أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - مفيد مسوح - الجـلادون واللغـز















المزيد.....



الجـلادون واللغـز


مفيد مسوح

الحوار المتمدن-العدد: 875 - 2004 / 6 / 25 - 16:04
المحور: الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
    


(قصة قصيرة)
(تنويه: الأسماء المذكورة ليست كلها بالضرورة أسماء لأشخاص حقيقيين)
هلِعة ً هبـَّت أم فايز من فراشها بعد أن أكلتْ نطحة ً قوية من رأس أبي فايز وقد كان شخيره منذ لحظات قوياً كهدير بوسطة (النـَّبك) العتيقة وهي تعود عصراً من دمشق محملةً بالسحاحير والكراتين واللفات والأكياس والعشرات من الموظفين والعساكر والطلاب بتعبهم وعرقهم ورائحة ملابسهم وأنفاسهم وسجائرهم.
بسملتْ وحوقلتْ واقتربتْ من النافذة تزيح ساترتها علَّ بعض الضوء يتسرب إلى الداخل فيمكـِّنها من تبيُّن الأمر، الفجر أذِن قبل قليل، السكون يخيم على الحارة والصقيع يكبل كل شيء، فلا نباح كلب ولا نهيق حمار أو ثغاء خروف أو خواء بقرة أو صياح ديك. هذا الشتاء قاس كعادته والحطب قليل والريح قوية لا ترحم، تريد اقتلاع السقف بخشبه وترابه وتمنع مدفأة المازوت من الاشتعال .. أبو فايز مشغول وقلق ولا يهتم بشؤون البيت خاصة في هذه الأيام العصيبة.
تناولتْ الطاسة ومدت يدها في الخابية المرتكزة وسط كرسي خشبي اهترأ قش مركزه منذ زمن:
- قوم شراب وسمِّ بالله .. شو قصتك يا بو فايز؟
- سكتي يا مرا .. لولا الله كان راسي انفجم
- انت ولا أنا؟ ولك ليش نطحتني ياتور؟ الله وكيلك حسيت السقف وقع ع راسي.
- أنا ما نطحتك .. أنا بعَّدت راسي عن البسطار ياللي مدري أي ابن حرام شلحو عليِّ.
ويضحك الإثنان ضحكة مبكرة بدأ الزوجان الستينيان نهارهما التقليدي بها. ويقوما إلى الحمام وكل منهما يشد بطانيته فوق كتفيه وعنقه تجنباً للسعات البرد. المسافة من باب الغرفة إلى باب الحمام أو المطبخ لا تتعدى العشر خطوات ولكنها كافية للريح الشتوية الصباحية القادمة من الغرب محملة بصقيع جبال القلمون كي تخترق جلد الكتفين وجمجمة الرأس فتصيب ضحيتها بالرشح والسعال. أبو فايز يلبس في الليل من الهدوم أكثر ما يفعل في النهار لأنه يعتبر البرد غدار يطعن من الخلف.. في النهار يعرف كيف يتعامل مع البرد، عنده في الدكان مدفأة على المازوت تـُدفيء الحارة كما يقول وعنده بالإضافة إليها، للأوقات التي تصارع فيها الريح العنيدة لهيب مدفأته العزيزة، واحدة أخرى من صنع لبنان تعمل على الكاز اشتراها من أحد المهربين.
- وشو هادا بوط أبو القاسم الطنبوري؟
أبو فايز يتلذذ بالحديث أياً كان موضوعه. حـِلـْمُه، بالرغم من إزعاجه وتحوله إلى كابوس راح ضحيتها رأس أم فايز التي مازالت تتلمس مكان النطحة القوية وتضحك لتخفيف حالة الخجل التي لم تكن ظاهرة على وجه زوجها أبداً، كان مادة للتسلية صباحاً مع زوجته وربما ستكون كذلك في مسامرات النهار مع أصدقائه الذين اعتادوا التحلق حول مدفأة الدكان وتبادل الأحاديث والتباري في برتيات طاولة الزهر وهم يشربون المتة قتلاً للوقت ودفعاً للملل.
حِلْمُ أبي فايز الذي انتهى بسقوط حذاء أبو القاسم الطنبوري على رأسه في اللحظة التي نطح رأس أم فايز بها سببُه أن الرجل روى القصة عشية تلك الليلة على أصحابه وقد ذكَّـره بها بسطار أبي دياب، وهو فلاح من الشلَّة رافق عمرَه المرير بسطارٌ ورثه من قريب له عمل في أحد مستودعات الجيش الفرنسي وكان عزيزاً عليه فنال من الاهتمام والتصليح والترقيع ما كان لحذاء أبو القاسم الطنبوري.
تضحك أم فايز وهي ترشف الشاي، إخفاءً لقلق ربما كان سببه الربط اللاإرادي بين حلم زوجها ومجيء ابنها فايز من دمشق بعد ساعات، وتقول:
- أي شو قلة صبابيط .. دكانتك مليانة .. إعطيه شي واحد بالتقسيط
- لاه يا مَرَه .. المشكلة أنو أبو دياب ما بيعجبو أي صباط تاني. المساعد مصطفى جبلو من القطعة فيلد وبوط عسكري من لباس الهجانة .. أخد الفيلد ورد البوط !
ليس عند أبو دياب مقدسات أغلى من الأرض فهي صديقة حياته يشتاق إليها من المساء حتى طلوع الفجر حين يغادر بيته بهمة ونشاط وما أن تظهر أشجار بستانه من بعيد وهي تتبادل العناق مع الضباب القلموني الحليبي اللون حتى يدب الفرح في نفسه وهو يرى المستقبل في غصونها الجديدة الباسقة وأوراقها الطرية وزهورها التي تتحدى الصقيع. الطريق إلى البستان طويلة والرجل يكره ركوب الحمير.. له فلسفته التي تعتبر أن الحمار خُلق لأية خدمة ما عدا الركوب:
- "الحصان خُلق للركوب والبغل أيضاً"
لم يوفق يوماً باقتناء بغل أو حصان .. كلما كبر حلمه بموسم جيد أتتـْه مصيبة تعيده إلى الفقر والدَّين .. ولم يفقدِ الأمل، لأن:
- "الأمل في الأرض والأرض باقية وخيرها فيها".
المساعد مصطفى صديق طفولته وابن الحارة وله مع أبي دياب ذكريات .. صحبتهما مستمرة وسهرات المتة والزهر تجمعهما كل مساء في دكانة أبي فايز وإذا غاب أبو صطيف فهذا يعني أنه مناوب.
الثقة بين الأصدقاء كبيرة ولكنها حذرة في بعض جوانبها. مصطفى أراد أن يساعد أبا دياب لإخراجه من حالة الفقر المزمن بتقديم أوراق ابنه الوحيد دياب للتطوع في الحرس القومي ولم يمل الحديث عن المكاسب وعن العز الذي سيحيط به من كل جانب إن هو أصبح رقيباً في (ح ق) ولكن رفض أبي دياب كان قاطعاً لأن ابنه "الوحيد على أربع بنات" يطمح بعد نيل شهادة البروفيه إلى متابعة دراسته الثانوية وربما الجامعية .. مصطفى يسخر منه ويقول:
- يا سيـْدي انشا الله بيصير وزير كمان بس ما تنسى أنو ابنك المحروس عندو حركات بايظة وبيجوز توصلو ع السجن مو ع الجامعة !
أبو فايز، الذي كان أستاذ دياب عندما كان معلماً في ابتدائية النبك استمر برعايته واهتمامه بتلميذه المهذب الطموح والذكي كما يقول بعد أن أحيل إلى التقاعد. دكانة أبي فايز، إضافة إلى جوها المرح والمسلِّي، مجلسٌ للأحاديث المفيدة انشد إليه دياب في أوقات فراغه فمنحه الثقة وسمح له بتلبية طلبات الزبائن بينما هو مشغول في حديثه مع أصحابه أو بخططه لتحقيق النصر على خصمه في "المغربية"، لعبته التي يفضلها عن باقي ألعاب الزهر:
- لا أحب المحبوسة .. لا أطيق كلمة الحبس ولا أريد أن أحبس أحداً أو أن يحبسني أحدٌ حتى في طاولة الزهر .. ولا يمكنني أن أبدي روحاً رياضية في هذه اللعبة التي تذكرني بقصص المزة والسراج وعبد الوهاب !
فايز في دمشق.
في حي باب توما، حيث يسكن فايز مشاركة مع أصدقاء له من دير عطية، يسكن عشرات الطلاب من القلمون ووادي النصارى وقرى حمص وحماه وطرطوس وأحيائها .. جامعة دمشق هي الجامعة الوحيدة التي يدرس هؤلاء الطلاب في كلياتها ويتخرجون مدرسين ومهندسين وأطباء وصيادلة ومحامين. وفايز درس الثانوية العامة في دمشق وهو الآن في السنة الثالثة - قسم الأدب العربي في كلية الآداب. أولاد أبي فايز الآخرون مازالوا في مراحل الدراسة الإعدادية والثانوية، أكبرهم عمَّار المجتهد والمتفوق في الصف الثاني الثانوي لا يكف أبو دياب عن مطالبته بالاهتمام بابنه دياب .. خطورة الانتماء السياسي لعمَّار لم تكن مصدر قلق لأبي دياب المتعاطف إلى حد كبير مع اليساريين والشيوعيين الملاحقين من قبل السلطة لا بل كان يتمنى لابنه دياب أن "يشغـِّل دماغه" ويحرص على الاستفادة من صحبته لعمار و "يطلع ذكي" مثله .. كان بفطرته يدرك حقيقة الارتباط بين فكر أبي فايز وأولاده وتفوقهم الدراسي ونجاحهم.
أبو دياب والمساعد مصطفى والحنتوش ومراد السبع أهم أعضاء الشلة .. كانوا يعتبرون الأستاذ كبيرَهم ينتظرون اللقاء به للاستماع إلى أحاديثه السياسية وتحليل ما يجري من أحداث. حتى المساعد مصطفى، العسكري في رحبة القطيفة، لم تحل حالات الملاحقة والاستدعاء والاستجواب والزج في السجون، والتي أصبحت روتيناً يومياً طيلة أيام الوحدة بين سوريا ومصر، دون المحافظة على علاقات الود والمحبة بينه وبين أبي فايز وباقي الأصدقاء:
- "بيننا عشرة عمر يا أبو فايز .. فيها خبز وملح ومتـِّة كمان ! "
يضحك أبو فايز الذي يحظى بمكانة كبيرة ومحترمة لدى جميع أبناء النبك .. فقد كان معلماً ومديراً لأكبر ابتدائية في البلدة وهو ابن واحدة من أكبر عائلاتها ولها تاريخ في مناهضة الاستعمار الفرنسي وقبله الاحتلال التركي:
- ألله يحييك ويديمك يا أبو خلف
أيام سوريا لم تعد كسابقتها بعد الاستقلال ووعود حكومة الوحدة وإجراءات الدعم الظاهري للعمال والفلاحين لم تثمر ولم تحل دون تزايد مظاهر الفقر والبؤس والبطالة .. ربيع 1960 لم يكن يشبه أي ربيع آخر شهدته سوريا منذ الجلاء. الربيع الماضي كان أخف وطأة ولكنهما لم يكونا كربيع 1958 الذي كان عادياً وكانت الفرحة والسعادة والاطمئنان تغمر وجوه المواطنين من أقصى الشمال إلى الحماد وحوران والجولان، مواسم الفلاحين كانت وفيرة وكان الطقس معتدلاً ولطيفاً. ومع ذلك فقد شهد ذاك الربيع حدثاً مجلجلاً سرعان ما بانت نُذُرَه جليةًً إلى حد القلق. كانت ثقة الناس بحكومة ما قبل الوحدة مع مصر مازالت مقبولة وكان دور البرلمان مصاناً وقد رعاه رئيس الجمهورية شكري القوتلي.
فمع بداية عام 1958 بدأ التآمر على البرلمان ورئيس الجمهورية من قبل رئيس الأركان يشجعه مجموعة من الضباط الذين تجاوزوا الرئيس والبرلمان وتوجهوا بوفد عسكري إلى مصر استعجالاً لرئيسها جمال عبد الناصر بإعلان الوحدة الكلية بين البلدين. وسرعان ما نال هذا التجاوز الموافقة والدعم والتأييد من وزير الخارجية الذي أقنع القوتلي وأصبحت الوحدة واقعاً لا نقاش فيه أُعلن في 21 شباط (فبراير) وكان أول متطلباته إعلان استقلال القوات المسلحة عن السياسة وحل جميع الأحزاب السياسية. كافة الأحزاب ما عدا الحزب الشيوعي السوري تجاوبت أو أذعنت لطلب الريس جمال وهنا بدأت الكارثة التي كانت أولى ثمراتها إنشاء حكومة معظم وزرائها من حزب البعث المنحل وتسريح الضباط الشيوعيين وحتى عفيف البزري لارتباطاته معهم وصعود نجم ضابط المخابرات الشهير عبد الحميد السراج الذي أصبح وزيراً للداخلية وأذاق الناس الأمرَّين.
محاولات المواطنين السوريين لتقبل الوحدة والتأقلم مع شروطها وكذلك السعي الناصري المحموم لفرضها بالقوة والإرهاب لم تفلح على الإطلاق ولم تنته لصالح عرَّابي الوحدة في مصر وسوريا. وقد تعقدت الأمور السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتأثر قطاع التعليم وولـَّت الحياة النيابية التي افتخر السوريون بها وبأجواء الحرية والديمقراطية التي خيمت على الوطن بعد الاستقلال. البلدان العربية المجاورة شهدت أحداثاً ساخنة، فالحرب الطائفية في لبنان كان للمخابرات المصرية ضلعاً في تأجيجها وبدأ تشكل أحزاب ناصرية تصارع أحزاب لبنان التقليدية من اليمينية المتطرفةً إلى الشيوعية. أما في العراق فقد دعم رئيس الجمهورية العربية المتحدة انقلابيي 14 تموز (يوليو) 1958 الذين أطاحوا بالنظام الملكي الهاشمي وتسلموا السلطة التي طالبها جمال بالانضمام إلى الوحدة المصرية-السورية وإذ رفض عبد الكريم قاسم والحزب الشيوعي العراقي هذا الطلب برز اسم عبد السلام عارف بديلاً شكل مع البعثيين وغيرهم ائتلافاً ارتكب مئات الجرائم البشعة بحق الشعب العراقي تحت ذريعة حماية النهج القومي الوحدوي والسلطة المدعومة من قبل من سمي آنذاك (السلطان الأحمر)، عبد الحميد السراج!
صعَّدت حكومتا سوريا ومصر الخلاف مع الشيوعيين في كلا الإقليمين وقامتا بتوظيف الأحزاب الموالية في العراق ولبنان لافتعال الخلافات مع قوى اليسار والشيوعيين.
وقبل أن تحتفل الجمهورية العربية المتحدة بالذكرى الأولى لانطلاقتها شهد شتاء 1959 حملات اعتقال وتنكيل شملت شيوعيي ويساري البلدين وعائلاتهم وأصدقائهم الذين غصت بهم سجون العاصمتين والمدن الرئيسية ورافق هذه الحملات إلغاء تام للحياة السياسية خارج إطار الاتحاد القومي ومداهمة المنازل والمكاتب والمطابع ومصادرة المكتبات حتى المنزلية منها. المواجهة بين حكومة الريس متمثلة بالسراج ومفارزه من جهة وخلايا الحزب الشيوعي السوري كانت على أشدها في كافة المناطق السورية.
سياسة العداء السافر للفكر الشيوعي والماركسي أوصلت علاقة عبد الناصر مع الحزب الشيوعي السوفييتي إلى حالة التردي، مع أن تلك السنوات شهدت عملية تحضير وإبرام اتفاقية إنشاء السد العالي - الحلم الكبير للشعب المصري – وتعاوناً كبيراً في كافة المجالات مع الاتحاد السوفييتي، وسرعان ما ارتمت السياسة الناصرية في مستنقع العزلة التامة على الصعيدين العربي والعالمي ووصلت الأوضاع الداخلية في سوريا ومصر إلى أسوأ حالاتها وتوترت العلاقات مع العراق والسودان والسعودية والأردن ولبنان وتهيأت الأرضية الموضوعية للحرب الأهلية في اليمن.
حملات الاعتقال في سوريا وصلت إلى كافة أحياء المدن وغطت جميع البلدات والقرى حتى تلك النائية في أطراف الوطن. لقد جند عبد الحميد السراج، على مرأى ومسمع عبد الحكيم عامر وبمباركة جمال عبد الناصر آلاف الضباط والعسكريين والحرس القومي والمدنيين وأعضاء الاتحاد القومي لتمشيط البيوت والمدارس والمصانع والمؤسسات الحكومية ودك سجونه بعشرات آلاف المعتقلين بتغطية من إجراءات أحوال الطواريء. لم تنج قرية من مداهمات فرق ومفارز (الجلاد)، ومن دخل السجن اعتبره أهله من المفقودين إلى أن يتدبر الوطن أمره مع المجرمين.
مئات القصص والروايات كان المواطنون السوريون يتبادلونها سراً حول ما جرى ويجري من تنكيل وبطش وإرهاب وتسريح تعسفي أو نقل إلى مناطق نائية ومن مختلف أساليب التعذيب الجسدي في سجون السراج، تلك التي لم تكن تعرفها سوريا قبل الوحدة.
عدد كبير من الرفاق والكوادر الحزبية اضطر إلى الهرب فلجأ إلى لبنان، التي احتضنت عائلاتها الشيوعية مئات منهم، أو إلى البلدان الاشتراكية. حالة التشرد والبطالة والعوز التي خلقتها سياسة البطش تركت آثاراً سلبية على المجتمع السوري لن يمحوها الزمن.
ومع هذا فإن المواطنين في سوريا لم ترهبهم وحشية السلطة وأجهزتها فاستمر نضالهم العنيد تحت الأرض واستمروا في حملاتهم المضادة لتكريس حالة الانعزال والرفض للسلطة القمعية وللهيمنة الناصرية على الوطن. واستمر الشيوعيون في عملهم الحزبي سراً وفي التنسيق على صعيد القيادة مع رفاقهم في الحزب الشيوعي اللبناني وتصاعدت روح التضامن من شعوب البلدان الشقيقة المجاورة ومن البلدان الاشتراكية وحركات التحرر والسلم في العالم. جمال عبد الناصر الذي سجلت له الفترة السابقة عدة مبادرات إيجابية على الصعيدين العربي والعالمي متمثلةً بحركة عدم الانحياز (1955) ومنظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية (1957) وقع الآن في عزلة وأصبح محط الانتقادات الشديدة من رؤساء وحكومات ومنظمات دولية عديدة ساءلتـْه مراراً عن حقيقة ما يجري في سوريا ومصر وعن حقيقة دعمه لمجموعات مسلحة تقوم بالتطاول على سيادة وحرية بلدان أخرى عربية وإفريقية.
ولم يأبه عبد الناصر بالانتقادات العالمية لسياسته واستمر بدعمه للسراج الذي أصبح نائباً له فكفر الشعب السوري بالوحدة والعروبة وبالثورية المزعومة للبرجوازية الصغيرة الانتهازية.


