أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جان-ماري بروم - الرياضة والقيم الاولمبية المغلوطة















المزيد.....


الرياضة والقيم الاولمبية المغلوطة


جان-ماري بروم

الحوار المتمدن-العدد: 870 - 2004 / 6 / 20 - 06:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


جان-ماري بروم ومارك بيرلمان وباتريك فاسور*
Jean-Marie BROHM, Marc PERELMAN et Patrick VASSORT

إن عولمة الرياضة، وقد بدأت عملياً بعد الحرب العالمية الثانية مع مضاعفة المنافسات إلى ما لا نهاية، قد رافقها ما يمكن تسميته "ريضنة" العالم بما شكل موجهاً سياسياً إيديولوجياً مشتركاً بين مجمل القوى المالية التي تخضع العالم لإملاءاتها. فبعد أن أطلق البارون بيار دو كوبرتان حركته الكاسحة لتعميم الرياضات عبر إحيائه في العام 1896 الألعاب الأولمبية في أثينا، باتت الظاهرة الرياضية تتميز بتساوق العديد من العوامل، من تطور معظم الأنواع الرياضية في العالم كله بشكل غير مسبوق الى توحيدها دولياً عبر قوننة القواعد الموحدة إلى الزوال التدريجي للتقنيات الجسدية أو الألعاب المحلية الوطنية.

وكان من شأن وحدة هذا المجموع أن أعادت في آنٍ معاً تشكيل زمن العالم (وضع أجندات للمنافسات حافلة أكثر فأكثر، فارضة معالم يرتضيها الجميع) والحيّز الجغرافي (مضاعفة الأماكن الرياضية من الساحات عند أسفل المباني إلى مدارج الملاعب إلى شاشات التلفزة في المنازل إلى الطبيعة الطلقة) وكل ذلك في خضم مشاهد استعراضية منقولة عالمياً على شاشات التلفزة. ويبدو أن ما يخفيه تمفصل الزمان والمكان غير المسبوق هذا هو قصة جديدة مؤلفة من الإنجازات والأرقام القياسية والنتائج المحققة مما يؤدي إلى توليد الأوهام و"الأساطير العجيبة" التي يصبح أبطالها آلهة وسط بحر شاسع من الصور.

هذا الوباء الرياضي، لاتساع دائرة تأثيره داخل الحياة اليومية، يمكن في الواقع ملاحظته في عولمة الرياضة كعالم لـ"الرابحين" لا رحمة فيه، وهم أحياناً من أصحاب القبضات الضاربة. فالحيز العام المتقلص إلى شاشة أحلام تلفزيونية، بات مشبعاً بالرياضة إلى درجة من الالتزام صارت معه السياسة مثلاً تعتبر هي بدورها نوعاً من الرياضة. وقد أصابت الحمّى الرياضية بعدواها الضمائر بسرعة لا مثيل لها جاعلة من كل فرد مشجعاً بالقوة. إلى درجة أن الرياضة باتت تمارس في السياق نفسه مع الحاجات، مثل الشرب والأكل والنوم، وأنها أصبحت الحيز والزمان شبه المطلق لهذه الجماهير المستوحدة المخبولة بالشغف بما ليس جوهرياً، مثل تسديدة على المرمى أو انطلاقة سريعة أو تمريرة على الطائر. وباتت الرياضة تصنع الحياة اليومية حتى انه بالنسبة الى بعض الأفراد لم يعد هناك خارج إطارها، اللهم هذا الفراغ السحيق في الرطانة المتلفزة البعيدة عما هو واقعي.

وإذا كانت المدرجات تسمح بعيش المباراة فعلياً فان الافتتان المشهدي الحقيقي الذي يسيطر على الجماهير المسحورة يتأتى تحديداً من التأثير المبتذل والمخدر في آنٍ معاً لإعادة البث المعممة للمنافسات، وذلك من نقطة واحدة في العالم، أي الملعب، إلى جميع النقاط الممكنة، أي إلى كل منزل ووفق طريقة بث خاصة بها، أي البث المباشر والفوري، والحركة البطيئة والإعادة من مختلف الزوايا دون توقف.

