إبتذال الماركسية

يعقوب ابراهامي

الحوار المتمدن-العدد: 2875 - 2010 / 1 / 1 - 18:39
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    

(History is the chronicle of the crimes, follies and misfortunes of man." (Edward Gibbon)
"لتاريخ هو سجل لجرائم الإنسان، حماقاته ومآسيه." (إدوارد جيبون ، 1794-1737).

"إن أسوأ ما يمكن أن يصيب قائد حزب اصولي (في الأصل:Extreme party ) هو أن يصل إلى السلطة في وقت لا تكون فيه الطبقة التي يمثلها جاهزة للحكم ومؤهلة لتحقيق الأهداف التي من أجلها جاء إلى السلطة . . . لذلك فإنه يجد نفسه في وضع لا يحسد عليه : إن ما يستطيع فعله يناقض كل ما قام به ودعا إليه سابقاً، وما يجب عليه فعله لا يمكنه القيام به. إنسان كهذا ، في هذا الوضع الحرج، محكوم عليه بالفشل المحتم."
(فريدريك أنجلز، حرب الفلاحين في ألمانيا، مقتبساً عن كتاب Lenin s Last Struggle لمؤلفه Moshe Levin).

هل كانت الطبقة العاملة في روسيا الأمية ، ذات الصناعة المتأخرة والزراعة البدائية، مؤهلة للحكم وتحقيق الإشتراكية عندما استولى لينين على السلطة باسمها في اكتوبر عام 1917؟
هذا هو السؤال الذي يحاول حسقيل قوجمان (صاحب "قانون فناء الضدين") الإجابة عليه في رده على فالح عبد الجبار ("الحوار", 2.12.02 و-10.12.02).
حسقيل قوجمان يجيب على هذا السؤال بنعم مطلق، بلا تردد، كما يليق ب"مفكر ماركسي" ستاليني. وهذا طبعاً حقه. أنا أفترض إن له من الوثائق التاريخية ما يبرر به لنفسه قناعته هذه ، رغم أن إصراره على أن " التاريخ قد برهن على ان استنتاج لينين كان هو الصحيح " مضحك بعض الشيء ، بعد انهيار الإتحاد السوفييتي، وبعد أن لم يبق من "اللينينية" سوى جثة محنطة في الكرملين.

على كل حال، حسقيل قوجمان لا يكتفي ب"وثائق تاريخية" مجهولة الهوية بل يستند، كما يليق مرة أخرى ب"مفكر ماركسي" ستاليني، إلى مقولة مزعومة لكارل ماركس : "إن الشعوب هي التي تصنع التاريخ".

كل من قرأ وفهم كارل ماركس يعلم إن مقولة كهذه ، بالمعنى الذي أسبغه عليها حسقيل قوجمان، غريبة عن تفكير كارل ماركس. لذلك وجهت إليه، وإلى سائر الماركسيين السنالينيين، في مقال نشر على صفحات "الحوار"، السؤال البسيط التالي: أين ومتى قال كارل ماركس إن الشعوب هي التي تصنع التاريخ؟

المعلقون على ما كتبته ضربوا مثلاً حياً لما أعنيه بعبارة "إبتذال الماركسية" (عدا قلة من القراء، وشكراً بهذه المناسبة للقارئ الأخ جاسم محمد كاظم على جهوده المضنية في سرد الأحداث التاريخية منذ العهد الروماني حتى القرن التاسع عشر، رغم أني لم أفهم ما علاقة ذلك بالموضوع ).

"إبتذال الماركسية" هو تجريد المقولة الماركسية من محتواها الحقيقي، تحريف بعض مصطلحاتها (ينبع ذلك أحياناً من خطأ في ترجمة المصطلح اللاتيني إلى اللغة العربية) واجتثاثها من الزمان والمكان اللذين قيلت فيهما. باختصار، "إبتذال الماركسية" هو تشويه المقولة الماركسية، ذات المحتوى الفلسفي، (وماركس كان فيلسوفاً في الدرجة الأولى وليس داعياً أو محرضاً) وتحويلها إلى شعار دعاية "تفهمه الجماهير".