طبق الترويقة الذي حضرته أم فايز تقليدي وله طقسه الذي ينعكس نجاحه على المزاج طوال النهار. لبَـنة مجففة ومغمورة بالزيت العفريني ومكدوس مصنوع من باذنجان حمصي وجوز حلبوني وفليفلة القلمون ومغمور بالزيت أيضاً وزيتون طرطوسي وبيض بلدي مقلي بالسمن الحموي وجبنة من الرقة.
- سفرة دايمة يا أم فايز والله ما بستاهل هالترويقة الطيبة .. بعدو راسك ع ميوجعِك محل النطحة؟
ترفع أم فايز الطبق وهي تضحك.
أم فايز طيبة للغاية. قلبها كبير وعقلها أيضاً. تعرف معنى الصبر وتعرف أن مواجهة القسوة بالحُلم يخفف وطأة الحال. لذا تراها دوماً وابتسامة الرضى تملأ عينيها وفي وجهها تحس حالة من الاستبشار بالخير والتفاؤل الدائم: "بحياتها ما دامت لحدا". ولكن الحقيقة هي أن أم فايز تخفي وراء هذا الوجه النضر قلقاً وخوفاً من المجهول لا يقل عن ذلك الذي خلق عند جاراتها وقريباتها إلى حالة من الترقب والهلع وانعدام الثقة، فمن دون أن تـُردنَ ذلك تجاوبْنَ مع ما تريده السلطة فحل الشك والتردد عندهن محل الثقة والصراحة السابقة واقتصرت أحاديثهن، خارج إطار الحلقات الضيقة، على الموسم والمؤونة والطقس وشؤون البيت والمعاناة من غلاء الأسعار. ومع هذا فإن أحداً من الجيران والأقارب لم يتردد بزيارة بيت ودكان أبي فايز الشيوعي المعروف والذي يقبع أحد أخوته في سجن المزة منذ أكثرمن السنة. لقد عرف أهالي القلمون بشجاعتهم في مواجهة الأمور وعدم السماح بتأثير تلك الأوضاع على حياتهم الاجتماعية.
وأم فايز صاحبة حنكة وتعرف كيف تحافظ على اللسان المشترك مع النساء في الحارة وهي على صحبة وعلاقة مودة قديمة مع أم خلف زوجة المساعد مصطفى، قريبتِها من ناحية والدتها. أم خلف من (دير عطية) البلدة الملاصقة للنبك .. في البلدتين منظمتان قويتان للحزب وكان لكوادرهما شأنٌ في الحياة السياسية. ابراهيم، أكبر أخوة أم خلف، ضابط ذو رتبة رفيعة في إحدى أهم مجموعات السراج ويقودها ضابط آخر من البلدة يدعى عبد الوهاب. كانت لأم خلف علاقات جيدة من خلال زوجة أخيها مع عائلة عبد الوهاب.