وقد أصبحت الرياضة، بطريقة تمظهرها حتى، أحد العوامل الموجهة في نظام العولمة الجارية، أي رسم الحيز المكاني الكوني على أساس نظام زمني موحد تم تشييئه، وتجميده بكل معنى الكلمة، متشكلاً من القوة الشاملة لعملية البث التلفزيوني. ومكان التوقيت الذي لا يزال مطبوعاً بواقعية الأحداث، التوقيت المركب ذو الحركية الديالكتيكية[1] بشكل ما، حل إذن توقيت الرياضة الذي يقسم التاريخ على وقع المنافسات والأرقام القياسية والبرامج التلفزيونية. فالرياضة "القائمة فعلاً" ليست سوى حالة مسعورة من المباريات وتنظيم دوراتها الدائمة وفق جدول زمني عالمي. ولم تعد الرياضة بالتالي سوى أحد المكونات الزمانية والمكانية التي اكتسبت استقلاليتها في عالم الرأسمال وعبره. إنها الاستئثار بالزمان والمكان على صورته وكصورة نموذجية.

فالأبطال، وهم النجوم الجدد في نظام العولمة، قد احتلوا مكان نجوم السينما وعالم الاستعراض. فالرياضي ذو المستوى العالي قد أصبح النموذج الدعائي المحتذى، النموذج الذي على الشبيبة أن تتمثل به. وليس فقط أن الممولين يركّبون صورة الرياضيين وكأنها منتجات معولمة معيارية، بل أن نظام العولمة يوصل الشخصيات الكونية من الرياضيين الموحدي الصورة على غرار أحذيتهم، لغتهم المشتركة هي هذا الخليط الأنغلو-رياضي، وقد تحقق التجانس في طريقة عيشهم إذ لهم "مشروب القوة" نفسه والفنادق الفخمة ذاتها والشغف نفسه بالعبوات المستديرة الضخمة، التدريبات الجنونية نفسها والمنشطات نفسها والاهتمام نفسه بالحسابات المصرفية.

وهؤلاء "القلة السعيدة" المنخرطون في "أندية" وحظائر وفرق تشرف عليها بعض المصالح المالية النافذة، يخصصون أوقاتهم للقاءات الرياضية حول العالم مقدمين استعراضاتهم أمام جماهير هائلة من المحرومين والمقهورين الذين تقلص دورهم إلى مجرد مشاهدي تلفزيون متعصبين أو إلى آلات للتصفيق كما في برامج "تلفزيون الواقع".

وتنتج القوة الفعلية لإيديولوجيا الرياضة من التكاثر اللامتناهي في أشكال المنافسات بدون أي وساطة أخرى سوى هذه التعليقات المؤسفة بابتذالها. فالعولمة المتلفزة بشكل دائم تحول عندها الشغف الرياضي شغفاً بالصورة، أي نوعاً من "عبادة الأيقونة" تمثلاً بمفهوم غونتر أندرز[2]. فالعدوى العامة التي تطال النفوس تنتج إذن من هذا التطريق الرياضي المتلفز المستديم، الذي يقوم عبر الحركة الصورية اللامتناهية التي فرضتها التكنولوجيات الرقمية التي تسمر كل فرد أمام الشاشة (الانترنت والهواتف المحمولة وسينما البيت والتلفزيون الخ.) بالاحتفاء ليس فقط بالأيقونات الرياضية الجديدة بل أنها وبكثافة تصنع قطرةً قطرة نظرة العالم الرياضية.

كتب انغلز قائلاً: "إن الايديولوجيا هي مسار يطبقه المفكر المزعوم على الأرجح بكل وعي، لكن بوعي زائف. أما القوى الدافعة الحقيقية التي تحركه فإنها تبقى مجهولة بالنسبة إليه وإلا لما بقي هذا المسار إيديولوجياً أبداً. وهكذا فانه يخترع قوى محركة خاطئة أو ظاهرية"[3]. وكذلك فان الايديولوجيا الرياضية تبرز إلى الواجهة العمل المفترض لحالات التخدير المبتدعة (الفكرة الأولمبية والسلام الأولمبي واللعب النظيف والروح الرياضية الخ.)، متجاهلة القوى المحركة الفعلية للرياضة، أو كاتمة ومتنكرة لها، وهي تكديس الرأسمال الرياضي والسباق المحموم إلى الربح المادي والتأثيرات المؤذية الناتجة من المنافسات.

والشكل الأول للوعي الزائف الذي يميز عالم ديزني لاند هذا كجهاز إيديولوجي هو إنكار أي طابع إيديولوجي ونزع الصفة السياسية عن كل ما له طابع سياسي في الرياضة.

وفي أوساط متعاطي الرياضة ومديريها الغارقين في هذا البحر الحالم النرجسي والمتعاظم في آنٍ معاً، تقدم الرياضة بطريقة ساذجة أو أكثر انحرافاً لدى بعض المثقفين على أنها عبادة التجلي ومجتمع مضاد للجهود التنافسية، عالم مفتون وساحر بممارسات التفوق على الذات مما ليس له أي صلة بالتناقضات الايديولوجية ولا بالتوجهات السياسية والقناعات الدينية. وهكذا تصبح الرياضة في جوهرها بلا لون مضادة للسياسة، خارجة عن صراع الطبقات، ليست من اليمين ولا من اليسار ولا حتى من الوسط وأرفع من الخلافات الحزبية أو النزاعات الاجتماعية.

ومن شأن إيديولوجيا "الحيادية السلوكية" أن تنفي بقوة دور الرياضة كمشروع لنشر الخبل والتوجيه والتخدير في أوساط الطبقات الشعبية سواء في العواصم الإمبريالية أم في العالم الثالث. وهذا ما يتجلى بشكلين أساسيين لا يصعب أبداً تمييزهما في دورة الألعاب المقبلة في أثينا.

الأول، وهو ما تقول به بكل تشدد جميع النزعات اليسارية، يقضي بالتأكيد أنه يمكن للرياضة أن ترتدي جميع الألوان، من الأحمر الفاقع إلى الزهري الباهت. فالرياضة إذا ما نظمت بطريقة "تقدمية" يمكنها أن تساهم في تحرير المرأة وفي محاربة العنصرية وكره الأجانب، كما تساهم في عملية التكامل الجمهوري وتطلق مجدداً حركة الصعود الاجتماعي وأخيراً هي تطور "الثقافة". هكذا يصبح هناك رياضة حقيقية، رياضة تربوية، رياضة طاهرة، رياضة ذات وجه إنساني وبالإجمال يصبح هناك جوهر أو فكرة أفلاطونية في الرياضة تناقض المبالغات المؤسفة والابتزازات والتشويهات والانحرافات في الرياضة القائمة حالياً. وبالطبع فان الحقيقة المرة المتمثلة بالنزعة الاتجارية والمنشطات وترتيب النتائج والفساد هي الكفيلة بإعادة هؤلاء المتاجرين بالأوهام إلى رشدهم بين وقت وآخر.

أما التعبير الثاني عن إيديولوجيا الحياد الايديولوجي، الأكثر قوة حتى، فانه يصدر من وقت إلى آخر في الهتافات الجماعية المعبرة عن "الإجماع الرياضي". فعملية التجميع وحشد الجماهير والتعبئة العامة إن لم نقل التوتاليتارية في صفوف الجماهير التي "تطير من الفرح" إزاء إنجازات آلهة الملاعب، كما حدث مؤخراً مع فوز تونس ببطولة إفريقيا بكرة القدم، كل ذلك يفترض به أن يبرهن عن شمولية "المثال الرياضي" أو "الفكرة الأولمبية". وإذاك يبدو من المذهل جداً أن نرى بعض المثقفين، المتميزين عادة بروح نقدية، ينضمون إلى جماعات هؤلاء المهووسين بالعضلات، عاجزين عن اكتشاف الوظائف السياسية الرجعية في عملية فرض المنحى الرياضي على الأذهان، وفي عملية التطريق هذه العاطفية المفتعلة حول "أبطالنا".

وفي حالات الانتشاء الوطني، وحتى أن البعض تحدث عن نشوة جنسية، التي يتشبع بها المشهد الشعبي في حالات الفوز، يطيب لأصدقاء الرياضة إذن أن يكتشفوا تجلياً للوحدة المقدسة التجديدية. وهكذا يصبح الأبطال طليعة مجتمع متصالح مع نفسه. ففوز منتخب فرنسا "الأسود-الأبيض_المغربي" بكأس العالم في العام 1998 شكل مناسبة لموجة متدفقة من عملية شعبوية في إفساد العقول.

فقد أكد ديديي دوشان، كابتن المنتخب "الأزرق" بكل جدية أن "كرة القدم هي عامل يساعد في محو الفوارق العنصرية أو الاجتماعية أو السياسية[4]". أما المدرب إيميه جاكيه فقد كان أكثر شاعريةً: "لقد اكتشفت فرنسا نفسها عبر هذا الفريق المتعدد الاتنيات. فإن يكون هؤلاء الفتيان المولودون في فرنسا والممتلئون غبطة بالحياة وطموحاً قد أسعدوا هذا الكم من الناس، هو أمر إيجابي للبلاد. وأعتقد أن هذا يمكن أن يعطي دفعة قوية للوحدة الوطنية"[5]. أما كاتب افتتاحيات صحيفة "لومانيتيه" فقد نسج مجازياً صورة "أسطورة القرن": "إن معبودي الجماهير هؤلاء قد دخلوا بشكل صارخ دائرة الخلود في كرة القدم"[6]. وفي هذه الحال لم يكن من المستغرب أن يتم اختيار زين الدين زيدان "الفرنسي المفضل لدى الفرنسيين" وحتى أن يحلم أكثر من صعقهم الأفيون الرياضي بـ"زيدان رئيساً للجمهورية"!

لكن هذه الديماغوجيا الإجماعية لم تصمد طويلاً أمام مبدأ الواقعية، فلا "كرة قدم المدن" ولا "كرة الشارع" ولا "الرياضة الشعبية" ولا "الرياضة للجميع"، كل هذه الشعارات التي تراود الفكر الطامح، لم تمنع تفاقم "الانقسام الاجتماعي" والتفكك المستمر في الروابط الجماعية في "الأحياء الصعبة". فالمواجهات الرياضية، العاجزة عن المساهمة في تحقيق التوافق المدني، باتت تشوبها أكثر فأكثر الحوادث الخطيرة وأعمال العنف الحاقدة من دون أن تكون مجرد "شوائب" أو "حوادث متفرقة" إنما نتيجة الفوز بأي ثمن الذي يتقدم على أي مستوى في المؤسسة. فليس من شأن الأدغال الرياضية إلا أن تعكس هنا الذات البديلة أي أدغال العولمة الليبرالية.

والمسار الايديولوجي الثاني يتمثل في التعبير عن التفكك شبه الانفصامي بين الخطاب الرسمي، الذي يعززه على طريقتهم مصنعو الضمير الرياضي الحي[7]، وبين الحقائق البديهية المؤسفة في "الوسط"، من تزايد أعمال العنف وتفاقمها خلال المباريات وخارجها إلى الفضائح المتكررة من الفساد المافيوزي أو نصف المافيوزي، إلى إضفاء الطابع النقدي المعمم على "القيم" الرياضية، إلى أعمال التزوير والغش من كل الأنواع وخصوصاً اللجوء إلى المنشطات بشكل مكثف وعلى كل المستويات.

فبحسب منطق الانقسام الانفصامي البالغ القدم، نحن إزاء حالة تفكك مزدوجة، إذ يفترض أولاً أن تكون المؤسسة الرياضية مستقلة عن المجتمع الرأسمالي الشمولي وأن تتمكن من إتباع منطق له استقلاليته. وفي مجتمع أفسده السعي إلى الكسب تصبح الرياضة قادرة على الحفاظ على ذاتها كجزيرة صغيرة "طاهرة" يحميها ما عندها من "قيم". ثم يفترض بالمؤسسة الرياضية أن تكون موزعة بحسب المنطق الازدواجي لـ"الرياضة الصحيحة" تقابلها "استخداماتها السيئة" و"انحرافاتها" و"تشوهاتها". وفي هذا المجال لا تكون المنشطات إلا ظاهرة عرضية مؤسفة "تضر" طبعاً بالأخلاقية الرياضية لكنها تبقى ممارسة محدودة ببعض المخادعين النادرين في بعض الرياضات الخاصة.

والحال أن أحداث السنوات الخمس عشرة الأخيرة قد بينت بكل وضوح أن اللجوء إلى المنشطات هي، أكثر منه انتهاكاً دورياً، المعبر المسخي عن طبيعة الرياضة الصحيحة، أي هي السعي الحتمي إلى التلاعبات البيوكيميائية، نوع من "علم المبالغة الإنسانية" “ anthropomaximologie ” كما كان يقول في ما مضى المنظرون السوفيات، وهي مشروع توتاليتاري يهدف إلى إخضاع الإنسان لصناعة إنسان موجه أو كائن إحيائي الكتروني من نوع جديد. وهكذا فان التحقيقات والمحاكمات والاعترافات والافشاءات قد أدت إلى كشف الوجه الحقيقي للمنافسات.

إن هذا الوابل من فضائح المنشطات في سباق الدراجات وألعاب القوى، كما في كرة القدم أو السباحة، وبعدها ما هو أكثر قدماً في رفع الأثقال والتزلج والتجذيف، كان من نتائجه أنه أخضع جميع الرياضات للرقابة بعد أن ضبط الرياضيون الواحد بعد الآخر في قضايا المنشطات (ومنها رياضة الركبي والفروسية والجودو والمصارعة وكرة المضرب...). وهي قد أرست على الأخص مسألة الظروف الطبية الفعلية المكدرة التي تتحقق في إطارها الإنجازات اليوم. فمضاعفة التدريبات والمنافسات وزيادة أعباء العمل المرتبطة بالارتفاع الدائم في متطلبات المستوى الرفيع، وتكثيف الرهانات المالية والضغط الإعلامي قد حولت نهائياً المنشطات من حرفة إلى صناعة متعددة الجنسية لها مصدّروها وفروعها ووسطاؤها[8].

وفيما تطول لائحة النتائج الايجابية في أوساط الخاضعين للفحص وذلك على مستوى جميع أنواع المنافسات الرياضية، فإن المسؤولين يتظاهرون بأنهم اكتشفوا حجم هذه الموجة. فبعد كل جولة من سباق فرنسا أو إيطاليا للدراجات يعد المشرفون بالعودة إلى "النظافة" في انتظار أن تتلطخ السمعة في فضيحة جديدة. وفي الرياضات الأخرى هناك فقط بعض السيئي المسلك على ما يبدو يلجأون إلى المواد المحظورة وحتى بشكل متقطع.

وقمة الضمير الزائف هي في ما يؤيده الأكثر شفافية أو الأكثر تشكيكاً من تمويه اللجوء إلى المنشطات بأساليب التورية، من المكملات الفيتامينية إلى التغذية المشبعة إلى دوزنة الهورمونات إلى تجديد الأوكسيجين في الجسم إلى أدوية الربو إلى مقويات العضلات إلى الكرياتين وسائر منبهات الجهد، كلها تستعمل للتعبير بحياء عما لا حصر له من الحقن والانفيتامينات (من المنبهات) إلى تشريع مختلف أنواع منميات العضلات والقشرة وعمليات نقل الدم بكميات كبيرة وما هو مألوف من العلاجات بواسطة الـ" EPO " وحالياً بواسطة " THG ".

وعندما يلجأ بعض الرياضيين النادرين المشهورين الى "الحقن "، مثل الكوبي سوتومايور (في القفز العالي) والبريطانيين كريستي وتشامبرز(العدو السريع) أو النمسوي شونفلدر (التزلج) قد نفكر في القول بأنها "حالات منعزلة" بسيطة. لكن ليس هؤلاء سوى الرأس البارز من جبل الجليد الهائل. وليس أمام الآخرين خيار، فإما يرتضون، إرادياً بشكل ما، اللجوء إلى "الأدوية المساعدة" لتحقيق الفوز، أو أنهم يرفضون اللعب في ميدان الكبار. ولو أن الأمر لا يتعلق بقضية تتناول الصحة العامة لأمكن الكلام هنا ببعض السخرية عن "تصدع رياضي" بين أولئك الذين انضووا أساساً إلى طائفة الإدمان الكبرى وأولئك الذين ينتظرون أن يشكلوا جزءاً منها.

وفي الواقع أنه يتم الإجهاز تماماً على الجياد، لا هم عندها إن كان العديد من الرياضيين قد سقطوا الآن وهم في زهرة شبابهم، في "ميتة طبيعية" كما تقول البيانات الغامضة[9] أو ضحية إدمان المخدرات مثل بانتاني ومارادونا وغيرهما الكثير من الذين طالما قدموا على أنهم "قدوة للشبيبة". وفيما الوكالة الدولية لمكافحة المنشطات تضاعف من حركاتها فان قوانين مكافحة المنشطات المطبقة بشكل خجول في بعض الدول (ومنها فرنسا) تفضح عجزهم المأسوي وعجز الأجهزة والمؤسسات الرياضية لإهمالها إن لم نقل لتواطئها الإجرامي في هذه المجزرة المبرمجة.

ومع ذلك هناك إصرار على الاحتفال بما ليس قائماً من أجل التكتم بشكل أفضل على ما يحدث. وبالطريقة نفسها التي منع فيها "المثال الشيوعي" ولزمن طويل المناضلين من الاعتراف بالحقيقة الصارخة لجرائم الاشتراكية القائمة فعلاً عبر تعميتهم عما غفلوا عنه، فان "المثال الرياضي" أو "الفكرة الأولمبية" بحسب الصيغ الكلامية الطقوسية في عالم الدعاية الرياضية الإعلامية، تساهم إلى حد كبير في إخفاء الظروف الحقيقية لنشاطات التنافس الرياضي. وبالطريقة نفسها التي قضت في ما مضى بعدم "تيئيس" معقل "بيلانكور" العمالي، يجب عدم تثبيط حشود المخدوعين الذين يكادون يكونون مخدرين. "يجب أن يستمر الاستعراض..."( The show must go on...)

أما المسار الإيديولوجي الثالث فانه يتعلق بنظرة العالم الرياضية كمجموعة من الخطابات الكمالية[10]. فوظيفة الإيمان الرياضي الجوهرية تقوم في الواقع على الحفاظ على نقاوة مبدأ الرياضة البدنية، أي الطابع الطاهر للأسطورة الأولمبية. فباسم هذه "الفكرة الرياضية" المضللة يقترح العديد من المنظرين إعادة الاعتبار إلى القيم التي يفترض بالوسط الرياضي أن يمجدها. والحال أنه، وبغض النظر عن أن الترفع لم يكن قطً سوى وهم مثالي، فباسم هذا الترفع المفترض تحديداً وضعت المنافسات الرياضية دائماً في خدمة المصالح الاقتصادية والسياسية والايديولوجية التي هي واقعية من جهتها.

وهذه الايديولوجيا، بتذرعها بطريقة شبه صوفية بـ"القيم الرياضة الخالدة" تسعى إلى أن تفرض تطبيقها كنبوءة ذاتية التحقق عبر ردمها الهوة القائمة بين الحقيقة الدنيوية في الممارسة الفعلية للرياضة المشهدية الرأسمالية وبين الفلك العلوي لـ"الفكرة الرياضية". وبطريقة الأمر الجازم هي تسعى إلى تسخير بعض الأخلاقيات البراقة إلى حد ما لصالح مثال هيامي كان كوبرتان المبشر الأكبر به. أما بنود فعل الإيمان الرياضي، مثل اللعب النظيف واحترام الخصم والهدنة الأولمبية والصداقة بين الشعوب وعيد الشبيبة الخ.، والمرتلة على كل النغمات فإنها تلتقي منذ سنوات عند حالات ربط مزيفة ما بين الرياضة والثقافة والرياضة والسلام والرياضة والديموقراطية والرياضة وتحرر الشعوب والمحرومين والمرأة والرياضة واحترام البيئة الخ.

وحتى أن الايديولوجيا الرياضية، وفي سلسلة من المعادلات المغلوطة، تجرؤ على جعل المثال يتماهى بكل بساطة مع نقيضه. وهذا ما حدث في الأرجنتين مع مبدأ "حرية اللعب" الذي احتفل به في العام 1978 جميع هواة الكرة المستديرة، في ما كان عملية ترويجية للزمرة الفاشية بزعامة يورغي رافاييل فيديلا، التي وجدت ضمانها في الاتحاد العالمي لكرة القدم (الفيفا) ولدى جميع مؤيدي الأمر الواقع.

وكذلك فانه باسم "المثال الأولمبي" أقيمت ألعاب الصليب المعقوف في برلين في العام 1936، والألعاب الستالينية في العام 1980 في موسكو، والألعاب البوليسية في سيول في العام 1988. وكذلك فان أثينا، وباسم "الأخوة الأولمبية"، سوف تخصص في آب/أغسطس عام 2004 التجمع "السلمي" لكوكبة لا حد لها من "الدول المارقة"، ومن ديكتاتوريات جمهوريات الموز والأنظمة البوليسية التي ستحاول أن تجمع الميداليات والشرف والاعتبارات في ظل حماية لصيقة من آلاف العسكريين وعملاء الأجهزة الأمنية المجندة لتدارك الاعتداءات الإرهابية.

وبعدها سوف تسلّم أثينا، مهد الفلسفة والديموقراطية في العصور القديمة، الشعلة الأولمبية إلى بيجينغ، الرمز المشؤوم للاستبدادية الشرقية. أما مبخرو الرياضة فإنهم سيغمضون عيونهم بكل حياء عن الانتهاكات الجماعية لحقوق الإنسان في الصين من أجل الهدف الأوحد وهو تأمين "نجاح" العيد الأولمبي في العام 2008.

وعندها سوف يتم تناسي معسكرات العمل وأكاذيب الدولة واحتلال التيبت وعملية القمع الدموية في ساحة تيان آن مين وإعدامات المحكومين علنياً وابتزازات الشرطة السياسية والتهديدات الموجهة إلى تايوان وعملية التطبيع الجارية في هونغ كونغ. ومرة أخرى فان المهرجانات الأولمبية سوف تلعب دور الحجاب الواقي للقيام بالدعاية لنظام توتاليتاري. والصيغ الكلامية الرياضية بنزعتها الإنسانية الرخيصة، سوف تبرر عملية التسويق السياسية لبيروقراطية صينية، وكعادتها فإن الرياضة "بغائيتها التي لا غاية لها" سوف تشرع لنظام طغيان عنفه غير المشروع.

* هم على التوالي: أستاذ علم الاجتماع في جامعة مونبيلييه الثالثة، وأستاذ علوم المعلومات والاتصالات في جامعة باريس العاشرة-نانتير، وأستاذ محاضر في علوم النشاطات الجسدية والرياضية وتقنياتها في جامعة كان.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] Walter Benjamin, « Sur le concept d’histoire », dans Œuvres,Gallimard, 2000, t.3.

[2] . اقرأ:

Günther Anders, L’Obsolescence de l’homme, Ivrea/L’Encyclopédie des nuisances, 2002.



[3] . المرجع :

Friedrich Engels, “ Lettre à Franz Mehring, 14 juillet 1893 ”, in Karl Marx, Friedrich Engels, Œuvres choisies, Editions du Progrès, Moscou, 1955, tome II, pp. 545-546.



[4] . صحيفة لوموند في 14/7/1998.

[5] صحيفة لوموند في 18/7/1998

[6]. كلود كابانيس في صحيفة "لومانيته"، 13/7/1998

[7] . من اجل الاطلاع على نقد "دعاة الإنسانية الرياضية" راجع:

Jean-Marie Brohm et Marc Perelman, Le Football, une peste émotionnelle; Marc Perelman, Les Intellectuels et le football ; Patrick Vassort, Football et politique, tous trois publiés en 2002 aux Editions de la Passion (Paris).



[8] . راجع :

“ L industrie florissante du dopage ”, Capital, n° 118, juillet 2001.

[9] . "في الأشهر الأخيرة قضى الكثير من الرياضيين الرفيعي المستوى بشكل مفاجئ. وقد خلصت أعمال التشريح إلى القول بالـ"ميتات الطبيعية" وهو تفسير "لم يحتمله" البروفسور جان-بول اسكاند، الرئيس السابق للجنة الوطنية لمكافحة المنشطات". صحيفة لوموند في 2/3/2004.

[10] . اقرأ :

John Langshaw Austin, Quand dire, c’est faire, Paris, Seuil, 1970 ; John R. Searle, Les Actes de langage. Essai de philosophie du langage, Paris, Hermann, 1972.

جميع الحقوق محفوظة 2003© , العالم الدبلوماسي و مفهوم



#جان-ماري_بروم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- إعلامي مصري يشعل ضجة بدعوته إلى إلغاء تدريس التاريخ والجفراف ...
- رواية غربية جديدة: زيلينسكي تراجع عن تفجير السيل الشمالي وزا ...
- قائد الجيش الأوكراني السابق ينفي علاقته بتفجير -السيل الشمال ...
- مفاوضات -الفرصة الأخيرة- تنطلق اليوم في الدوحة..فهل ستنجح؟
- نساء أفغانيات فقدن وظائفهن -يرغبن في الصراخ-
- ترامب تحدث مع نتنياهو عشية جولة مفاوضات -حاسمة- بشأن حرب غزة ...
- صحيفة ألمانية: الجيش الأوكراني يستخدم في منطقة دونباس -الكلا ...
- قصف مدفعي إسرائيلي يستهدف عددا من بلدات الجنوب اللبناني
- -الشمس الحارقة- الروسية تحصل على منصة دبابة -تي-80-
- الكابينت الإسرائيلي يجتمع في -الحفرة-


المزيد.....

- الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ / ليندة زهير
- لا تُعارضْ / ياسر يونس
- التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري / عبد السلام أديب
- فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا ... / نجم الدين فارس
- The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun / سامي القسيمي
- تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1 ... / نصار يحيى
- الكتاب الأول / مقاربات ورؤى / في عرين البوتقة // في مسار الت ... / عيسى بن ضيف الله حداد
- هواجس ثقافية 188 / آرام كربيت
- قبو الثلاثين / السماح عبد الله
- والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور / وليد الخشاب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جان-ماري بروم - الرياضة والقيم الاولمبية المغلوطة