|
اضاءات على معاناة الشاعر والانسان موفق محمد
أحمد الناجي
الحوار المتمدن-العدد: 875 - 2004 / 6 / 25 - 05:19
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
نثر فيض مما يختلج في القلب المدمى، من المشاعر والعواطف والأحاسيس ذلك ما نملكه الساعة، كردة فعل لاستذكار ضحايانا في زمن، أقل ما يقال عنه، كان فيه كل شيء مستباحاً، لا أظنها تكفي لسد دين بثقل الوفاء، كان الوقوف بأبسط الأشياء آنذاك أي بتلك المشاعر والعواطف والانفعالات في مواساة الآخرين بأحزانهم، نتاج سطوة الاستبداد المستعرة في كل لحظة، من ضمن قائمة الممنوعات في عرف الجلاد، لأنها بالقطع كانت تعني الاحتجاج، ولذا وضعت تحت طائل أنشطة التصنت والتلصص والفحيح والتكسب، وقد لا يصدق البعض إن التعامل بها في زمن القهر والتردي كان يجري بطقوس سرية، والبعض من خانه الحظ وافتضح أمره، ذهب هو الأخر ضحية بسبب أداها مراسيمها. رغم كل الإدراك بأن الأعزل معذور، على الأقل أمام نفسه، وآخرين ممن يعلمون تفاصيل الحقيقة كما هي دون تشطيب أو إضافات، تبقى تلك المواقف والمبادرات مع كل تواضعها، بلسماً على الجروح التي كانت تنكأ كل يوم، تقوي من أزر هذا، وتشد على أيدي ذاك لتخفف من لوعته، وودت مما تقدم الوصول الى أن الموقف على بساطته، يبقى في لحظته كبيراً، وعندما يتم تقيمه بالقفز على الزمن فأن في ذلك الكثير من التجني. بعد انجلاء الغمة، وتبدد أساطير الرهبة الموجعة، وتكسر أطواق التكبيل المقيتة، وتهتك تفانين الظلم والجور التي ما عادت وثابةً كما السابق، أو قادرةً على تكميم الأفواه، صار الإفصاح والبوح لزاماً، عن مكنون يقبع في الذاكرة، رُصِدَ يوماً، وبقى ردحا في كينونة أسرار، فالخشية أن يمكث مكتوماً، أو في الأخر يهرب من حافظة العمر عبر شبابيك التقادم المشرعة الى طي النسيان. هذه المحاولة المتواضعة تأتي لتسليط ضوء على نتف من صور إنسانية لمواقف فردية كثيراً ما تكررت وبقت أحداثها وشخوصها مجهولة، في ذلك الخضم الصعب الذي تمتحن فيه إرادة الإنسان حقاً، ولكن القرب منها منحني، فرصة الغور في كل تفاصيلها عن كثب، بحكم الانتماء الى مدينة صغيرة، وديعة، لم ينصهر بعد ما بين أبنائها من وشائج، ولا أظن كل التصحر قادراً على النيل من خصبها. في مديني حضارة تمتد الى الآلاف السنين في مدينتي ثقافة تمتد الى بضع قرون في مديني فرات صغير يمنحها الدفء والحياة في مدينتي لوعة ظلم وأنين وفي مدينتي أيضاً شاعر حزين هو المبدع موفق محمد، الشاعر والإنسان والمثقف، تلظى في حقبة العتم بجور الاستبداد، والاستلاب الفكري، تعرض لأبشع صور محق الذات، ذلك ما كان يسبق إحالة الجسد الى حطام، توطن بالمقسوم، أنف التكسب كما كان جارياً، ورفض التغزل بالدبابة والسمتية والزيتوني، استهجن كل أساليب التبضع، والتنقل بين ألوان القوس القزحي، رَضِيّ مدرس اللغة العربية أن يمتهن بيع الشاي، وقَبِلَ بكسرة خبز، وبقت الهامة مرفوعة. رغم كل أساليب الجور والابتزاز التي قارعها بالصمت، ملاذ المأسور غدراً، لم يهدأ سيف الجلاد حتى أقتنص فلذة كبده، ( وكان طالباً في كلية الهندسة، واحداً من ضحايا المقابر الجماعية الذي لم يعثر له على قبر)، صار حزن الأب المتجذر في القلب حزنين، هامت روح الشاعر تستجلي كل مكان، تبحث عن تلك الوردة الزاهية الفواحة التي كانت تملأ بالعطر فناء الدار، تبحث عن ضجيج كان بالأمس يعج به البيت، وما أن خلى منه حتى توشح البيت ومن فيه بالسكينة والسواد، ويجيء صوت الشاعر رغم الأنفاس المتعبة، وسط الرهبة التي تكورت في الحيطان وصارت تسترق السمع. ميت أنه ميت أنه.. ولا خط يجي عن موتك سوده وحشتك يولدي.. حرموك من تابوتك مشجولة ذمته المرمرك.. لا تبري ذمته مروتك ما ناح طير على الشجر.. إلا إعله نغمة صوتك حيل ادلهمت يا نبع كلبي.. وكمرنه مدمه موس الخناجر تاكل بلحمك.. تفطر النجمة عميه وتدور إروحيتي.. بيا بير أدور يمه وما ظن بعد تطلع شمس.. وتزول هاي الغمة وفركاك فت مرارتي.. وضاكت عليّ الجلمة لا كبر وأتهدل إله.. والهم إترابه وأسأله الكلب صاير كربلا.. ولا خط يجي عن موتك * * * يتنفس بشفته الورد.. والنجم غافي برمشه هد حيلي موتك يا حلم.. يبس الطير بعشه إنجان مت بلا كبر.. أنه كبر يتمشى بلجن تفز إروحيتك.. يوم وإتطير الوحشة والكاك أقفلك بالرحم.. وأنطيهم أذن الطرشه يا حلم ما رد الهله.. وصدره رصاص ومنقله الكلب صاير كربلا.. ولا خط يجي عن موتك * * * ما تخلص كبور البلد.. دفان ينخه بدفان ومشله إشليله الشفل.. ويطمهَ عدلهَ الشبان ياريت ما جبتك ولا.. هلهلت يمه النسوان يصل عظمك بصل الشفل.. وتاكل بعينه الغربان وأوكع وأتل إروحيتي.. وأجبجب إعله البيبان ما رد حلم عايف هله.. ولا طير يعرف وأسأله الكلب صاير كربلا.. ولا خط يجي عن موتك * * * ظل موفق محمد يتجرع هموم مواجعه بصمت، وينفث خلجاته على الورق، فلم تخرج قصائده عما يحيط به، الى عوالم مجهولة تحسباً من سطوة الرقيب، بل ظلت تنوء بثقل هموم ومآسي وويلات توحد على مراراتها أبناء الرافدين، وفي خضم هول الظروف القاسية تلك، كان يشد الخطى بروحية الشاعر المتمردة، يطارد حلمه القَصيّ، الذي بات تحققه بمرور الوقت خافتاً، بل في حكم المستحيل، يدرك جيداً ما يجري على أرض الواقع من صلف وتقتيل، لم تفارقه صورة ولده الموسومة في القلب، ولا تلك المعلقة على الجدار، يناجي في واحدة من قصائده ذلك العزيز المغيب بأحاسيس مرهفة، يرقب لحظة، يحسبها أهوالها بالذهن المتقد، والخيال الشعري الرحب، ويأتي صوت ذلك الجريح هادراً. قلبي على ولدي الذي مازال مصلوبا على حمم البراكين التي رضعت جهنم بالحليب الدسم وابتكرت من لحم أهلينا الوقود وبالعربان ولا بالتربان وكأن العمر رماد وعيون تتجمل في الضراء وتبكي في السراء تتوسل... تسأل عن عصفور أعزل مكتوفاً تحدق فيه البنادق كل شيء حديد هل كان أبني حلماً في خاطر كل شعيرات التسديد أترى يلمس ظلك ظلي في ثقب الإبرة أسمع صوتك في حبة قمح تنزف تحت الأرض وتكاد تضي.. ولم تمسس حزنك يا طفل الورد وفي لجة زمن القحط والجدب التي إستشرى فيه التردي بشكل رهيب، وطال كل شيء، وحبى الخواء في كل الاتجاهات، وتضاءل الأمل الى حد التلاشي، واستوطن اليأس كل ألاماكن، ونَسَجَ الإحباط خيوطه في كثير من العقول، في وسط كهذا يكاد يغفو الجمع على إيقاع تنويمة واحدة، ينفرد موفق محمد عن هذا الجو في واحدة من قصائده، يوقد شمعة وسط نفق الظلام الحالك، ويفرد متسعاً لبصيص من الأمل، حينما يحاكي صاحبه بعد أن تبخر له كالعادة أملاً كان يعلق عليه الكثير بالخلاص، كان ذلك هو صديقنا الراحل حسن عمران مدرس اللغة الإنكليزية المنكود الذي لم يقبل أن يقايض، وارتضى التوحد مع الهموم وحتى الجوع الكافر، وصارع جبل معاناته بالسخرية المحببة، ولكن القدر ربما استجاب لرفضه المتكرر لحياة من دون طعم، فتسربلت أيامه بسرعة، تاركا أصحابه، موفق والآخرين لوحدهم، وكان صوت موفق ناقوساً، يعود صدى ومعه ترنيمة جميلة، يستشرف حدثاُ آت. ما صارت ولا جرت ياريت عيني عمت لا تيأسن يا حسن، كل ماسه وإلهله مسن إشما يجور الزمن، وتعيث بينه المحن لا تيأسن يا حسن، كل ماسه وإلهله مسن البينه لو بالصخر، صاح أخ من القهر الكَلُبْ كصه الطبر، وبنياطه خاط الجفن لا تيأسن يا حسن، كل ماسه وإلهله مسن فقد أصبحت فيما بعد تلك القصيدة كما النشرة السرية التي تتناقل بين الأكف بلهفة وشوق، وكثيراً ما كان تطلب من الشاعر أثناء تجوله، فيقوم باستنساخها لهم، ولعل كونها من القصائد القصيرة يسرت له تلبية ذلك، وللأسف أنها لم تتيسر لي كاملة. ظل صوت موفق محمد في كل الأوقات قريباً من عذابات الوطن، ومعاناة البشر، شعر يكتزن الشكل والمضمون، لغة بسيطة، وعبارة عفوية، ورقة في الصور الشعرية والإيقاع، وجنوح متكرر نحو