نرين طلعت حاج محمود
الحوار المتمدن-العدد: 870 - 2004 / 6 / 20 - 06:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إيوان الرابع الملقب بالرهيب هو أول من حمل لقب قيصر روسيا بعد أن تحررت روسيا من حكم التتار و قضت على مملكة الدون أوردو التتارية على الفولغا, و دأبت منذ ذلك الحين على استعمار البلاد المحيطة بها استعمارا استيطانيا فتوسعت في قرن من الزمن حتى غدت مئة ضعف من مساحتها الأصلية.
اصطدمت هذه الامبرطورية في القرن الثامن عشر بشعوب شمال القفقاس.
يطلق على الشعوب التي تقيم منذ آلاف السنين في شمال سلسلة جبال القفقاس ما بين البحر الأسود و بحر قزوين اسم الشركس و هي عدة شعوب تنتمي لعدة أرومات عرقية و لغوية, يتميز القسم الغربي منها بتجانس عرقي و لغوي حيث يسكنها شعب الأديغة و يتكلمون لغة واحدة بلهجيتين أساسيتين الأديغة و الأبخاز( أبخاز و أباظة) أما اللهجة الثالثة فكانت لهجة الوبخ الذين اندثروا في نهاية القرن التاسع عشر بعد المجازر الروسية الرهيبة التي حلت بهم و القسم الأوسط يسكنه الشيشان و ينتمون إلى نفس الأرومة العرقية للأديغة و يتكلمون لغة ذات جذور متقاربة مع لغة الأديغة, و في الشرق الداغستان و هم أربعون مجموعة لغوية و عرقية يمثل الأوار القبيلة التي ينتمي إليها الشاعر العالمي رسول حمزاتوف اكبر المجموعات فيها و تنتمي الكثير من تلك اللغات لنفس المجموعة اللغوية لغرب القفقاس و ينتمي بعضها الآخر للغات أخرى, بالإضافة لهذه المجموعات العرقية و اللغوية هناك شعب الأوستن الذي ينتمي لغويا للمجموعة الاندروجرمانية و هناك مجموعات أخرى اقل عددا و هي القرشاي و البلغار و هما بقايا من غزوات التتار على القفقاس, هذه هي الشعوب الأصلية لشمال القفقاس.
إن الدراسات المسيسة الروسية حاولت إرجاع أصول شعوب شمال القفقاس إلى الأرومة الروسية و اعتبرت لغاتهم لغات سلافية كما حاولت بعض الدراسات الجورجية الحديثة الادعاء بان أصول اللغة الشيشانية و الاوسيتيه و الابخازية هي الإيبيرية أو المنغرلية في جورجيا و هذا لا يتصل بالحقيقة.
إن الدراسات اللغوية الجادة بل و أي ناطق بإحدى تلك اللغات يستطيع إدراك الفارق البنيوي بينها و بين اللغات الروسية أو الجورجية.
إن لغات شمال غرب القفقاس و بعض لغات شرق القفقاس هي لغات مقطعية لصقية تركيبية و هناك اختلاف بنيوي أساسي بينها و بين اللغات الاشتقاقية بحيث لا يمكن لدارس جاد في مجال اللغات الادعاء بدون حياء أن هذه اللغات سلافية أو جورجية بسبب الاختلاف البنيوي الأساسي بينها و بين كل اللغات الاشتقاقية كالسلافية و غيرها من لغات العالم الحديث و هذا ما يعرفه كل مطلع على شؤون لغات الشعوب و تُظهر بعض هذه اللغات تشابها مع اللغة الباسكية التي يتحدثها سكان إقليم الباسك في البيرينيه, و اللغات الأخرى كاللغات الداغستانية فلا تمت بصلة للسلافية أو الجورجية .
لقد عرفت هذه الشعوب موروث ثقافي فلكلوري و اجتماعي واحد حتى بالنسبة للشعوب التي دخلت لاحقا إلى القفقاس كالقرشاي و البلغار فقد اشتركوا بنفس الموروث الثقافي مع غرب و وسط شمال القفقاس , حيث وَحَّدها ما يسمى -أديغة خابزه -(القانون الاجتماعي الشركسي ) و حملت موروث شعبي واحد تمثل في أساطير النارتيين حتى عند الأوستن الذين اختلفوا عن المجموعات الاندروجرامانية الأخرى و اشتركوا مع غرب و وسط شمال القفقاس في الأساطير و الأديغة خابزة و ساعد على تحقيق هذه الوحدة الثقافية نظام الاتاليق الذي جعل أبناء أمراء الأوستن يعيشون في طفولتهم في بيوت القبرطاي (الاديغيين ) و أبناء أمراء القبرطاي ينشئون في طفولتهم في بيوت الابزاخ و هكذا, فعرف شمال القفقاس تنوعا و تناغما ضمن فلكلور واحد و كان القبرطاي المثل الأعلى لكل قفقاسي وكما أن كل عائلات النبلاء و الأمراء في شمال القفقاس يعود نسبها لأمير الأمراء إينال الذي حقق وحدة سياسية لشمال الققفاس.
