|
الوعي المسلوب ...
فيصل البيطار
الحوار المتمدن-العدد: 2876 - 2010 / 1 / 2 - 10:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لماذا محرمات الأرض التي جاء بها القرآن والحديث، محلله في جنة السماء ودون اية قيود، ألم يكن من باب العداله ثم الإنسجام مع الذات، أن تنطبق قوانين السماء على الأرض ؟ الغلمان والحور العين التي تعود باكرا بعد كل إفتضاض، ثم تلك القصور التي عرضها سبعون الف ذراع وطولها وارتفاعها مثل ذلك، العيش الرغيد مع انهار الخمرة واللبن والعسل وكل ما تشتهيه الأنفس، ألم يكن من الأكثر معقوليه أن يمنح الله شيئ منها لعباده الصالحين في حياتهم الأرضيه عربونا لإلتزامهم بتعاليمه وتأكيدا لمصداقيته ؟ ثم لماذا هو يؤجل عذابه ونقمته على من يكفر به الى يوم الدين تاركا بين أيديهم أكداس من الثروات ونعيم الأرض ؟ .
أمام عجز وفشل الحركات الديموقراطيه العربيه في تحقيق طموحات فقراء شعوبهم من حريه وتأمين مستلزمات الحياه الضروريه لهم كالسكن والتطبيب والعلاج والتعليم وتوفير فرص العمل وغيره من الضروريات، تتجه الطبقات المسحوقه وبدعم سلطوي ومشايخي نحو حلول سماويه طوباويه تجد فيها العزاء والبديل لواقعها والذي باتت أشد إرتباطا به وإستكانة له مما كانت عليه منذ عقود ثلاثة مضت . ما لم يمكن تحقيقه على الأرض، يأمل العقل الجماعي للفقراء أن يتحقق هناك في السماء حسب الشرط والوعد الإلآهي، وتساوقا مع هذا النهج نشأت في تلك الأوساط سلوكيات لم تكن معروفه ولم نعهدها من قبل إلا على نطاق ضيق، اصبحت الصلاه في المساجد وفي بداية إستحقاقها ولأوقاتها الخمسه من الضروريات التي يحرص رعاة المساجد على التذكير بها بأذآنين إثنين لكل صلاه، الأول للتنبيه والدعوه لترك ما باليد من أعمال والإسراع نحو المسجد، والثاني الذي يأتي بعد أكثر من نصف ساعه إعلانا لإستحقاق الصلاه، ولن يتجشم المسلم الفقير أي عناء يذكر لتلبية نداء المؤذن، فلكل حي صغير هناك أكثر من مسجد، وله أن يلحظ واحدا أينما ولي وجهه، الذي لا نجده في الأحياء السكنيه الراقيه التي يقطنها الأغنياء والمرفهين من الذين لا يشكلون نسبة تذكر من المصلين ولا يشكلون أرضية أو مادة خصبه للوعي الديني كما هو عليه في أوساط الفقراء، جل ما يقدم عليه المسلم الثري توافقا مع دينه، أن يؤدي مناسك الحج عند شعوره بدنو أجله وعفا الله عما سلف، لا ينتشر الحجاب ومظاهر التدين في أوساط هذه الطبقه، نساؤهم سافرات متبرجات، يرتدين الملابس الضيقه والكاشفه لتعرجات اجسادهن، ولك أن تجدهم في المقاهي والمطاعم بصحبة الرفقاء والناركيله وأحيانا مع بعض المسكرات الخفيفه، يتمتعن بالعوم في فنادق الخمسة نجوم وعلى شواطئ المياه لا يسترهن إلا قطعتين صغيرتين من الملابس، الرجال منهم يعشقون الموائد الخضراء ومعها ما لذ وطاب من المشروبات والحب الحرام، الدين هنا، مؤجل على الأغلب لما قبل نهاية الحياه بقليل . الله يعطي لهؤلاء كل ما يريدونه وفوقه مئات الأضعاف، رغم هشاشة العلاقه بين الطرفين، الخالق والمخلوق الثري، من جانب الأخير . من على الرصيف الآخر، نرى ما لايمكن فهمه وتأويله دينيا، فقراء المسلمين يداومون على الصلاه والزكاة وفعل الخير على قلة ما في اليد، النساء محجبات ومنقبات، بل وبناتهم الصغيرات ومنذ المرحله الدراسيه الأولى يرتدين ما يسلب العمر ويقمع شقاوة وبراءة الطفل فيهن، صغار محجور عليهن في بيت الدين المرعب، العلاقه مع الخالق هنا متينه وراسخه في العقل وفي أرجاء البيت، لكن دون ثواب حاضر، الله لا يطل بخيراته وبركاته عليهم، رغم أنه يمتلك الكثير، ولن ينقص من بيت ماله شيئ يذكر لو أعطى لهم كما أعطى لخلقه من الجانب الآخر، وأمام فشل الأحزاب الديموقراطيه في تلبية حاجات الكادحين من الشعوب العربيه، وفشل الخالق في توزيع ثروته بعداله وأنصاف، لا يملك هؤلاء الكادحين سوى التمسك بالوعود الربانيه والعمل على أن يكونوا من الفرقة الناجيه .
شهدت عقود الخمسينات والستينات والسبعينات حالة من النهوض الثوري غير المسبوق وعلى أمتداد مساحة الدول العربيه بأغلبها، الهزيمه الكبرى عام 1948 شحذت من همم فقراء المنطقه والطبقه المتوسطه فيها، وكان ان تأسست أحزاب قوميه الى جانب الأحزاب الشيوعيه التي سبقتها في التأسيس، وخاضت بمجموعها معارك واسعه إن على الصعيد الوطني أو الطبقي، مادة تلك الإنتفاضات والحراك السياسي الواسع كانت من أبناء الكادحين العرب وبرجوازياتها الصغيره والمتوسطه الوطنيه، عقود ثلاثه من النضال الملتهب لم يكن فيها للأحزاب الدينيه موطأ قدم أو فاعليه تذكر رغم عراقة جماعة الأخوان المسلمين ( أسسها حسن البنا عام 1926 ) وتواجدهم في معظم البلدان العربيه الرئيسيه ذات الثقل السياسي، لم يكن هناك شيئ إسمه سلفيين، المعارك الوطنيه والطبقيه تلك كانت تلبي طموحات الكادحين العرب وبرجوازياتها الوطنيه وتلامس مصالحهم مما يفسر التفافها حول ممثليها الطبقيين وتضحياتها الهائله في شوارع وسجون الدول العربيه، قيادات الأحزاب وقواعدها كانت من أديان مختلفه ومتضامنه ضد العدو الوطني والطبقي، وكان لابد لهذا البرنامج أن يعكس نفسه على نمط الحياة والسلوك الجمعي لفقراء المدن والريف، ظاهرة الحجاب لم تكن معروفه ولا الصلاة في المساجد على نطاق واسع كما الآن، بل أن أعدادها كان محدودا نسبة إلى عدد السكان، كل مظاهر التدين التي نشهدها الآن والعداء القاتل لأديان أخرى أبنائها من المواطنين والوطنيين العرب كانت غائبه، الهم الوطني والطبقي كان هو السائد، وليس الديني، إلا أن سلسلة الهزائم الكبرى التي الحقتها القياده البرجوازيه بالمشروع النهضوي والتحرري وتحجيم وتصفية القوى الجذريه داخل المجتمع ( العراق – سوريا – مصر ) وفسح المجال أمام الأحزاب الدينيه كبديل مدعوم سلطويا للأحزاب القوميه والديموقراطيه التي فشلت في أن تحقق شيئا ملموسا على الأرض ، كل هذا دفع بالطبقات الكادحه للإنفضاض من حولها متماهين مع مشروع الدوله ضد كل مصالحهم وعن غير وعي، نمت وتوسعت قواعد الأحزاب الدينيه المدعومه من السلطات في أوساط الكادحين والطلبه الذين استشعروا الأيدلوجيه الدينيه بكل التفاصيل التي أرادها لهم قيادات أحزابهم ومن خلفهم من يمسك بزمام السلطه، تغييب الوعي والمصالح الطبقيه وعلى أرضية القبول والقناعه الكامله بمفردات القدر وما هو مكتوب وتوجيه مؤشر المعركه نحو كل ما هو غير إسلامي عدا السلطة ذاتها، ووعد الذي لا يخلف وعده بآخره سعيده وأبديه، كان هو الهدف الحقيقي من تحالف سلطان الدوله مع شيطان الدين الذي طبع العقود الثلاثه الأخيره بطابعه المضلل، مع ما أفرزه هذا التوجه من مظاهر أسلمة المجتمع وما حمل معه من أخطار لم تكن اصلا بحسابات تلك الأنظمه المتحالفه مع الإسلام السياسي والمروجه لتفاصيل مشروعه في إختلاق معارك سياسيه وعسكريه وأخرى وهميه، باتت الآن هي هدفها وتتحمل جزءا من إرهاصاتها الدمويه لتسحب نفسها من بعد على مكونات أثنيه ودينيه وطائفيه مهدده بقائها الفعلي وحرياتها في ممارسة طقوسها الدينيه الخاصه .