قامت أم فايز إلى المطبخ وهي تفكر بما ستحضره للغداء. فايز قادم من دمشق وهو يحب المحاشي .. تركت طبق الإفطار كما هو على طاولة المطبخ للأولاد يتناولون "لقمة ع الماشي" وهم يتوجهون إلى مدارسهم.
أما أبو فايز فقد خرج إلى الدكان فاتحاً غَلـَقه المعدني وبدأ بإعادة ترتيب المعروضات المتنوعة تنسيقاً وتعليقاً وفتحاً بانتظار زبائنه وموردي البضائع الذين يوافونه باكراً جداً. ولم ينس أن يفتح المذياع على إذاعة لندن كعادته.
لم تمنع أخبار الأوضاع في سوريا ومصر والعراق واليمن وبقية بلدان الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي، وقد كانت مقيتة ومقلقة للغاية، من الانشراح لأخبار دوى العالم لها عن انتصارات كوبا وفيدل كاسترو أو أخبار رواد الفضاء السوفييت أو الاستمتاع بأخبار صراع الرؤساء الأميريكيين كندي الشاب المحبوب وجونسون المتآمر على الرئاسة. وكانت أسارير أبو فايز تنفرج كلما سمع ما يتأكد معه نجاح الثورة الكوبية وحصولها على الاعتراف العالمي "أي هادا بلد وهادي ثورة وياهيك الثوار أو بلا"، قاصداً تشي غيفارا وفيدل كاسترو.

