جانيت هابل
الحوار المتمدن-العدد: 871 - 2004 / 6 / 21 - 08:30
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
منذ عشر سنوات لم يكن هناك رهان كبير على صمود النظام الكوبي. فالاتحاد السوفياتي، المستورد الأول للسكر ومورد النفط إلى الجزيرة كان قد انهار حديثاً. وقد تطلب الأمر إعادة وضع استراتيجية اقتصادية تتكيف مع ميزان القوى الجديد وذلك في ظل عزلة شبه تامة وفيما الموجة النيوليبرالية تغمر العالم. ولقد كانت تسعينات القرن الماضي سنوات سوداء وقد اضطر الشعب إلى تحمل أقصى أشكال المعاناة.
وجاءت السياسة الاقتصادية الجديدة التي بدأ العمل بها في العام 1993 والإصلاحات التجارية المعتمدة (إجازة العمل المستقل والأسواق الزراعية الحرة وتشريع العمل بالدولار ومضاعفة الشركات ذات الرساميل المختلطة الخ.) لتساعد في إقلاع حركة النمو مجدداً في أواخر العقد المنصرم. إلا أنها أثارت في الوقت نفسه حالة من الاضطراب الاجتماعي وقلباً في المقاييس التي كانت الثورة تجرمها، من مثل الازدواجية النقدية التي عمقت الهوة في المداخيل بين أولئك الذين يملكون الدولارات والذين لا يستطيعون الحصول عليه.
وفي حين أنه لم تتم حتى الآن استعادة مستوى معيشة العام 1989، فان نمو مجمل الناتج المحلي الذي كان في العام 2002 بنسبة 1.2 في المئة قد بلغ في العام 2003 نسبة 2.6 في المئة، غير أن الجيل الذي تحمل عبء "الحقبة الخاصة" منذ أربعة عشر عاماً قد استنفد قواه.
وبالطبع أن سياسة سد النقص في الواردات التي بدأ تطبيقها منذ بضع سنوات قد شهدت نجاحاً ملحوظاً. فمع استعمال النفط الخام المحلي أصبحت كوبا مكتفية ذاتياً تقريباً لتأمين إنتاج الطاقة الكهربائية. أما تموين القطاع السياحي فقد تم تأمينه عبر المنتجات المحلية بنسبة 70 في المئة وهو عامل ساعد في خفض التكاليف. ومن جهة أخرى، ولكي لا نذكر سوى هذا المثل فان التقدم في مجال الصناعة البيوتكنولوجية سوف تسمح بمساعدة نيجيريا وناميبيا في إنتاج أدوية مضادة لفيروس الإيدز(HIV).
إلا أن المخاوف ما تزال قائمة. فالقرار الذي اتخذ في العام 2002 في مواجهة أزمة ركود أسواق السكر عالمياً بإعادة تنظيم صناعة السكر يبقى قنبلة موقوتة. فبسبب فقدان القدرة على المنافسة أغلق نصف مصانع السكر الكبرى، مما يهدد عمل خمسمائة ألف عامل. وقد بذلت الدولة جهداً، وهناك 000 100 عامل يخضعون لدورات تدريبية ويحتفظون بكامل معاشهم. غير أن ما ينتظر من تحول عشرات الآلاف من العمال إلى الزراعة يصطدم بالحاجة إلى المال لتمويل البذار والأسمدة والآلات، دون الكلام على حالة الفوضى التي عمت نتيجة زوال واحد من التقاليد التاريخية. وبات المعيشة تتأمن في "الباتيز"[1] بواسطة اللـ"ليبريتا" (بطاقة التموين) ومن بعض الأعمال البسيطة. وعلى ذلك يعلق أحد المستثمرين الفرنسيين قائلاً: "إن الوضع شبيه بأزمة صناعة الحديد في منطقة اللوار التي حدثت في ثمانينات القرن الماضي، إنما بدون الاتحاد الأوروبي".
غير أن سوق العمل في حالة من الوهن. فحتى وإن كان الوضع قد تحسن بفضل حركة نمو الأعمال الخاصة والسياحة، فان الاستثمارات الخارجية قد تراجعت منذ العام 2001، في جزء منها بسبب قانون "هيلمز وبورتون"[2]، غنما أيضاً بسبب الرقابة الدقيقة التي تفرضها هافانا. فقد تراجع عدد الشركات المختلطة بنسبة 15 في المئة في العام 2003. وصحيح أن حركة نمو السياحة مستمرة لكن إضافة إلى أنها لا تخلق الكثير من فرص العمل، هناك هشاشة في تطبيق مبدأ "الصناعة دون تلوث" التي باتت أمراً جلياً منذ 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 وبعد حرب العراق.