مفارقه تاريخيه محزنه هي تلك، عندما تصطف جماعات من أبناء الطبقات الكادحه في بلداننا ضد مصالحها الوطنيه والطبقيه وتبذل دمائها رخيصه ليس يإتجاه عدوها الحقيقي في السلطه، إنما لقتل شركائها في الفقر والإستلاب من أبناء طبقتها، تحت رايات الدين والمذهب تم تمزبق مئات الألوف من الكادحين العراقيين إلى أشلاء وتدمير ممتلكاتهم الخاصه والعامه، حصل هذا وبمقدار أقل قليلا في الجزائر ويحصل الآن على نطاق واسع في الباكستان كما كان الأمر عليه في السودان، وبخطوات ممنهجه يخوض الإسلام السياسي في مصر بأدوات من الكادحين المسلمين وبحماية السلطه معركة ظالمه ضد شركاء الوطن والطبقه من الأقباط، قتل وحرق ممتلكات وتهجير وحجر على ممارسة الشعائر الدينيه الخاصه بهم .... البيان الشيوعي عام 1848 أخبرنا أن : الدين أفيون الشعوب، نعم يصح هذا في غفله من الزمن، لكنه أبدا لن يكون القانون السائد الذي يحكم الطبقات الى ما لانهايه .
الى متى ستستمر هذه الهجمه الدينيه الإسلاميه وما هو سقفها الأعلى ؟ نحن نرى أن بداية الإنحسار قد تحققت فعلا على الأرض، ليس بفعل واسع ودؤوب للقوى الديمقراطيه والعلمانيه، إنما بحس الكادحين العفوي الذي بدأ يتلمس مدى دموية الخطاب الديني الإسلامي وخطورته على مستقبل وتقدم الحياه وحركة المجتمع، عدا عن كونه لم يقدم حلا برامجيا واقعيا لمجمل مشكلات المجتمع وفقراءه خاصة، شعبية حماس مازالت تتراجع في معقلها الأساسي منذ العدوان الأخير على قطاع غزه، كونها مثلت في أعين الغزيين شريكا عمليا في تدمير القطاع وذبح مواطنيه عبر صواريخهم العبثيه، وفشلهم لاحقا في إعادة إعماره بهروبهم المستمر من إستحقاقات الوحده الوطنيه، كما أدرك العراقيون خطورة ودموية الطوائف المذهبيه مما أدى الى إنحسار نفوذها على نحو واسع ، وتم تصفية النفوذ الفعلي لإسلاميي الجزائر كما إنتهى بشكل شبه كامل نفوذ سلفيي مصر، السلفيين في الإنتخابات النيابيه الكويتيه الأخيره تراجعوا بخطوات واسعه ولأول مره تصل المرأه الكويتيه إلى المجلس النيابي وهي حاسره رغم أنف الإسلاميين، في المجلس النيابي الأردني تراجع الإخوان المسلمين على نحو ملحوظ وفشل حزب الله اللبناني وكتلته في إكتساح المجلس النيابي هناك كما كان يروج . معارك الحريه والديموقراطيه ومساواة المرأه والعلمانيه تتسع وتخطو إلى الأمام بثبات حتى في أكثر الدول العربيه إنغلاقا .
الخطاب الديني وصل سقفه وإنكشف معدنه وهو الآن بإنحدار متسارع ليعود الوعي المسلوب إلى أصحابه من كادحي الشعوب العربيه .
#فيصل_البيطار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بعض إشكاليات وتطبيقات الفقه الاسلامي ( 5 )
-
بعض إشكاليات وتطبيقات الفقه الاسلامي ( 4 )
-
بعض إشكاليات وتطبيقات الفقه الاسلامي (3 )
-
إيران تستعجل قدرها .
-
بعض إشكاليات وتطبيقات الفقه الاسلامي (2)
-
بعض إشكاليات وتطبيقات الفقه الاسلامي (1)
-
فضاءات رحبه وأمينه في - الحوار المتمدن -
-
حديث المئذنه ....
-
أضواء على الأزهر ... غير الشريف .
-
هل جاع - محمد - ومات فقيرا ؟
-
هل قتل النبي محمد إبنه وابن عمه ؟
-
قادة صغار ومهمات جسيمه . 2من2
-
قادة صغار ومهمات جسيمه . 1من2
-
ايران وما تعدنا به من تدمير .....
-
مذكرات خليل الدليمي المهزله ... 2 من 2
-
مذكرات خليل الدليمي المهزله...1 من 2
-
وانتهت رحلة حماس ...
-
لا إتفاق فلسطيني ... فما الحل ؟
-
سوريا والتزاماتها مع دول الجوار .
-
القائمه المفتوحه ... خيار الشعب العراقي .
المزيد.....
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|