سجناء النبك ويبرود وجيرود ودير عطية والحُميرة وغيرها من قرى المنطقة كثيرون ومن كافة الأعمار والملاحقون والمتخفون أكثر عدداً والمداهمات المتقطعة تقض مضاجع الأهالي وتحرمهم الهدوء في حياتهم اليومية. وجود ضباط من بعض القرى والبلدات في الداخلية وأجهزتها لم يشفع لهم ولم يخفف عنهم عبء سياسة القمع، نهج السلطة الوحيد المرافق لثقافة وإعلام تأليه (البطل) عبد الناصر وتجميل صورته واصطناع التأييد الشعبي عن طريق تسيير التلاميذ والعمال في استعراضات جماهيرية تردد (بطل الثورة إحنا معاك) و (يا ريس يا كبير القلب ... إخترناك وح نمشي معاك).
ولم يكن من السهل أبداً الحصول على معلومات عن سجناء النبك أو دير عطية عن طريق أولئك الضباط. تسريب المعلومات يعتبر خيانة عظمى للوطن تحاسب عليه قوانين الأحوال العرفية فوراً ودون رحمة.
كسائر أهالي الوطن استمرت حياة أبي فايز وأصدقائه وأبنائهم مليئة بالحذر والتحايل والتهامس وتحاشي المواجهة انتظاراً للفرج.
خطابات الريس جمال، التي تـلت خطاب الذكرى الأولى لإعلان الوحدة والذي حضر إلى سوريا لإلقائه في دمشق أمام حشد سعى السراج حينها لإظهار قوته ومكانته الجماهيرية من خلاله، هذه الخطابات لم تكن أقل عنفاً وحدة تجاه الشيوعيين واليساريين في البلدان العربية التي تصور نفسه زعيماً لها في المستقبل القريب. لقد فاجأ تأكيده في خطاب 22 فبراير على استمرار سياسة القبضة الحديدية ضد أعداء الوحدة أولئك الذين كانوا يراهنون على نجاحها لما حمله من عبارات التهديد والوعيد، وقد كانوا يتأملون إعلانه الإفراج عن المعتقلين السياسيين. كما أن لغة التحدي التي وجهها إلى من يمارس عليه الضغوط ، قاصداً الاتحاد السوفييتي وتلويحه بإمكانية "تنويع مصادر الأسلحة" خيب آمال الوطنيين والتقدميين المعادين للسياسة الاستعمارية. وما أن عاد الريس إلى مصر حتى تضاعفت حملات القمع وبدأت تتسرب معلومات من السجون عن فظاعة ما يتعرض له السجناء من أساليب التعذيب الجسدي وشراء الذمم والتخويف بالتنكيل بالأهالي خارج السجون.
أبو فايز، انطلاقاً من كبريائه ورفضه التعامل مع كل من يؤيد سياسة السراج وأجهزته ويعمل معها حذر زوجته مراراً من التطرق إلى حالة أخيه في السجن أمام أم خلف أو قريباتها. أم فايز لم تسأل أبداً ولكنها لم تغلق موضوعاً تحدثت فيه أم خلف من شأنه أن "يودي إلى طرف خيط" .. وكانت تنقل المعلومات أولاً بأول إلى أبي فايز الذي غالباً ما هزأ من أهمية هذه الأخبار. كانت الحكايات والإشاعات "أكثر من هموم القلب" كما وصفها الحنتوش، صديقهم البعيد عن السياسة دون أن يخفي تعاطفه مع السجناء ومقته لأجهزة القمع.
أما فايز الذي لم تطله يد السراج لكونه غير مكشوف ويتظاهر بالحيادية والاهتمام بدراسته فقد رأى في أم خلف مصدراً مهماً للمعلومات فما أن يصل إلى البيت ظهيرة كل خميس إلا ويبدأ بتوجيه أسئلته إلى أمه:
- "أيه .. شو آخر روايات أم خلف .. خبريني"
ولم تبخل أم فايز .. كانت تحرص على نقل كل ما تسمعه أو تراه ولم تتردد في إبداء رأيها أو في محاولة تفسير بعض القصص .. و كانت تلجأ كثيراً لـ "فلفلة" الأخبار و"تبهيرها" ، كما يقول أبو فايز، كسباً لتقدير أهميتها!
فايز الذي لم يكن يعلق بغير الابتسام كانت عنده خطة للحصول على أكبر قدر من المعلومات التي قد يفيد تحليلها في معرفة بعض أسرار (الداخلية) وأجهزتها فيما يتعلق بالسجناء.
منذ شهر تقريباً أخبرته أمه نقلاً عن أم خلف أن صديقةً لامرأة أخيها ابراهيم، تسكن في دمشق وتتردد على بيت ابراهيم، ذكرت لها في معرض أحاديثهم عن الملابس وأدوات المنزل والبضائع المهربة وملاحقات الدرك ودوريات الجمارك أن أحد المهربين اللبنانيين وقع بقبضة رجال الأمن في الصيف الماضي وهو يعبر الحدود السورية وأحيل إلى مفرزة عبد الوهاب في دمشق للتحقق فيما إذا كانت له ارتباطات سياسية. كان زوج هذه المرأة، ويدعى وجيه، مساعداً لعبد الوهاب في عمله وقالت بأنه كان يناوب معه أو بديلاً عنه واصلاً الليل بالنهار وكان يعود إلى بيته مرهقاً ومعكر المزاج. وقد أفادت ياسمين بأن زوجها تغير كثيراً في الأشهر الأخيرة وأنه أمام إلحاحها لمعرفة سبب قلقه الكبير وكوابيسه التي أصبحت يومية حكى لها قصة المهرب اللبناني الذي اضطرهم صمته وعناده وتمنعه عن الإجابة على أسئلة عبد الوهاب ورئيسه سامي إلى اللجوء إلى الضرب والتعذيب:
- وهل كان الضرب مبرحاً
- في البداية لم يكن شديداً ولكن عناده أتعبنا ولم نعد ندري ماذا نفعل
- وهل يستحق المهربون الضرب لهذه الدرجة؟ أي والله لولا المهربين ما كان حدا شبع يازلـَمه !! بيتنا كل بضاعتو تهريب. أنتو لا زم تشكروهم لأن الشعب الجوعان واللي ما بيلاقي حاجتو ممكن يعمل مظاهرات ضد الحكومة.
ولم يستطع وجيه التحدث أكثر من ذلك مع زوجته. ضعفه وحالته النفسية السيئة منعاه من أن ينهرها ولكنه لن يقول لها الحقيقة .. وما ذكره لها فرَّج به عن نفسه وعلل به أسباب تغيره وأرقه وكوابيس الأشهر الماضية دفعاً لأية شكوك أخرى قد تراود نفس ياسمين.
- وبعدين؟
- أخلينا سبيله .. وديناه ع الحدود وسجلنا أسمه ممنوعاً من الدخول.
- هاه .. ليش المهربين بيدخلوا من الحدود الرسمية؟! وشو كان اسمه؟
- أسمه عساف .. وحاجي تسألي يامره
أم فايز التي نقلت لابنها الحديث بتفاصيله وبتساؤلات ياسمين وأم خلف لم تدرك أهمية ما قالت إلا عندما رأت فايز يضب حقيبته على عجل ويغادر على غير عادته، إذ كان من المفروض أن يبات في النبك ليلتي الخميس والجمعة ويسافر صباح السبت:
- يالله بـخاطركم أنا راجع ع الشام .. لديَّ الكثير من الدروس والوظائف .. إلى اللقاء!