وأخيراً فإن النقص في النقد الأجنبي يثير القلق في الوضع المالي. فالدين بالنقد الخارجي وصل في العام 2001 إلى 10.89 مليار دولار، وروسيا وحدها تطالب من جهتها بمبلغ زهيد يبغ 20 مليار دولار (بحسب سعر الصرف الرسمي سابقاً وفي الواقع هو حساب بالروبل القابل للصرف)[3]. وفي نهاية العام 2003 بلغ الدين المستحق لفنزويلا 891 مليون دولار[4]، فبفضل اتفاق التعاون الموقع في العام 2000 تسلم كاراكاس كوبا النفط الخام والمنتجات المشتقة وفق شروط ملائمة جداً[5]، وتسدد هافانا جزءاً أساسياً من ذلك عبر إرسال الأطباء والمدربين الرياضيين والمعلمين بأعداد كبيرة وعبر استقبالها الطلاب بموجب منح في جامعاتها والمرضى الفنزويليين في مستشفياتها.
وعلى الأرجح أن هذه المعطوبية المالية تفسر القرار الذي اتخذ في العام 2003 بوضع الرقابة على مبادلات الشركات الكوبية. وهو إجراء لم يحظى بالإجماع في أوساط الاقتصاديين الكوبيين، إذ رأى البعض في ذلك ضربة قاضية من جانب الدولة وتشكيكاً في الإصلاحات. فإعادة المركزية الجارية حالياً تعاكس في نظرهم سياسة التمويل الذاتي الضرورية للشركات. فهم يعترضون متسائلين أنه إذا ما أفرغت صناديقها على تمويل المشاريع الاجتماعية فكيف ستتمكن من الاستثمار ومن تحقيق الأرباح؟
وهذه الصعوبات تحمل بعض التساؤلات وتفتح باباً فعلياً للنقاش بعكس الفكرة السائدة في وسائل الإعلام الغربية التي تصور الجزيرة على أنها "مكان مغلق" حيث يتم إسكات أي كلام. ويرى العديد من الاقتصاديين أن إمكانيات الإصلاحات قد استنفدت ويعتقدون أنه يجب تحديد استراتيجية تنمية جديدة. وينطلق بيدرو مونريال وخوليو كارازينا[6]من مسلمة هي أن كوبا قد دخلت القرن الحادي والعشرين في وضع نموذجي كجزيرة كاريبية فيها السياحة و"الريميزاس"[7] والسكر والمعادن. والموارد الطبيعية وقوة العمل المهاجرة هي العناصر الموجهة لدخول البلاد الاقتصاد العالمي. وإذ ينتقدان هذه الترسيمة فإنهما يقترحان "عملية تحول ما بعد السياحة".
فهما يريان أن الهدف يجب أن يكون "إعادة اعتماد الصناعة التصديرية" بما يسمح باستخدام اليد العاملة المؤهلة جداً على ألا تشكل السياحة سوى "مرحلة مؤقتة". وهما يدعوان إلى "استراتيجية مؤسسة على الصادرات التكنولوجية المكثفة (...) بما يعدل جذرياً نموذج النمو الحالي القائم على سياسة التعويض عن الواردات". وهذه المقاربة رفضها وزير التجارة الخارجية السيد راوول دو لا نويز الذي شدد على التمسك بالسياسة المتبعة حالياً.
وفي الواقع أن الصين تغري العديد من الزعماء. ففي 13شباط/فبراير عام 2004 خرجت صحيفة "غرانما" بعنوان على صفحتها الأولى: "التجربة الصينية تبرهن أن هناك سياسات بديلة". ويمتدح المقال "حركة النمو في الأمة الآسيوية" حيث تحقق النجاح "بدون خصخصة" وبدون رأسمالية" و "مع نظام مصرفي تشرف عليه الدولة" وقيادة قوية"و "تنمية اجتماعية متناسقة".
وينتقد السيدان مونريال وكارانزا، الاقتصاديان المذكوران، "تعدد المواقف، كيلا يقولا عدم الانسجام في المواقف الرسمية القائمة على إمكانية "تعايش ثابت بين بدائل متباينة". فهما يريان أنه يجب الاختيار، ويعتبران في الواقع أن النجاح في إعادة توجيه البنية الاقتصادية ضعيف جداً "بدون حدوث تحولات مهمة في المؤسسات الاقتصادية والعلاقات بين الملكيات". ويقدر أن أنه من الضروري وجود "بنى للتداول السياسي تقوم خارج إطار جهاز الدولة" وتكون "قادرة على إقامة وساطة فعالة بين مصالح مختلف مكونات المجتمع".
وفي المقابل جددت الحكومة التأكيد بقوة على الأهداف الاجتماعية لسياستها الاقتصادية، فجعلت من التربية أولوية وطنية حيث ارتفعت موازنتها من 6.3 في المئة في العام 1998 إلى 9.1 في المئة في العام 2003. وقد جددت سبعمائة مدرسة كلياً ثم جهزت بالكومبيوترات وجرى إعداد آلاف المعلمين كيلا يتعدى عدد الطلاب في الصف العشرين، ويستعد 000 16 معلماً في الفنون الجميلة في مدارس متخصصة. وسوف يلي ذلك تحديث المستشفيات.
وبالرغم من هذه الجهود التي يمكن أن تستوحيها غالبية من الدول الأميركية اللاتينية المسماة "ديموقراطية"، يبقى هناك قسم من الشعب في وضع متزعزع مهدد في صحته. إذ أن بعض الفئات الاجتماعية تعاني نقصاً في التغذية مثل النساء الوحيدات مع أولادهن والعجزة. والرأي العام السائد هو أن الحصة الغذائية المقدمة بواسطة بطاقة التموين، والمحدودة ببعض السلع الأساسية، تغطي على الأكثر ما بين 10 و15 يوماً من التموين الشهري، وهذا ما يفرض استكمال الشراء من الأسواق الزراعية حيث الأسعار مرتفعة. وبحسب عالمة الاقتصاد أنجيلا فيريول الشريحة المدنية التي أصابها الفقر هي في حدود الـ20 في المئة[8]. ويعيش الكثير من الناس كل يوم بيومه حيث تدبر المر والسوق السوداء والسرقة أحياناً باتت من الأمور المألوفة.
وفي هذا المجال ميزت عالمة الاجتماع الكوبية مايرا إيسبينا ثلاثة عوامل فاقمت من انعدام المساواة الاجتماعية وزادت من الفقر وهي التفاوت المتزايد بين المداخيل، وتمركز حالات التفاوت في بعض المناطق والتراتبية الاجتماعية الجديدة المرتبطة بالثروة المادية التي تعتبر رمز النجاح[9].
فمع الإصلاحات فقدت مداخيل العمل المأجور في قطاع الدولة من قيمتها لصالح الأعمال الخاصة الشرعية أو غير الشرعية. وتستنتج مايرا إيسبينا أن "الفرز في المداخيل قد تنامى والخدمات الاجتماعية قد تراجعت كمياً ونوعياً". وهي ترى أن الإصلاحات الاقتصادية وتعقد التغيرات الاجتماعية الثقافية قد فتتت الوعي الاجتماعي وهمشت الفئات الأكثر عرضة وأحيت التوترات بين البيض والسود. كما أن أشكال التفاوت بين المناطق قد تفاقمت هي بدورها، ففي المنطقة الشرقية من الجزيرة يقدر عدد السكان المستعدين للتحرك ضد السلطات بـ22 في المئة وحيث تشهد بعض البلديات وضعاً صعباً.
والدراسات الإحصائية لهذا التطور تبدو واضحة النتائج، ففي العام 1988 بلغت نسبة موظفي الدولة 94 في المئة، أما اليوم فان ما بين 20 و25 في المئة من الشعب لم يعد يتكل عليها في معاشه. وتلحظ أنجيلا فيريول أنه في حين أن مداخيل الأسرة قد تجمدت أو زادت بشكل طفيف ما بين العامين 1991 و1999 فان "مداخيل الأسر التي تعيش من الأعمال الخفية قد تضاعفت أربع مرات". وبحسب تحقيق نشر في شهر شباط/فبراير في المجلة الأسبوعية "بوهيمياً"[10] فإن الشرطة قد اكتشفت، ما بين كانون الثاني/يناير وتشرين الأول/أكتوبر عام 2003، 181 مشغلاً غير شرعي و525 معملاً سرياً و315 مبنى تستخدم كمستودعات. ويعتبر عالم اقتصاد يعمل لحساب الدولة أنه "مع الأزمة، ومع أخذ مستوى الأجور بعين الاعتبار، لا يمكن فعل الكثير لمكافحة الاختلاسات والفساد".
وإضافة إلى إثراء صغار المزارعين الخاصين، والعمال المستقلين، ومديري "البولادار" (المطاعم الخاصة) والمستفيدين من السياحة، تثير الباحثة خوانا كونيجيرو موضوع "التحولات في بنية الطبقات" و"أمكانية أن تنشأ طبقة اجتماعية جديدة من المستثمرين ترتبط ناجمة عن قطاع الاستثمارات الأجنبية[11]". هذه الفرضية كان قد درسها أساساً عالم الاجتماع هارولدو ديلا في مقال أثار الكثير من الجدل حين تحدث عن "الرفاق المستثمرين" قاصداً مديري الشركات الخاصة هؤلاء أو المشرفين على شركات الدولة المرتبطة باقتصاد السوق وقد اعتمدوا متطلباته وحتى إيديولوجيته. والواقع أنه من هذا الدمج بين النخب السياسية و"البيزنس" كما يقال في كوبا، يمكن أن تنشأ هذه الطبقة الاجتماعية الجديدة.
ومن شأن تنظيم النظام المختلط أو الخاص أن يجعل من غير الممكن نظرياً مراكمة الرأسمال إلا باللجوء إلى الفساد. وهذا الفساد، وإن يبقى محدوداً، قد شهد بعض التطور الذي يشجع عليه النقص والازدواجية النقدية وبنوع خاص استقلالية الشركات السياحية. وقد شنت الحكومة حملة واسعة ضد "هذا السرطان الذي يفسد الثورة من الداخل والذي هو أشد خطورة من أي قنبلة أميركية". وهنا في الواقع يمكن أن تزدهر قاعدة اجتماعية يخشاها النظام أكثر مما يخشى كل جماعات المنشقين.
ويمثل كبار العاملين في القطاع السياحي قوة تجارية ومالية هائلة، فهم يديرون مئات المؤسسات، فالقطب السياحي "فاراديرو (40 في المئة من أعمال المجموعة السياحية "غران كاريب") قد أعلن عن زيادة في مداخيله بلغت 25 في المئة بالنسبة إلى العام 2002، وكذلك تجمع "هاباغوانكس" (167 مبنى في هافانا القديمة) الذي زادت مداخيله بنسبة 10 في المئة خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 2003.
وإن السيد فيغا دل فالي، رئيس شركة الفنادق في ولاية كوباناكان، المجموعة الأهم مع 40 في المئة من مداخيل القطاع ورقم أعمال يقدر بـ800 مليون دولار و15 مجمّع و23 شركة مختلطة و9 فروع في الخارج، قد أقيل في العام الماضي من منصبه مع العديد من كبار المسؤولين بسبب "أخطاء فادحة في الإدارة". وقد جرى تكذيب بعض الاتهامات باختلاس أموال تم اكتشافه إثر الرقابة التي فرضت على أعمال القطع أجري في العام 2003 على الشركات الكوبية، غير أن وزير السياحة قد اضطر إلى الاستقالة بدوره، ليحل بعض العسكريين مكانه في إدارة الشركة السياحية "غافيوتا".
فالقوات المسلحة الثورية(FAR)، وهي القوة الاقتصادية الرئيسة في الجزيرة، قد أصبحت في الواقع تتدخل أكثر فأكثر في قطاعات السياحة والزراعة والصناعة والنقل والاتصالات والالكترونيات... وبات العسكريون يحتلون مناصب رئيسة داخل الحكومة وفي قيادة الحزب الشيوعي الكوبي، فإضافة إلى وجودهم داخل المكتب السياسي فان القسم التنظيري في اللجنة المركزية هو تحت إدارة الكولونيل رولاندو ألفونسو، ومؤسسة راديو وتلفزيون كوبا بإدارة الكولونيل إرنستو لوبيز.
وهؤلاء العسكريون، الذين استفادوا من إعداد اقتصادي وتجاري مستوحى من معايير الإدارة الرأسمالية، كانوا في أساس الإصلاحات التجارية و"تأهيل" شركات الدولة، في عملية إعادة تنظيم تهدف إلى زيادة أرباحها وفعاليتها عبر منحها مزيداً من الاستقلالية.
في هذا المجتمع الذي أصبح أكثر فأكثر تنوعاً بات التجانس السياسي سراباً، وبات تنوع الانتماءات أمراً نافراً. فكيف السبيل إلى التوفيق بين احترام التنوع وضرورة المساواة والتوتر القائم بين ما هو فردي وما هو جماعي؟ ففي مقال كتبه "من اجل فتح النقاش مع زملائه في جامعة هافانا"، يرفض ارماندو نورييغا[12] فكرة بلد مكون من "كائنات تحمل جينات الإجماع".
وبعد أن صوت عليه 198 188 8 كوبي (ما يعادل 98 في لمئة من الناخبين) في حزيران/يونيو عام 2002، جاء تعديل المادة 3 من الدستور ليؤكد على أن "الاشتراكية والنظام السياسي والاجتماعي الثوري اللذين نص عليهما هذا الدستور هما أمران لا عودة عنهما وأن كوبا لن تعود أبداً إلى الرأسمالية". ذاك كان الجواب على المطالبة بالإصلاحات الاقتصادية والسياسية التي عرفت باسم مشروع فاريلا بتحفيز من المسيحي أوزوالدو بايا. وهذا المشروع الذي جمع 000 11 توقيعاً طالب بحرية الاستثمار وتشريع الأعمال الخاصة وفتح سوق للعمل وبانتخابات عامة وبالتعددية السياسية.
وبإقرار عدم التراجع عن الاشتراكية أقفل النقاش قبل أن يجرى. ولم يكن من شأن الإغراء الذي يولده اقتصاد السوق بالنسبة إلى بعض الشرائح الاجتماعية إلا أن زاد اشتداداً. فمنذ أربع سنوات، منذ عودة "إليان"[13]، باتت "معركة الأفكار"، والعبارة هي لفيدل كاسترو، والحملات السياسية والمظاهرات المستمرة والرقابة على المنظمات الاجتماعية معتمدة بديلاً عن السلطة الشعبية الفعلية. غير أن التفاوت بين الأجهزة البيروقراطية في المنظمات الاجتماعية وبين طموحات الشعب يتزايد، فيما القطاعات المرتبطة باقتصاد السوق وبالمجموعات الأكثر دينامية في الاقتصاد (المستثمرون الأجانب وأدواتهم المحلية، القطاع الخاص الناشئ، الخ.) يتعزز موقعها. بينما الحزب الشيوعي الكوبي فانه يشكل العمود الفقري في جهاز الدولة والإدارة إلا أنه يبدو انه أصيب بالهزال كحزب سياسي.
وتبرز حدة التناقضات الاجتماعية السياسية في جميع الأوساط. كما تتجلى في أوساط الشبيبة الحاجة إلى تجديد الخطاب والممارسات السياسية. فالكنيسة الكاثوليكية تستنتج أنه "بالنسبة إلى الكثيرين، وحتى بين أبناء الزعماء، الخيار الوحيد المطروح، أو الحلم، هو مغادرة البلاد. ففي حين أنهم استفادوا من الجهود الهائلة التي بذلت في مجال التعليم، فان أصحاب الإدارات من الشباب نادراً ما يجدون عملاً يتلاءم ومستوى تحصيلهم العلمي.
وقد بات هناك مزيد من الاستياء من التعتيم على المعلومات التي تنشرها وسائل الإعلام أو القيود الموضوعة على الدخول على الانترنت. وبالرغم من نفي السلطات فان هذه القيود "ليست فقط من النوع التقني[14]". فصحيح أن سوء الشبكات وعدد الهواتف القليلة بالنسبة إلى السكان (6.37 لكل مائة نسمة) يجعلان الدخول على الانترنت أمراً صعباً. لكن الصحيح أيضاً هو أن الإدارة الأميركية أبدت صراحة رغبتها في استغلال شبكة الانترنت من أجل زعزعة النظام. كما أنه ليس أقل صحة أن الاتصالات ما تزال مراقبة وأنها يجب أن تمر عبر مؤسسات أو مراكز عمل و"تحترم القوانين المرعية الإجراء". فالسلطات "عازمة على التعامل بحزم مع المخالفين" (أي أولئك الذين يستخدمون أساليب مواربة لإجراء الاتصالات)، بحسب ما صرح وزير المعلوماتية والاتصالات.
كما أن الأوساط الفنية ليست في منأى عن حالة الاستياء هذه حتى وإن يكن التفجر الثقافي في تسعينات القرن الماضي، في الأدب والموسيقى والرسم والسينما، قد شجعت على انفتاح اكبر من جانب الاتحاد الوطني للكتاب والفنانين. فقد برز جيل أدبي جديد موهوب من أمثال ليوناردو بادورا وسينال باز زإينا لوسيا بورتيلا وأبيليو استيفيز[15].
ويرى استيفيز أن هذا الجيل يلتفت إلى المجتمع لكن "بنظرة مليئة بالمرارة ومليئة بالتشكيك". فهو إذ يتحدث في كتابه عن الحنين إلى الماضي يوضح أن الثورة تسير على خطى الكاثوليكية "التي تضحي بالحاضر باسم السماء والجنة، أما الثورة فإنها من جهتها تضحي بالحاضر باسم المستقبل الذي لا يثير اهتمامي. فما يهمني هو كيف أعيش حاضري[16]".
وفيما هو تعبي عن واقع الحال فان العديد من الكتاب أو الشعراء الذين يقيمون في الجزيرة ينشرون في مجلة "انكوينترو دو لا كولتورا كوبانا" ذات التوجهات المناهضة للكاستروية. ويسعى مديرها، رافاييل روياس، إلى أن يجعل منها ملتقى ثقافياً ما بين المنفيين وقاطني الجزيرة في سعي إلى مواطنية "كوبية" جديدة.
أما في ما يتعلق بالمثقفين، من علماء اقتصاد واجتماع وسياسة وبحاثة، فان منشوراتهم أكثر خضوعاً للرقابة. ومنذ حل الفريق الإداري في "مركز الدراسات الأميركية" في العام 1996[17]، تحاول مجلة "تيماس" بكل حذر أن تتناول مجالات تفكير جديدة.
وفي ظل هذه الظروف انفجرت موجة القمع في العام 2003. وبعد عام على ذلك صرح السيد فيدل كاسترو في مقابلة صورها أوليفر ستون[18]: فلقد آلمني أن أرسل هؤلاء الناس إلى الموت، لكن هذا ما كان يجب فعله" معترفاً بذلك بمسؤوليته الشخصية وبعدم وجود نظام قضائي مستقل. فمن أجل إنقاذ الثورة و"من اجل وقف موجة الإرهاب كان يجب القضاء على الشر في مهده".
ولقد كان لهذه المحاكمات فعل الإنذار لإدارة بوش في ظل ظروف دولية مقلقة جداً. وفي الواقع أنه لا يمكن التقليل من حجم التهديدات التي تضغط على كوبا. إذ فقط السذج أو المتعجرفون يمكنهم الاعتقاد أن موقف واشنطن تمليه الرغبة في إعادة الديموقراطية وليس المصالح الاقتصادية أو السياسية و/أو الاستراتيجية في كوبا كما في العراق أو أفغانستان[19].
وقد جاءت التصريحات التهديدية ضد كوبا، ومظاهرات ميامي مع هتافات: "اليوم العراق وغداً كوبا!" باسم "نشر الديموقراطية في العالم والدفاع عن حقوق الإنسان". ألم يدعُ الرئيس بوش فيكانون الثاني/يناير عام 2004 خلال مؤتمر الدول الأميركية إلى "تغيير سريع وسلمي في اتجاه الديموقراطية في كوبا"؟
وعلى الأرجح أن حكومة بوش قد اتخذت باسم حرية التعبير قراراً بمنع نشر المقالات العلمية التي كتبها باحثون كوبيون في المجلات الأميركية بذريعة أن نشرها سوف يشكل خرقاً للحصار المفروض، وهو إجراء لم يتخذ أبداً ضد العلماء في حقبة الحرب الباردة.
وبحسب واشنطن أن كوبا هي "الدولة الوحيدة غير الديموقراطية في النصف الشمالي من الكرة الأرضية". لكن من المسموح محاولة زعزعة الديموقراطية المزعومة في فنزويلا وفرض منع الحمل بالقوة على مئات الآلاف من النساء في البيرو وإطلاق النار على الجماهير في بوليفيا دون مواجهة أي عقوبة وفي جمهورية الدومينيكان وهايتي، وإطلاق سراح بعض المجرمين من أمثال الجنرال السابق أوغوستو بينوشيه أو الجزار والديكتاتور الغواتيمالي السابق ريوس مونت الخ. وكل ذلك حيث الدستور يكفل التعددية والملكية الخاصة.
بكل بساطة إن الخطر الخارجي على كوبا قائم. لكن هل أن المحاكمات المغلقة والمحامين المعينين من قبل الدولة والأحكام السريعة والإعدامات والسجن قد ساعدت في الدفاع عن كوبا أم أنها أضعفتها؟ ففي بلغراد منحت في 3 أيار/مايو الجائزة العالمية لحرية الصحافة، التي تقدمها اليونيسكو، إلى راوول ريفيرو الشاعر والصحافي الذي يواجه حكماً بعشرين عاماً في السجن. إن سجنه كان ليعطي صورة مزعجة عن النظام ويشدد في الحملة القائمة ضد كوبا.
ولا يمكن تحديد حقوق الإنسان فقط بالحقوق الاجتماعية، والحريات الحقيقية، مقارنة بالحريات "الرسمية"، الناتجة عن نظرة قضائية مطلقة إلى حقوق الإنسان. إن تاريخ القرن العشرين قد حسم هذا الجدل القديم. فالحريات الديموقراطية هي أيضاَ ضرورة عملانية وشرط للفعالية الاقتصادية وسلاح ضد مصادرة السلطة. لكن هذا الموضوع هو في كوبا من المحرمات. فالصعوبات ليست فقط من النوع الاقتصادي بل أنها من النوع السياسي أيضاً.
وهذا ما يوضحه أحد كبار الموظفين الكوبيين قائلاً: "الجميع يريدون تغييرات اقتصادية باستثناء فيدل". وهو على غرار العديد من سائر المسؤولين يعتقد أن أخطاء الاشتراكية هي من النوع الاقتصادي وأنها تزيد من صعوبة تحقيق التغييرات الضرورية بدون خسارة السلطة بعد رحيل السيد فيدل كاسترو. والقوى المتواجدة على الأرض تتحضر لذلك.
وداخل النظام يبدو البديل جاهزاً. فهناك إدارة جماعية بقيادة السيد راوول كاسترو من المفترض أن تؤمن عملية انتقال السلطة بمؤازرة الجيش القوي بنفوذه الاقتصادي وبانضباطيته. غير أن الاستقرار السياسي سوف يكون رهن تحسين الوضعين الاقتصادي والاجتماعي. ففي المكتب السياسي للحزب الشيوعي يتعايش موظفون كبار في الدولة وأعضاء دائمون في الحزب وعسكريون يدفعون في اتجاه انفتاح اقتصادي ممسوك. ففي حال رحيل مؤسس الثورة من الذي سوف يحكم في النزاعات؟
وتخلص السيدة مارتا فرايدي، وهي من الشخصيات المنفية إلى القول أنه في الطرف الخصم "تفتقر البلاد إلى قوة معارضة موحدة، فحركة الانشقاق مفككة[20]". وفي المرحلة الحالية لا ترغب الكنيسة الاضطلاع بدور سياسي وهذا ما يثير الخلاف مع السيد اوزوالدو بايا، الكاثوليكي المناضل الذي تستعين به بدون أن تضعه في الواجهة. لكن من الممكن، في بعض الظروف، أن تلعب السلطة الكاثوليكية دوراً في مرحلة من المصالحة الوطنية.
وما الذي ستفعله الولايات المتحدة؟ بعد رحيل السيد فيدل كاسترو هي تراهن على إعادة توجيه النخب بغية الحفاظ على استقرار المنطقة. فلا مصلحة لها في انتشار الفوضى إذ أن قدوم مئات الآلاف من اللاجئين إلى سواحلها الجنوبية قد يتسبب لها بمشكلة أمن قومي. أضف أن اللوبي الأميركي للزراعة التجارية المستفيد الرئيسي أساساً من المشتريات الكوبية[21] سوف يمارس ضغوطاً من أجل رفع الحصار. غير أن الجناح الراديكالي من المنفيين في ميامي سوف يطالب بـ"حقه في العودة" ويطمع في الانتقام السياسي.
أما بالنسبة إلى الشعب الكوبي فان الرهانات مختلفة وهي تتمثل في إنقاذ إنجازات الثورة الاجتماعية والدفاع عن الاستقلال وعن الثقافة الوطنية مع تأمين انتقال الشرعية الثورية إلى شرعية أخرى مؤسساتية "تسمح بتطوير الآليات الديموقراطية التي يحتاجها النظام بقوة"[22].
* جامعية، من مؤسسة الدراسات العليا الخاصة بأميركا اللاتينية، باريس.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] . هي الأماكن التي يعيش فيها العمال في المراكز الكبرى لصناعة السكر.
[2] . في 12/3/1996 أقر الكونغرس في الولايات المتحدة قانوناً ذا يطبق خارجياً قدمه السيناتور جيسي هيلمز والنائب دان بيرتون/ عرف بقانون هيلمز وبورتون، نص على فرض عقوبات على كل من له علاقات تجارية مع كوبا في العالم.
[3] . المرجع:
Economist Intelligence Unit (EIU), Country Profile, Cuba 2003.
[4] . المرجع:. La Lettre de La Havane, n° 33, janvier 2004, mission économique de La Havane.
[5] . لا تتلف هذه الشروط عن تلك التي تقبل بها كاراكاس في التعامل مع بعض دول الكاريبي الصغيرة. التجديد الوحيد هو استفادة هافانا من هذا الاتفاق بعد أن كانت قد أقصيت عنه بسبب الضغوط الاميركية.
[6] . المرجع:
Pedro Monreal, Julio Carranza Hacia una nueva agenda de desarrollo en Cuba, Miméo, La Havane, mars 2003.
[7] . أموال المهاجرين الكوبيين المرسلة من الخارج.
[8] . المرجع:
Angela Ferriol “ Explorando nuevas estrategias para reducir la pobreza en el actual contexto internacional. Experiencias de Cuba, La Havane 2002.
[9] . المرجع :
Mayra Espina “ Efectos sociales del reajuste economico : igualdad, desigualdad y procesos de complejizacion en la sociedad cubana ”, CIPS, Miméo, La Havane, mars 2003.
[10] .صحيفة "الباييس"، مدريد، في 7/3/2004.
[11] . المرجع :
Juana Conejero “ Una nueva clase social en Cuba ?”, thèse de sociologie, 2001, Université catholique de Louvain.
[12] “Cuba et poyecto y las isquerdas”, Cuba si, n 153, jan-mars 2004.
[13] . إليان غونزاليس الولد الغريق الذي ماتت امه غرقاً وهي تحاول أن تصل سراً الى الولايات المتحدة كان بطل المعركة بين عائلة
أمه في ميامي وبين أبيه في كوبا. وبعد ان استعادته السلطات الأميركية بالقوة أعيد في النهاية الى والده والى وطنه كوبا في 29 حزيران/يونيو عام 2000.
[14] . المرجع المذكور أعلاه :
Pedro Monreal, Julio Carranza, op.cit. pp. 80-81.
[15] . حائز جائزة افضل رواية أجنبية في فرنسا عام 2000 عن كتابه:
Ce royaume t’appartient, Grasset/Bourgois, Paris, 1999.
[16] . المرجع:
Encuentro de la cultura cubana, n° 26/27, hiver 2002/2003, Madrid.
[17] . المرجع:
“ Miser sur l’Eglise pour sauver la révolution cubaine ? ”, Le Monde diplomatique, février 1997.
[18] . مقابلة مع اوليفر ستون نقلتها مجلة :
Paris Match, Paris, n° 2836, 25 septembre 2003.
[19] . اقرأ:
Gianni Minà, “ Le syndrome de l’île assiégée ”, Le Monde diplomatique, juin 2003.
[20] . من حديث مع مارتا فرايدا في مجلة "السياسة الدولية" (Politique Internationale)، باريس، شتاء 2003/2004.
[21] منذ العام 2001 دفعت كوبا 500 مليون دولار ثمناً لمستورداتها من المواد الغذائية من أميركا. المرجع:
(Country Report, EIU, Londres, novembre 2003.)
[22] Armando Noriega, op.cit.
جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم
#جانيت_هابل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