و يختلف هذا الموروث الشعبي اختلافا بينا عن الموروث الشعبي الجو رجي أو الروسي
خلال سعي روسيا الحثيث لاستعمار الشعوب المحيطة بها اصطدمت في زحفها بشمال القفقاس وفي عام 1722 في عهد بطرس الأكبر بدأت الحروب القفقاسية القيصرية ,هذه الحروب التي تميزت بالضراوة و القسوة و طول المدة حيث استمرت قرن و نصف من الزمان و انتهت عام 1864 , و قد اشتد سعيرها عام 1801 حين صادق القيصر اسكندر الأول على انضمام جورجيا للتاج الروسي, فأحيطت شمال القفقاس بالروس من كل جهة.
استمر الحكم القيصري الشديد البطش مدة 54 عاما و لم يمضي عام واحد دون أن تقوم انتفاضة شعبية أو ثورة في مكان ما من شمال القفقاس.
عشية قيام الثورة الشيوعية عبر القفقاسيون الشماليون عن وحدتهم حين انعقد مؤتمر الجمعية الوطنية لشمال القفقاس و التي تألفت من 910 مندوبا عن كل المناطق و المجموعات العرقية و اللغوية و ذلك في 1/5/1918 و اتفق القفقاسيون الشماليون على إمكانية العيش المشترك بينهم و أُعلن الاستقلال عن روسيا.
في العام التالي تأسست جمهورية شمال القفقاس 11 /5 / 1919 دولة علمانية على أسس ديمقراطية و عاصمتها فلادي قفقاس ( عاصمة جمهورية اوسيتيا الشمالية ذات الحكم الذاتي الآن ) , و قد تم الاعتراف بهذه الجمهورية الفتية اعترافا قانونيا و واقعيا من قبل دول عديدة و أولها بريطانيا و الدولة العثمانية و حكومة موسكو .
لم يطل الزمن كثيرا حتى تفرغت لها موسكو فخاضت هذه الجمهورية حربا ضروسا مع الجيش الأحمر إلى أن تم سحقها عام 1921 , و أعلنت جمهورية روسيا الفدرالية الاشتراكية التي أُقرَّ دستورها منذ عام 1918 على انضمام جمهورية شمال القفقاس إلى الاتحاد عام 1921 بعد اجتياحها و سحقها و إعدام أبطالها, و ممارسة المجازر الجماعية بحق شعوبها.
الزعيم الجورجي ستالين قام بتشريح تلك الجمهورية إلى تسع كيانات فشعب واحد كالأديغة أقيمت له أربع جمهوريات بالإضافة لكيان صغير و هو إقليم شابسوغ البحر الأسود و الذي اتبع بكراسنودار, و القبيلة الواحدة قسمت جمهوريتين, و شعب الأوستن شُرِّح إلى جمهورية شمالية و جمهورية جنوبية ألحقت بجورجيا, و اقتطعت ابخازيا عن بعدها الثقافي و اللغوي و العرقي في شمال القفقاس و أُتبعت بجورجيا أيضا .
و بعد انهيار الاتحاد السوفييتي حصلت جورجيا على الاستقلال( الذي طالبت به الشيشان في نفس الوقت و لم تحصل عليه) و أعلن شيفرنادزه الحرب على ابخازيا و اوسيتيا الجنوبية, بعد ممارسته لأسوء سياسيات التذويب العرقي ضد الأوستن و الابخاز.
يطالب كل من الأوستن و الأبخاز بالانضمام إلى الاتحاد الروسي على أمل أن يحقق لهم هذا الانضمام اتصالا اكبر مع شعوب شمال الققفاس يحميهم من التذويب العرقي الجورجي و تساندهم روسيا بذلك من منطلق الحفاظ على مستعمراتها و تركة العصر القيصري.
و كأن تقديم الجورجيين للتاج الجورجي للقيصر الروسي قبل قرن من الزمان عقد شراكة يستحق بفسخه حصة من غنائم الحروب القيصرية الإجرامية بحق شعوب شمال القفقاس.
حقا من حضر القسمة فليقتسم , ليقتسم الجغرافيا و التاريخ و الآثار ليقتسم المدن و الأرياف ليقتسم البشر بأحاسيسهم و مشاعرهم وتطلعاتهم, بأطفالهم و نساءهم و رجالهم, و ليقتسم شعوبا حية لم تمت بعد و ما زالت تتحدث لغاتها و تنشد أشعارها و ترقص إيقاعها, لم تمت بعد ليتم البتُّ في توزيعها و توزيع تركتها فيتمسك بها أو يتنازل عنها من لا يملك لمن لا يستحق.
#نرين_طلعت_حاج_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