في دمشق التقى فايز في ليل ذلك الخميس البارد الموحش مع أحد الكوادر الحزبية ناقلاً له ما سمع حرفياً. كان لا بد لفايز من شرح ارتباطات أم خلف بزوجة وجيه بعبد الوهاب الذي كانت دمشق تعرف موقعه في طاقم سامي جمعة وأجهزة عبد الحميد السراج.
كان لغز اختفاء فرج الله الحلو، الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني المكلف مؤقتاً برعاية الحزب الشيوعي السوري في ظل الظروف القاسية التي يمر بها ولغياب أمينه العام، يشغل بال قيادتي الحزبين الشيوعيين في لبنان وسوريا وكافة المناضلين السوريين واللبنانيين وقوى وحركات ومنظمات السلم واليسار والتقدم في البلدان العربية والعالم. وكانت أصابع الاتهام تتجه إلى الجلاد عبد الحميد السراج وأجهزته التي لم تتورع عن مد ممارساتها القمعية وصولاً إلى قلب البلدان المجاورة، لبنان والأردن، وللسراج سوابق تجاه شخصيات كبيرة في لبنان كما في سوريا. ولكن محاولات الحزب عبر شخصيات من الداخل أو جهات رسمية حكومية أو حتى حكومات ومنظمات عالمية ضغطت على عبد الناصر للحصول على معلومات عن فرج الله الحلو باءت بالفشل وتهربت الحكومة السورية من أية مسؤولية ولم يـُعثر على أي أثر له ولا على سجل ولا على جثة. ولم يبق للشيوعيين غير الأمل والاقتناع بأن فرج مختطف وفق خطة محكمة لإبعاده عن الحياة السياسية ولإرهاب الحزب وأفراده. كان لأية معلومة يكبر معها هذا الأمل أو تنجلي بفضلها الحقيقة أهميتها عند قيادة الحزب السرية.
ويتحول الخبر الذي نقله فايز إلى "معلومة ذات قيمة" تـُنقل إلى الحزب الشيوعي اللبناني بصيغة سؤال: "هل تعرفون أحداً من الرفاق اللبنانيين دخل إلى سوريا باسم عساف؟"
استغرق توجيه السؤال والحصول على جوابه ستة وعشرين يوماً وكان الجواب محيِّراً أخذ غياب فرج الله بسببه سمة (اللغز). فايز الذي علم من قيادة الحزب بأن فرج الله الحلو دخل من نقطة الحدود (المصنع) باسم (عساف) قرر متابعة الطريق مع أم خلف وزوجة أخيها علـَّه يعرف المصير الفعلي لـ (المهرِّب) الذي سببت حالته لوجيه (المسكين) أرقاً وكوابيس ليلية. ومع أن حيرته في هذا اللغز كانت كبيرة، إذ أن حديث الرواية يفيد بأن (عساف المهرب) أُخلي سبيله بينما لم يظهر فرج الله في لبنان، إلا أن قلقه لم ينل من إصراره على الاستمرار دون إثارة الضجيج.

- شمس شباط هذا العام "ما علـَّمتْ ع البلاط" .. أهلين أبو أسعد صباح الخير .. فوت من البرد.
أبو أسعد الحلاب صاحب بقرتين هولنديتين يبيع حليبهما الوفير كاملاً لأبي فايز الذي يبيع بدوره قسماً منه وتروِّب أم فايز الباقي ليبيعه في اليوم الثاني لبنا رائباًً. يسند أبو أسعد دراجته الصِينية المثقلة بالاسطوانتين المملوءتين بالحليب على جانبي السرج الخلفي:
- شو الأخبار يا أبو فايز
- الحمد لله .. ما في شي جديد
- ع متطمنوا على أخوك؟
- وكيف بدنا نتطمن يا أبو أسعد .. ما نك شايف الحالة .. اللي بيسأل عن سجين ولو كان أبنه يعرض نفسه إلى مائة سؤال وجواب ويمكن يلحقو كمان!
- الله يكون بعونكن يا أبو فايز ويفـْرج همومكن.
أبو فايز مثل غيره من آلاف الشيوعيين الذين لم تتسع لهم سجون السراج، الذي لم تسجل عيون أجهزته ممسكاً مباشراً عليهم. لو أن هذا الجلاد العديم الرحمة والإحساس أراد أن يزج كل محبي الفكر الاشتراكي أو معارضي الوحدة في سوريا في السجن لما وسعتهم مائة مثل المزة.. ربما راق له أن يرى الناس في الشارع يظنون أنفسهم أحراراً بينما هم في نظره كلهم سجناء. كان هذا الوحش الكاسر يعتمد على إرهاب الناس بعرض نماذج من ضحاياه وبنشر الأخبار عن أساليب طواقم الجلادين الذين اعتمد عليهم لتلقين من تسول نفسه له إظهار العداء للسلطة أو الحديث بالاشتراكية غير الناصرية. ولكن قلق أبي فايز على أخيه في السجن وابنه المهدد بأية لحظة كان مكبوتاً في نفسه.
عبد الوهاب، لم تكن له علاقات في ديرعطية أو النبك أو سواهما في القلمون خارج إطار العائلة الضيقة. لم يكن محبوباً ابداً .. هذه عادة الناس الطيبين في سوريا .. لمجرد أن يعلموا أن واحداً من المحيطين بهم يعمل مع أحد أجهزة الأمن يعزلونه عنهم وتبدأ بينه وبينهم حالة من الجفاء وعدم الثقة. وعبد الوهاب، كالسراج، عـُرف في أوساط الشيوعيين وأصدقائهم سواء في دمشق أم في بلدته والقلمون بـ (الجلاد) لما عرف عنه من قسوة ووحشية في التعامل مع السجناء في واحدة من أسوأ محطات التحقيق والتعذيب الجسدي التي كان يديرها الجلاد الكبير سامي جمعة.

فايز لم يأت إلى النبك منذ شهر .. الطريق بين النبك ودمشق غالباً ما تكون مقطوعة أو سالكة بصعوبة طيلة كانون الثاني وشباط. أم فايز تقلق عندما يسافر ابنها في هذا الطقس الذي تكثر فيه حوادث السير، أكثر مما تقلق عليه عندما يكون في دمشق وتقدر سبب عدم مجيئه كل أسبوع فهو يدرس في الجامعة ويعمل مدرساً في نفس الوقت.
اليوم سيأتي فايز على الغداء .. نقل لهم الخبر أحد الأصدقاء يوم الخميس الماضي. أم فايز تدخل إلى الدكان ثم تخرج من الباب الخلفي المطل على باحة البيت مشغولةً "مثل أم العريس" كما وصفها أبو فايز:
- كبيبات وشاكرية ومحاشي؟! أي شو ابنك جايي من مجاعة؟!
ما بين الصباح والظهيرة نهار طويل بالنسبة لأبي فايز .. لا يمر به إلا الزبائن وعددهم قليل خاصة أيام الشتاء. لذا فهو يقضي معظم أوقاته بالقراءة وسماع الراديو. مع الاقتراب من الظهر تحسن الطقس وانقشعت الغيوم وخفت حدة البرد وأم فايز تطل من الباب الخافي مترقبة وصول ابنها العزيز.
في حوالي الثانية وصل فايز فسـُرَّ الجميع وكان البيت قد امتلأ بالعائدين من مدارسهم والأهل وبعض الأصحاب. وما بين سؤال وجواب حان موعد الغداء الذي تلذذ الشاب بأطباقه المتنوعة وبما طاب من طبخات الأم الطيبة:
- يسقط أكل المطاعم ويعيش أكل أم فايز
- ياسلام !! .. شوي شوي أحسن ما تجيك دورية تفتكر أبو فايز وأولاده عاملين مظاهرة ضد مطاعم (الوحدة)
ويضحك الجميع .. فايز مستعجل .. يريد الاختلاء بأمه ليسألها عما أتت به من جديد:
- هل التقيت بأم خلف مؤخراً؟
- لا يا بني .. ولماذا تسأل؟
- أريد أن أعرف المزيد عن المهرب الذي عذبه وجيه .. هل تذكرين؟
- أذكر ولكن كيف لي أن أحصل على هذه المعلومات؟
- بسيطة! تذهبين اليوم إلى أم خلف وتزوري وإياها بيت أخيها. ربما تكون قد عرفت أي شيء جديد .. تستدرجينها بالحديث! .. أعرف أنه باستطاعتك فمهارتك باستدرار جُعَب الأخبار عند النسوان كبيرة يا أم فايز !!
تضحك أم فايز وقد أدركت أنه لا بد من التنفيذ.
أم فايز حريصة ولا تكثر من الأسئلة وليس لديها شك بصحة ما يفعله ابنها وهي لا تتردد أبداً بالقيام بما من شأنه مساعدة فايز على الوصول إلى ما يريد فثقتها به وبوعيه كبيرة.
تفاجأت أم خلف بزيارة أم فايز. كان من المفترض أن تكون مشغولة بابنها فما الأمر؟
- يا أم خلف .. جار ابني فايز في دمشق عنده صديق آدمي والده فاتح دكان في الحميدية وحاله على قدها. هذا الرجل، كما تحدث ابنه لفايز، له شريك لبناني يجلب له البضائع من لبنان، تهريب يعني، نَصَب عليه أمواله واختفى .. وكنت قد حكيت لابني فايز قصة زوجة وجيه مع المهرب اللبناني (عساف) هل تذكرين؟ جاء فايز اليوم يريد أن يعرف أي شيء عن هذا المهرب علَّ وعسى يصل المسكين إليه ويسترد أمواله.
- وهل الشريك الذي تتحدثين عنه اسمه عساف؟
- والله لا أعرف .. ما سألت فايز.
وتلتقي أم فايز وأم خلف بخديجة زوجة ابراهيم وتحدثانها بالأمر:
- الحقيقة أن الحديث فتح مرة ثانية بحضور أم محمد زوجة عبد الوهاب .. تعرفونها!! وكانت أم محمد تعلم عن هذه القصة أكثر من ياسمين وقالت لها: "السلطة اللبنانية بحالها تدخلت لتسأل عن هذا الشخص لأنه اختفى وهو مطلوب هناك في لبنان، فقالت لهم الحكومة السورية، يعني الوزير، أن سجلات الأمن العام قيدت خروجه من سوريا". سمعت عبد الوهاب يتحدث بالهاتف مع مسؤول من دمشق ويقول: "ليست لنا علاقة بعدم وجود ما يثبت دخوله الأراضي اللبنانية .. بالنسبة لنا هذا الشخص خرج من حدودنا .. والسجلات في نقطة (المصنع) تؤكد ذلك"
وتضيف أم محمد:
- لم يكن أبو محمد هادئاً حينها .. كان اضطرابه وقلقه يدل على أن ذلك الشخص من المهربين الـ (تقال) وأن له وزنه وربما كان شركاؤه أعضاء في الحكومة اللبنانية، وممكن أن تكون القضية تهريب سلاح .. مسألة خطيرة .. لا أتوقع يا أم خلف أن الشخص الذي يبحث عنه صاحب دكان الحميدية هو نفسه (عساف).