كارل ماركس يتحدث عن "وسائل الإنتاج" و "علاقات الإنتاج" ومبتذلو الماركسية يترجمون ذلك إلى " لصوص يسرقون العالم دون مقابل".
كارل ماركس يتحدث عن "الطبقات" و "الصراع الطبقي" كمحرك أو كأحد محركات التاريخ ، ومبتذلو الماركسية يتحدثون عن "حقد طبقي" وعن "طبقات وضيعة" وأخرى "رفيعة".
كارل ماركس يكتب عن "الإغتراب" (Alienation) وهم يكتبون عن "آذانٍ مقطوعة" وأيادٍ مبتورة.

أما إذا أمكن إدخال الصهيونية من الشباك أو من بابٍ خلفي فإن مهمة "مبتذلي الماركسية" تكون قد تكللت بالنجاح الباهر.

تريدون مثلاً؟ إقرأوا:
" نعم ماركس قال: الشعوب تصنع التاريخ ولكن ليس كما ترغب عندما يتكلم البلاشفة على الصهاينة أن يغلقوا أفواههم."
نترك "الصهاينة" جانباً. إن الذي يحيرني هو: لماذا يعتقد فؤاد النمري إن مجموعة من الكلمات، لا رابط بينها، هي الجواب المفحم لسؤال يسيط مباشر : أين ومتى قال كارل ماركس إن الشعوب هي التي تصنع التاريخ؟

ماذا قال كارل ماركس:
في قطعة شهيرة من كتاب "الثامن عشر من برومير" يقول كارل ماركس:
"Men make their own history, but they do not make it just as they please; they do not make it under circumstances chosen by themselves, but under circumstances directly encountered, given and transmitted from the past. The tradition of all the dead generations weighs like a nightmare on the brain of the living."

"الناس يصنعون تاريخهم، ولكنهم لا يصنعونه كما يحلو لهم، لا يصنعونه ضمن شروط اختاروها بأنفسهم، بل ضمن شروط مسبقة جاءتهم من الماضي. إن تقاليد الأجيال الراحلة تجثم كالكابوس على عقول الأجيال الحية."

هذا على ما أعتقد هو "مصدر" المقولة : " إن الشعوب هي التي تصنع التاريخ" (وسأكون شاكراً لكل من يثبت لي عكس ذلك ويشير إلى مصدرٍ آخر).
هل رأيتم كيف قلب مبتذلو الماركسية جملة " الناس يصنعون تاريخهم" إلى جملة "أجمل" : " إن الشعوب هي التي تصنع التاريخ" وكيف فصلوها عن باقي القطعة بحيث فقدت معناها الحقيقي؟

"السعادة في النضال والتعاسة في الخضوع":
بدأنا مقالنا بأدوارد جيبون ونريد أن ننهيه بكارل ماركس.
هل صحيح ما يقوله المؤرخ الشهير من القرن الثامن عشر بأن "التاريخ هو سجل لجرائم الإنسان، حماقاته ومآسيه." ؟
أعتقد إن هذا صحيح ولكنه نصف الحقيقة فقط.
التاريخ هو أيضاً قصة كفاح الإنسان ضد الجرائم، ضد الجنون وضد المآسي. وقبل أكثر من مائة عام كان كارل ماركس يقول: "السعادة في النضال والتعاسة في الخضوع".

للذكرى والتاريخ:
في البداية لم أشأ الإشارة إلى ذلك ولكني قررت بعد ذلك أن ليس من حقي السكوت.
في إحدى التعليقات تطاول نكرة باسم كاوه الحداد على ذكرى شيوعي عراقي يهودي ، ساسون دلال، تولى قيادة الحزب في ساعة من أحلك الساعات في تاريخه. ورغم الأخطاء الفضيعة التي ارتكبها فإنه لم يخن حزبه، لم يفش بأسرار الحزب على الرغم من التعذيب الوحشي، واعتلى حبل المشنقة وهو يهتف بحياة الحزب.
إن الكلمات النابية التي كتبها كاوه الحداد هي إهانة لكل الذين عاشوا تلك الفترة الرهيبة. عزاؤنا الوحيد هو قول الشاعر: وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كامل.

#يعقوب_ابراهامي (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات