|
في شأن ما يطرحه علينا الاستفتاء السويسري من أسئلة أخلاقية وسياسية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2870 - 2009 / 12 / 27 - 18:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لطالما كان المثال الكلاسيكي للتعارض المحتمل بين التفضيلات الحرة للجمهور وبين مقتضيات الحريات العامة والتنوع الاجتماعي والثقافي هو الانتخابات العامة في ألمانيا 1933، التي فاز النازيون فيها بتفويض حاسم من الشعب الألماني، أفضى خلال اثني عشرية من السنين إلى دمار واسع في أوربا، ولألمانيا ذاتها. ويبدو أن تصويت أكثرية سويسرية ضد تشييد مآذن في البلاد يفيد معنى مقاربا، وإن كان استفتاء لا انتخابا، وإن كانت عواقبه المحتملة أدنى بما لا يقاس طبعا. العبرة في الحالين أن الشعب ليس حكيما، وقد تسير قطاعات كبيرة منه وراء مهيجين ديماغوجيين، ضدا على مفهوم مستنير لمصالح البلاد ككل (مثلتها في سويسرا ذاتها الحكومة وأكثرية البرلمان)، وضدا على مقتضيات التنوع والتفاهم الإنساني. لكن الاستفتاء السويسري مناسبة لوضع المرآة أمام وجوهنا لا أمام وجوه السويسريين الذين لا تنقصهم المرايا على الأرجح. فهو يجبه الديمقراطيين العرب والتفكير الديمقراطي في العالم العربي بمشكلتين، واحدة أخلاقية وأخرى سياسية. من جهة يثير تساؤلا عن صدقية النقد العربي لنتائج ذلك الاستفتاء، أي عما إذا لم يكن ما يحدونا إلى انتقاد السويسريين هو ما يحتمل أن تعنيه النتائج تلك من موقف سلبي من طرفهم حيال الإسلام والمسلمين والعرب. هل ننتقد (وبعضنا يدين، وبعضنا يحرِّض)، لأن من تأذوا بصورة ما من نتائج الاستفتاء هم من جماعتنا أو ذوي قربانا؟ وإلى أي حد نعترض بصورة متسقة على نمو نزعات شعبوية ويمينية في مجتمعات أوربية وغربية، تغدو أكثر وأكثر أشد ضيقا بأمثالنا، وأدنى تفهما لشكاوينا، وتضعف المثال الأبرز عالميا للمجتمع المستنير المنفتح على المختلف والغريب؟ إلى أي مدى يتحرك اعتراضنا بدوافع أنانية، لا تبالي بغير ما قد يصيبنا؛ وما نصيب استنارة تدافع فعليا عن مثال التنوع العالمي في تحريكه؟ وتتصل المشكلة السياسية بالتشكك في حصافة وسداد خيارات الأكثرية الشعبية المحتملة في بلداننا التي يتمحور نقد الديمقراطيين لهياكلها السياسية على كونها لا تسمح لهذه الخيارات بالنفاذ إلى الفضاء العام، ولا تتيح تكون أكثريات سياسية وطنية. فإذا أمكن للسويسريين الذين ينعمون بحكم ديمقراطي راسخ، ويعلو متوسط دخل الفرد منهم فوق 67 ألف دولار أميركي سنويا، أن يتصرفوا سياسيا بطريقة شعبوية، تخشى الأجنبي والمختلف وتنتهك مبدأ حرية الاعتقاد الديني؛ فكيف لشعوبنا أن تتصرف، فيما لو أتيح لها أن تعبر عن رأيها بحرية، حيال قضايا اجتماعية وثقافية إشكالية بخاصة؟ هاتان مسألتان يستحسن أن نطرحهما على أنفسنا من باب تطوير وعي ذاتي أكثر تركيبا. من شأن التفكير في أولاهما، المتصلة بمدى اتساق اعتراضنا على محصلة التصويت السويسري، أن يؤسس لنقد عام أو "كوني" لنوازع شعبوية وغير عقلانية، خلافا لنقد "طائفي" أو فئوي ينتقد سياسات أطراف أخرى حين تكون لها انعكاسات ضارة علينا، بينما يسكت عليها إن كانت نافعة لنا، فوق سكوته الدائم على ما قد نلحقه نحن بغيرنا من تمييز وضروب متنوعة من الأذى. التفكير في هذا الشأن هو ما يؤسس لسلوك منضبط بمبدأ العدالة، لا حيال بلدان ومجتمعات أخرى فقط، ولكن في بيئاتنا ومجتمعاتنا المعاصرة أولا. قبل أن تكون بلداننا استبدادية وغير ديمقراطية هي مفتقرة إلى العدالة، بما فيها العدالة القضائية. ولا ينبغي أن يرهن التقدم على هذا الصعيد بحكم ديمقراطي ناجز. الأولوية للعدالة. وفرص الديمقراطية تكبر بقدر ما تكون العدالة، فكرة ومؤسسة وقانونا، أقوى حضورا اجتماعيا وثقافيا. ومن شأن التفكير في المسألة الثانية، العلاقة بين الأكثرية والحكمة أو الشعب والعقل، أن يكون منطلقا لتفكير أكثر تعقيدا في الديمقراطية وعملياتها، وبالتحديد لمدى التوافق أو التباعد بين رأي الأكثرية على نحو ما قد يعبر عنه تصويت حر، وبين موجبات العقلانية والتفكير النقدي والمجتمع المفتوح على نحو ما تطورت على أيدي مثقفين نقديين ومنشقين، في الغرب أكثر من غيره، ولدينا أقل من غيرنا. ثمة توتر في العلاقة بين الجانبين برز التفكير فيه منذ القرن التاسع عشر في الغرب حين عبر ألكسيس طوكفيل عن الخشية من "طغيان الأكثرية" المحتمل. ووقت الحكم النازي لألمانيا، كتب المسرحي النرويجي هنريك إبسن عن جانب من الأمر ذاته في مسرحيته "عدو الشعب" (1935)، حيث يتعرض السياسي المستقل الضمير إلى عداء جمهوره المفترض لأنه يكتشف حقائق من شأنها أن تتسبب بخسارة الجمهور مكاسب عاجلة. تطور التفكير الديمقراطي في الغرب في اتجاه الحفاظ على هذا التوتر لا في اتجاه التخلص منه. إذ يبدو أنه يتحقق أفضل ازدهار للديمقراطية حين تتشكل من تفاعل تقليدين متعارضين، التقليد المدافع عن مبدأ السيادة الشعبية وحكم الأكثرية (مقابل الحكم الفردي السلالي أو أرستقراطية ذوي الدم الأزرق أو أي أصحاب امتيازات ...) والتقليد النقدي العقلاني الذي يعلي من شأن الاستنارة والتسامح واستقلال الضمير والحريات العامة. التقليد الأول تقليد عدالي وجمهوري، والثاني ليبرالي وفرداني. دون التقليد الليبرالي يحتمل أن تنزلق الديمقراطية إلى استبداد شعبوي أو شمولي، ودون التقليد الجمهوري يتشكل استبداد نخبوي أو طغيان الفرد أو الطغمة. بهذا المعنى، الديمقراطية هي الحرية المستنيرة (ليس ضدا على استبداد مستنير أو بالطبع ظلامي، بل كذلك ضدا على حرية غير مستنيرة، جمهورية شعبوية متعصبة). لذلك فإن فرص ديمقراطية مترقية تتناسب طردا مع انتشار التعليم وارتفاع المستوى الثقافي للشعب وتحرر الأفراد من روابطهم الطبيعية الموروثة. التصويت السويسري وتفاعلنا معه مناسبة لنظر متجدد في الأسس الفكرية والأخلاقية لتفكيرنا السياسي. وفي حين أنه يكشف أن كثيرين بيننا ينتقدون اليمين الشعبوي السويسري من مواقع يمينية وشعبوية (معظم النقد القومي