القصيدة الشعبية، وسخرية موغلة، تبدو أداة طيعة في يد الشاعر يتقوى بها على زمن التشرذم. من قصائده الأخيرة التي ترفل بألم الإنساني العراقي الممتد من أقصاه الى أقصاه، قصيدة لمن كل هذا الرصاص، فالشاعر فيها يصرخ بألم ووجع، يكاد يفطر القلب، يلعن تلك الأيادي التي ما انفكت توغل في ممارسة التقتيل، ونشر رائحة الموت. لمن كل هذا الرصاص يقول الفرات.. ويبكي دماً في هديل الحمام.. وفي شهقة الخوف في السنبلة لمن كل هذا الرصاص يسير الغمام الى المقصلة.. فنصحو على جثة في السماء ستمطر أيامنا المقبلة لمن كل هذا الرصاص تقول لي الوردة المقفلة.. أخاف لأن الرصاص يطرز أيامنا الذابلة لمن كل هذا الرصاص يقول لي الطفل قبل الصباح.. وقد فز من عبوة قاتلة فيا أهل بيتي كفاكم رصاصا فقد أثقل الموت أرض العراق.. وكفن أمواجه الهادرة.. فلا دجلة الخير يروي بنييه.. ولا نخل يأوي من الهاجرة فأين إذا زًمَ هذا العراق.. قبوراَ الى الدول الجائرة.. تُزَمَوّن يا أيها المولعون بزرع المسدس بالخاصرة مَنْ ضيع وطناً.. تلعنه الأوطان.. فلا يعطى وطناً يسألني نجم عن قبر أبي.. فأشير الى شاهدة ملغومة شظت قبل قليل طيراً.. حوقل في حنجرة مالومه فيا سيدي.. يا أيها الممتد عميقا.. والمدعو جذري أرفع نخبك كأسي فأنا لم المس فيك سوى البسطال اللابس رأسي لمن كل هذا العراق أيبقى جريحاً الى الآخرة فيا ربي.. لملم جراح العراق ورفقاً بأرحامه الطاهرة
#أحمد_الناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 10- 7
-
وقائع ندوة الملتقى الديمقراطي المشترك عن الديمقراطية في مدين
...
-
( 10 -6 ) - من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914
-
( 10 -5 ) - من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 10- 4)
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 10- 3
-
من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914 - 2 - 10
-
(10 - 1) - من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914
-
بياض الوجه حصاد مجلس الحكم في عشرة أشهر ونيف
-
خطوة ستكون يوماً ما إرثاً في سفر التاريخ
-
لن نغفل عن مناهضة الاحتلال بالفعل الشعبي السلمي واللاعنف ـ ر
...
-
المتاجرة بالصور الفواضح وعذابات العراقيين
-
صرخة تذكير باغتصاب الوطن الذي أودى الى اغتصاب البشر
-
الشاعر سعدي يوسف بين ذاكرة العراقيين وطقوس النضال الجديد
-
هوامش في يوم العمال العالمي
-
العلم العراقي بين وشاح للأموات وكرامة للأحياء
-
الإرادة العراقية بين الأسود والأخضر ومجلس الحكم
-
ضبابية المواقف... من زمن الولاء المطلق الى زمن الولاء المبطن
-
المقاومة... حاجة أم إسقاط فرض
-
زيف محاولات المزاوجة ما بين المشروع الأمريكي في الاحتلال وال
...
المزيد.....
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
-
متضامنون مع هدى عبد المنعم.. لا للتدوير
-
نيابة المنصورة تحبس «طفل» و5 من أهالي المطرية
-
اليوم الـ 50 من إضراب ليلى سويف.. و«القومي للمرأة» مغلق بأوا
...
-
الحبس للوزير مش لأهالي الضحايا
المزيد.....
-
سلام عادل- سيرة مناضل - الجزء الاول
/ ثمينة ناجي يوسف & نزار خالد
-
سلام عادل -سیرة مناضل-
/ ثمینة یوسف
-
سلام عادل- سيرة مناضل
/ ثمينة ناجي يوسف
-
قناديل مندائية
/ فائز الحيدر
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزءالثاني
/ خالد حسين سلطان
-
الحرب الأهلية الإسبانية والمصير الغامض للمتطوعين الفلسطينيين
...
/ نعيم ناصر
-
حياة شرارة الثائرة الصامتة
/ خالد حسين سلطان
-
ملف صور الشهداء الجزء الاول 250 صورة لشهداء الحركة اليساري
...
/ خالد حسين سلطان
-
قناديل شيوعية عراقية / الجزء الاول
/ خالد حسين سلطان
-
نظرات حول مفهوم مابعد الامبريالية - هارى ماكدوف
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|