أم فايز تسمع ولا تشارك في الحديث. أخبار المهربين تحرجها فدكان أبي فايز مليئة بالبضائع المهربة التي يأتي بها المهربون عن طريق (عسال الورد) .. مجموعات التهريب يسرحون ويمرحون في المنطقة وأعين السلطة لا تراهم لأنها مشغولة بملاحقة السياسيين، عداك عن أن المهربين يعرفون طرقاً كثيرة لإرضاء أفراد شرطة المكافحة وإعماء عيونهم.


تصور فايز وهو يراقب غروب الشمس بين تلال (الثنايا) في طريق عودته إلى دمشق في حافلة حلبية استقلها من كراج النبك أن المعلومة الجديدة التي حصل عليها ستساعد في حل اللغز.
حماس فايز للقاء الرفاق ظناً منه أنه يحمل إليهم معلومات مهمة جداً لم يقابله حماس بنفس الدرجة، ربما لأنه كانت لديهم من المعلومات الحديثة ما هو أكبر قيمة، فالصلات مع الرفاق اللبنانيين أصبحت متكررة بكثرة في الأيام الأخيرة وتبادل المعلومات بخصوص المسألة أكد بما لا يدع مجالاً للشك بأن فرج ما زال في سجون السراج والسؤال الوحيد المتبقي هو: "هل الرفيق فرج على قيد الحياة أم استشهد ولم يعلنْ عن وفاته؟".
وفي نصف إغماضة تشابكت فيها أجفان فايز التعبة صانعة صورا ًتأرجحت عناصرها بسلاسة توافقاً مع حركة الحافلة (سكانيا) فوق مطبات الطريق:
- لماذا لا نفترض بأن عساف الذي يتحدثون عنه هو (عساف منصور) أي الرفيق فرج الله
- إن كنت معك يا فايز في هذا الرأي فنحن أمام احتمالين: إما أن يكون الجلادون قد أخضعوا رفيقنا للتعذيب استنطاقاً له وأعياهم كعادتهم مع الصامدين تمنعه عن الإدلاء بالمعلومات التي يتوخون الحصول عليها حتى يئسوا وأطلقوا سراحه بعد إخراجه من نقطة الدخول، إذاً أين هو الآن؟ أو أنه ما زال سجيناً في أحد أقبيتهم، وتجنباً لتعريض الحكومة السورية وكذلك عبد الناصر وعبد الحكيم عامر اللذين سألا عن فرج الله بالاسم، للإحراج أمام السلطة اللبنانية والمجتمع الدولي، فقد قرروا الإبقاء عليه في السجن والتكتم إلى أن يتدبروا أمره. فلنـُقر أنه ما زال في الأمر لغز. للمخابرات سوابق من هذا النوع بالتحديد. تسترهم على تفاصيل عملية اختطاف واقتياد وإعدام أنطون سعادة مستمر حتى الآن وها قد مضت عشر سنوات على هذا الحدث الذي كان محاطاً بألغاز من حياكة الجلادين.
- معنى هذا يا أبو خالد أن الاحتمال الأكبر أن يكون الرفيق فرج حياً في السجن!
- هذا ما نأمله ولكننا سنواصل جهودنا في كل الاتجاهات
- وما الهدف إذاً من إشاعة خبر إطلاق سراح (المهرب عساف)
- بالنسبة لهؤلاء الجلادين المنافقين لا علاقة بين عساف منصور وفرج الله. ما قالوه بأن سجلات الأمن العام لا تذكر دخول شخص يحمل اسم (فرج الله الحلو) إلى سوريا .. ولمن سألهم عن عساف منصور الذي دخل الحدود رسمياً أجابوا بما ذكرتـَه أنت عن لسان عبد الوهاب. ليس من الصعب عليهم أخذ الوثيقة التي دخل بها فرج نقطة العبور وتسجيل عملية الخروج في قيودهم ثم إتلاف هذه الوثيقة.



#مفيد_مسوح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- صك براءة من الفكر الليبيرالي لقناة الجزيرة
- همـزة العفيف وسونيا وفستـان فيفي
- ماذا لو باعت صباح فساتينها ؟!
- نجيـب ســرور الفنـان الرقيـق .. المنــاضل العنيـد - ترتيــــ ...
- العقــل والديــن منفصلان !!
- الأصغر بيوم أفهم بسنة
- مقتطفــات من شعر جميــل صدقي الزهـــاوي في الفلسفة والمـــرأ ...
- شتم المرأة يشفي غليل المتخلفين
- 8 آذار (مارس) اليـــوم العالمــي للمــرأة
- الشبع باستنشاق رائحة الشواء
- استفتاءات قناة الجزيرة وآخر أبواق صدام
- ما ذا يريد عبد الباري عطوان؟
- رحيل المفكر والأديب السوري الكبير الدكتور حافظ الجمالي
- يوسف حنــــا نــورٌ أفـــَـل قبــــل الأوان


المزيد.....




- الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا ...
- جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر ...
- بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
- «الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد ...
- الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
- متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
- نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
- اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا ...
- الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
- اشتباكات في جزيرة الوراق.. «لا للتهجير»


المزيد.....

- سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول / ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
- سلام عادل -سیرة مناضل- / ثمینة یوسف
- سلام عادل- سيرة مناضل / ثمينة ناجي يوسف
- قناديل مندائية / فائز الحيدر
- قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني / خالد حسين سلطان
- الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين ... / نعيم ناصر
- حياة شرارة الثائرة الصامتة / خالد حسين سلطان
- ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري ... / خالد حسين سلطان
- قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول / خالد حسين سلطان
- نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف / سعيد العليمى


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية - مفيد مسوح - الجـلادون واللغـز