والإسلامي)، فإن جانبا غير هامشي من النقد هو نخبوي ويميني، يتماهى مع اليمين السويسري، وينسب لمواقفه وتوجهاته حكمة و"عقلا" لا ينسبهما هو ذاته لها. النخبوية هذه شعبوية من نوع آخر. قد تكون أقل انتشارا (ليست هامشية بحال كما قد تحب أن تصور نفسها)، تحركها مثل الشعبوية نوازع الخوف (من "طغيان الأغلبية")، وأكثر من الخوف نفور وسواسي من التلوث والاختلاط والكثرة والتفاصيل. لعلها لذلك تفضل ميدان "الفكر"، هنا حيث يجري خفض اعتبار الوقائع إلى أقصى درجة. ضد شعبوية هي في الواقع اختراع نخبوي يتوسله انتهازيون وغوغائيون لقيادة الجماهير، وضد نخبوية هي في واقعها نزعة شعبوية ترفض هويات استنادا إلى هويات (وليست بحال تمردا على سياسات الهوية وثقافاتها)، ليس ثمة غير التفكير النقدي (نقد الذات ونقد السلطات) وروح الضيافة، أي الترحيب بالغير وتفضيل الهجنة والاختلاط.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-العلمانية الأمية-: في المحصلات المحتملة للفصل بين العلمانية
...
-
الدولة السلطانية المحدثة وسيف الحروب الأهلية
-
الثقافوية العربية المعاصرة، خصائص منهجية ومحددات أساسية
-
من -الخيار الثالث- إلى -وضعية يسارية- جديدة
-
الواقع سيئ، اماذا ينبغي أن نكون سيئين؟!
-
طوباوياتنا المعاصرة... جامدة متناقضة وغير تحررية
-
في اقتران التفكير التسليمي بالعلاقات الولائية، والعكس
-
استئناف نقاش غائب في شأن مفهوم الإيديولوجية وإحالاته
-
عبيد السلطة وعبيدهم وما إلى ذلك
-
ما هي الرقابة؟ وماذا تراقب؟
-
في أبنية الدولة السلطانية المحدثة: ليبرالية اجتماعية وطغيان
...
-
من الطاعة المفروضة إلى التطوع الذاتي
-
في الوقائع نصف الغريبة لاختفاء الشعب
-
في شأن إيران والغرب و..العرب!
-
-الدولة السلطانية المحدثة-: سيادتان وسياسة واحدة
-
تركيا كنموذج عملي يُتعلّم منه
-
ما وراء الزيدي وحذاءه: اعتلال الروح العربية
-
المحركات المحتملة للعلاقات الأميركية السورية في النصف الأول
...
-
سورية ولبنان وفشل بناء الأمة
-
من الاقتصادوية إلى الثقافوية إلى السياسوية إلى آخره
المزيد.....
-
الملكة رانيا والأمير الحسين يهنئان ملك الأردن بعيد ميلاده
-
بعد سجنه في -معسكر بوكا-.. ماذا نعلم عن أحمد الشرع الذي أصبح
...
-
الجولة الثالثة.. بدء إطلاق سراح الرهائن في غزة و110 أسرى فلس
...
-
من هي أغام بيرغر الرهينة التي أطلقت سراحها حماس الخميس؟
-
هواية رونالدو وشركائه.. هذه مضار الاستحمام في الماء المثلج
-
سقطتا في النهر.. قتلى في اصطدام طائرة ركاب بمروحية عسكرية قر
...
-
مراسم تسليم الرهينة الإسرائيلية آغام بيرغر للصليب الأحمر في
...
-
-كلاب و100 ضابط من أوروبا على حدود مصر-.. الإعلام العبري يكش
...
-
أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني يصل إلى دمشق في أول
...
-
دقائق قبل الكارثة.. رجل يكشف آخر رسالة من زوجته قبل حادثة مط
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|