|
القصة القصيرة جدا و مهارة الكتابة
صطفى لغتيري
الحوار المتمدن-العدد: 2879 - 2010 / 1 / 5 - 22:28
المحور:
الادب والفن
القصة القصيرة جدا و مهارة الكتابة الرقص تحت المطر لحسن البقالي نموذجا بسبب قصرها تتيح القصة القصيرة جدا لكاتبها إبراز علو كعبه في "تكنيك الكتابة"، بما يعني ذلك إظهار قدرته على التعاطي بمهارة مع خصائص الجنس، التي تميزه عن باقي الأجناس الأدبية، خاصة في ما يتعلق بالأسلوب ، و توظيف بعض التقنيات الكتابية المرتبطة بمعالجة بداية القصة و نهايتها مثلا، و طريقة تقديم الأحداث و تكثيفها ، و القدرة على إنهاء القصة في الوقت المناسب ،و من ثمة خلق الدهشة لدى القارئ من خلال طريقة صوغ القفلة ،التي غالبا ما تترسخ في ذهن القارئ أكثر من غيرها ،بعد الانتهاء من قراءة القصة . و وعيا منه بقصر نصه يعمد الكاتب إلى حسن استعمال عدته التقنية ، من أجل إنجاز قصصه القصيرة جدا، فهو يعرف حق المعرفة ، أن النص القصير ، يتيح للقارئ التعاطي معه بكثير من اليقظة ، التي تخول له اصطياد الهفوات المرتكبة من قبل الكاتب ، فلا مجال هنا إلى الوصف المسهب أو حشو الكلام ،أو العبارات الإنشائية التي قد يتسع صدر القصة القصيرة لها ، بل وقد تجد لها مجالا خصبا في كثير من الروايات ، مراهنة بذلك على تسامح القارئ أو لحظات شروده ، الشيء الذي لا يتحقق- حتما- بالنسبة للقصة القصيرة جدا. لكل ذلك، فالمطلع على نصوص القصة القصيرة جدا سيلاحظ -لا محالة- اهتمام كتابها بتكنيك الكتابة ، حتى و إن كان النجاح في ذلك يتفاوت من كاتب إلى آخر، بل ومن نص إلى آخر عند نفس الكاتب .
و من بين المجاميع القصصية التي تراهن على مهارة الكتابة، عبرتوظيف تقنيات كتابية عالية في دقتها ،أذكر مجموعة "الرقص تحت المطر" للكاتب المغربي حسن البقالي ، الذي برهن من خلال هذه المجموعة و غيرها عن طول كعبه في هذا المضمار ، و لعل أبرز مظهر لهذه المهارة لدى الكاتب تجلى في طريقة صوغه لخواتم القصص ،أي ما يطلق عليه عادة بالقفلة ، و قد تفنن الكاتب في صياغتها بشكل جعلها قوية و لامعة و صادمة و مفاجئة ، و الأهم من ذلك أنها ليست مقحمة إقحاما في النص، بل إنها تنبثق من عمق النص ، يوطئ لها الكاتب بنوع من الذكاء و الدهاء ، فالقصة عنده تبدأ هادئة و رزينة ، و تتميز "بأخلاق عالية" ، لكنه ما تلبث أن تفاجئنا بقوتها و صلافتها ، فتصفع القارئ صفعة مدوية ،تجعله يشرد للحظات بعد الانتهاء من قراءتها، مفجرة في دواخله سيلا من الأحاسيس و الأسئلة و الأفكار المتناقضة.
يقول الكاتب في قصة علاقة:
ها هي ذي المرأة مقبلة .. رائحة عطر خفيف مر ، و الرجل الذي ينتظر فترة ، هب من مكان.
يد المرأة تفتح الباب المغلق ، و عينا الرجل تحضنان المجال.
المرأة التي دخلت تنزع جلبابها ، تهيئ نفسها ، ثم تدعو الرجل إلى الدخول .. رفرفة عين و اختلاجة عابرة.
هما الآن خلف الحجاب..
يفك الرجل أزرار السروال ، فتقبل المرأة بيدين حانيتين..
تغرز الحقنة تحت الجلد المزرق
و تدعو له بالشفاء.
و لا يقتصر الأمر على الخواتم اللامعة و المثيرة ، بل و يطول الأسلوب كذلك ، فالكاتب يوظف في مجموع نصوصه أسلوبا ناضجا و قويا ، يتميز بسرديته الملفتة ، وخلوه من التعابير الإنشائية ، التي تجرف القصة القصيرة جدا-عند بعض كتابها- نحو قصيدة النثرأو الخاطرة في كثير من الأحيان ، فالكاتب يصر على حيادية جملته القصصية ، عامدا إلى تجسيد الأحداث ، مركزا على ما تقع عليه الحواس ، خاصة حاسة البصر ، التي تتيح لمن يوظفها خلق مشاهد قصصية ، تذكرنا بكبار القصاصين الذين - لاشك- يفتخرون بانتماء القاص حسن البقالي إليهم.
يقول الكاتب في قصة طفل من زماننا:
كان الوقت متأخرا حين جعل الطفل يربت كتف أمه
"نامي يا أمي..
فهناك وحش بالجوار لا يحب النساء مفتحات الأعين..
نامي.."
حتى إذا أحس بأنفاسها قد انتظمت ، تسلل على أصابع قدميه خارجا إلى الغرفة الأخرى .. أشعل التلفزيون ، و اقتعد الأريكة المواجهة لالتماعات الشاشة، في اليد جهاز التحكم ، و في العين ظلال رغبة مكتنزة.
و مما يميز مهارة الكاتب في هذه المجموعة أن "تكنيك الكتابة"عنده لم يأت متصنعا أو متكلفا بل يأتي عفو الخاطر، سلسا، لا يكاد القارئ يشعر به ، وتلك ميزة قلما تتوفر لكاتب ، و لعل عزف البقالي على وتر السخرية في نسج قصصه، من الوسائل الفعالة التي جعلت القارئ لا ينتبه إلى كيفية صوغ القصة، بل يظل ذهنه متعلقا بالمواقف الساخرة التي يبرع الكاتب في نسجها بعيدا عن الابتذال ، او الاعتماد على كلمات بعينها لانتزاع الابتسامة من القارئ ، .وقصص البقالي لا تكتفي بافترار شفتي القارئ عن ابتسامات متتالية فحسب ، بل تقدح كذلك في الذهن زناد التأمل و التفكير ، وتلك لعمري السخرية المطلوبة في العمل الإبداعي و التي تبعد عن النصوص شبح البكائيات أوالتهجم .
و تبقى أخيرا "الرقص تحت المطر" للكاتب حسن البقالي من مجاميع القصة القصيرة المتميزة ، التي تضيف إلى هذا الجنس الأدبي نصوصا ،تمتاز بقوة تكنيكها و جاذبية تيماتها ،و نضج التصور الكتابي المنطلقة منه ، والذي يشكل خلفية قوية لها.
#صطفى_لغتيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|