصادر أخرى أمريكية وأوروبية وملفات هيئة الأمم المتحدة. والكتاب لا يكتفي بمجرد تقديم تحليل بسيط للاستراتيجيات الغربية، ونشر القوات، والمكائد الدبلوماسية، والزيارات الرسمية، وأحاديث وسائل الاعلام آنذاك، ولكن المؤلف يركز أيضا على الايام الاخيرة، والساعات الاخيرة في حياة لومومبا وعذابات أشهر سجين في القرن العشرين.

حياة قصيرة ومبهرة يتساءل دي فيتي: هل يمكن ان نسمي هذا الكتاب كتابا ملتزما؟ ويجيب المؤلف بقوله: قد يشعر القارئ بالسخط، بل قد يعتريه الغضب في الحقيقة، خاصة وان ضحية الجريمة أصبح رئيسا للوزراء في انتخابات شرعية، وكان ايضا زعيما لحركة وطنية في مراحلها الأولى، ولو لم ينتصر الغرب لكانت تلك الحركة قد دفعت مسار التاريخ في افريقيا إلى الافضل. لقد كانت حياة لومومبا السياسية قصيرة ومبهرة، وألهمت عددا كبيرا من الكتاب السياسيين. وكان كما وصفه جان بول سارتر: «شهابا في سماء افريقيا». ولكن هل اختفى لومومبا بالسرعة نفسها التي ظهر بها؟ وهل اختفى حقا؟ في عالم السياسة يكتسب الزمن معنى مختلفا.. والواقع ان المهمة التي وجد لومومبا نفسه يواجهها منذ أكثر من أربعين سنة مضت، مازالت تنتظر من ينجزها اليوم.

بلجيكا «تعتذر» لشعب الكونغو عن مقتل لومومبا

قدمت بلجيكا في عام 2002 عبر وزير خارجيتها لوي ميشال «اعتذاراتها» لشعب الكونغو واعربت عن «اسفها العميق والصادق» عن الدور الذي لعبته في مقتل رئيس وزراء الكونغو باتريس لومومبا في يناير 1961. واعلن ميشال امام مجلس النواب البلجيكي ان " الحكومة ترى انه من اللائق نقل اسفها العميق والصادق واعتذاراتها الى عائلة باتريس لومومبا والى الشعب الكونغولي للالم الذي انزلته بهما"..
واقر بأن السلطات البلجيكية اظهرت «فتورا» و«لا مبالاة» تجاه باتريس لومومبا. وتابع ان «بعض اعضاء الحكومة آنذاك وبعض الشخصيات البلجيكية من تلك الحقبة يتحملون قسطا من المسئولية لا يمكن انكاره في الاحداث التي ادت الى مقتل باتريس لومومبا»

المصادر:
1- من قتل لومومبا، ملف نشر في مجلة New Africa عدد شباط/ 2000 ونشرت ترجمة له في مجلة الثقافة العالمية/ الكويت، عدد:102، أيلول/ 2000 وقد شارك فيه كل من: فرانسوا ميسي، وأوزي بواتنج، ترجمة رنا مأمون نجيب.
2- موسوعة السياسة، ج 5، مادة لومومبا.

http://www.aljazeera.net/cms/in-depth/african_union/2002/7/7-10-7.htm
http://www.albayan.co.ae/albayan/2002/03/25/sya/1.htm
http://www.albayan.co.ae/albayan/2002/02/06/ola/23.htm
http://news.bbc.co.uk/hi/arabic/news/newsid_1803000/1803187.stm



#عصام_البغدادي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلاقات الجنسية الشاذة – ج3 – الجانب العلمي
- العلاقات الجنسية الشاذة –ج 2- أمراض الشواذ
- العلاقات الجنسية الشاذة –ج 1- قضايا
- بريجيت باردو
- أحزمة الموساد المشعة
- مستقبل العلاقات العراقية الدولية
- إنجاز كبير لشركة الياهو
- الاصلاح السياسيى
- مبروك للمرأة العراقية
- الديمقراطية الوطنية
- المرشح الحقيقي
- القادة الاستخباريين
- رسالة كاسترو لبوش: سأكون في المقدمة
- -الاحذية الطائرة..احدى الادوات الحضارية الثقافية للعراقيين ا ...
- الرسائل والسيارات المفخخة
- الشيخ الاستاذ المهندس
- أتهامات ضد القذافي- حاكم ليبيا توزع بالبريد الالكتروني
- الرياضى العربي والاولمبياد
- مجلس الحكم والعلم العراقي
- هؤلاء كيف ينظرون لمقتدى الصدر؟


المزيد.....




- صدامات بين الشرطة والمتظاهرين في عاصمة جورجيا
- بلاغ قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية
- فيولا ديفيس.. -ممثلة الفقراء- التي يكرّمها مهرجان البحر الأح ...
- الرئيس الفنزويلي يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
- على طريق الشعب: دفاعاً عن الحقوق والحريات الدستورية
- الشرطة الألمانية تعتقل متظاهرين خلال مسيرة داعمة لغزة ولبنان ...
- مئات المتظاهرين بهولندا يطالبون باعتقال نتنياهو وغالانت
- مادورو يعلن تأسيس حركة شبابية مناهضة للفاشية
- الجزء الثاني: « تلفزيون للبيع»
- عز الدين أباسيدي// لعبة الفساد وفساد اللعبة... ألم يبق هنا و ...


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - عصام البغدادي - خطاب الدموع والدم والنار