|
أسير العبارة (رواية)- 2
عبدالحميد البرنس
الحوار المتمدن-العدد: 2866 - 2009 / 12 / 23 - 00:27
المحور:
الادب والفن
ظل "جيري" ينهج فوق مجلسه ذاك برغم مرور نحو النصف ساعة من وصوله، بينما تكومت كرشه أمامه مثل ثلاجة صغيرة، وبدت جوانبه متدفقة إلى خارج المقعد ذي العجلات البلاستيكية السوداء المصمتة، وقد راح بين حين وحين يزيل بيده الضخمة تلك القطرات البلورية المتكونة أعلى جبينه المتغضن على الرغم من لسعة برودة خفيفة داخل المكتب كانت تنبعث من مكيف ماركة "كارير" مثبت قرب الحافة الجنوبية للسقف المرتفع قليلا. "إذا وصلت إلى "أتوا" لا بد أن تأخذ حذرك بينما تسير في شوارعها"، علا صوت "جيري"، وقد مد ظهره إلى الأمام، مقوسا ذراعيه، باسطا كفيه فوق ركبتيه المتباعدتين، وصمت بعيد ذلك قليلا ليتأكد على ما يبدو من وقع تحذيره الغامض على نفسي. كان قد شرع يتطلع إلى صفحة وجهي كمن يقرأ في كتاب الغيب بطيبة آسرة. من جديد، بدأت أقاوم تلك الضحكة البليدة. سبق له قبل أشهر أن نصحني بعدم السير على جوانب الشوارع، زاعما بجدية تامة أن بعض الناس في تلك الأيام يقفزون على أكتاف المارة من البلكونات القريبة، لا سيما خلال الساعات المتأخرة من الليل، وافقته وقتها ظاهريا، وقد تيقنت تماما إذا كان الحال مثلما يصف لا بد لي من الآن فصاعدا أن أسير في الشوارع مثل سيارة من غير "خطرات" أومصابيح أمامية. أخيرا، قال "جيري": "إذا حدث وإن كنت سائرا في شوارع "أتوا"، فلا ترمي مثلا بعقب سيجارة كيفما اتفق، وقتها سيبرزون أمامك من حيث لا تعلم، ويجبرونك على دفع غرامة فورية، وأنت بالتأكيد يا هميد في وضع مالي لا تحسد عليه". هنا أخذت نصحه مأخذ الجد. كان عليَّ بالفعل أن أتخلص من عادات كثيرة ضارة. وهو ما بدأت العمل به تدريجيا بعد شهرين تقريبا من وصولي إلى كندا، فمنذ ذلك الحين لم أعد أتبول عند ناصية شارع جانبي أوعلى ظهر بناية ككلب، وإن كان الحنين يعاودني إلى ذلك على طريقة "من نسي قديمه تاه"، مع أن "أماندا" وقت أن نذهب ليلا لجلب المزيد من الشراب كانت تحثني على فعلها حين تراني متضايقا، لعلها كانت متأثرة هنا بأحد جذورها الاحتجاجية كخليط مباشر من هنود حمر وبيض. ما إن أخذت في التجول عبر شوارع "أتوا" بعد يوم واحد من وصولي، حتى أحزنني أن الصورة المتكونة عن المدينة في ذهن "جيري" لم تعد بمثل ذلك النقاء، ففي أيامه كان عدد السكان حوالي ثلاثمائة ألف نسمة، أما الآن فزاد عددها إلى نحو الثلاثة ملايين أغلبهم من العالم الثالث، الذين جلبوا لها على ما يبدو جرثومة الفوضى وأشياء أخرى، ومع ذلك ما زلت مصمما على ألا أخدش ذكريات "جيري" الثاوية على مدى عقدين أويزيد عن المدينة، وذلك أقل شيء يمكن أن أقدمه لصديق بدا لي على الدوام مهموما بكيف يعامل الناس بمحبة، مع أنه إذا حدث في يوم من الأيام وأن قام بزيارة إلى منطقة ما في الشرق الأوسط فسيجد حتما من يطلب رأسه الضخمة المثبتة إلى عنقه الغليظ على وجه السرعة الجهادية، ولا مراء.
هكذا، تقاطعت طريقانا، أنا و"جيري"، من غير توقع. وقبل أن يذهب كل منا مرة أخرى في طريق مختلفة تماما، لم ينس "جيري" وهو يتنهد لأمر ما أن يضع على مائدتي وبسخاء آخر حصيلة تجاربه في هذه الحياة، والحق كاد كل ذلك أن يجعلني أجهش بغتة بالبكاء. "إذا حدث وأن ذهبت بسيارتك خلال إجازة إلى أمريكا، منيسوتا أوداكوتا أوغيرهما، ثم توقفت في ساح لمطعم فخم فلا يغرنك، إذ سيأتيك شبان ما إن يلمحوا نمرة العربة الكندية، سيقولون لك سيدي دعنا نحرس السيارة إلى حين عودتك، ادفع لهم وقتها ومن دون أدنى نقاش حوالي العشرين دولارا أمريكيا في الحال، وإلا ستجد سيارتك مهشمة وربما تماما، أوعلى الأقل سيدمرون المصابيح والزجاج". - "هذا ليس عدلا، يا جيري". - "هذا يحدث عادة. وأكثر من ذلك، حين تقود سيارتك عبر الطرق البرية من مدينة إلى أخرى، سيتعمدون إصابتك من الخلف، أويدفعونك إلى المنحدر، بمجرد أن يلمحوا لوحة أرقام السيارة الكندية". - "وأين القانون هنا"؟. - "للأسف القانون في صف الأمريكي مسبقا، القاضي لا يفعل هنا شيئا سوى أن يقول لك وبكل بساطة ادفع له تعويضا". - "وما رأي الحكومة هنا"؟. - "لا شيء.. فقط ينصحونك بالدفع.. يا هميد". - "ولماذا لا نعاملهم بالمثل هنا"؟. لم يعلق "جيري" بشيء هذه المرة، كان مهموما أكثر على ما يبدو بنصيحة أخرى، قال: "كذلك حين تدخل إلى دورة مياه عامة في أمريكا، وأنت جالس على مقعد المرحاض تقضي حاجتك، انتبه جيدا إلى المرحاضين المجاورين، فربما تمتد يد أسفل الحواجز الخشبية الفاصلة، وتغرس في ساقك دبوسا ملوثا بمرض مميت أومخدر كالهروين، إنهم يفعلون ذلك أيضا". نهض "جيري" كمن أدى مهمة جليلة. ومثلما فعلتُ أول مرة، ظللت أرقبه من شاشة لشاشة، وهو يغادر المكتب، يتجه نحو أحد السلالم المتحركة، يدلف إلى بهو بنك "اسكوتشيا" الرخامي المغلق، متجها بكل تلك الجثة المهولة صوب موقف السيارات أسفل الأرض.
#عبدالحميد_البرنس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسير العبارة (رواية)- 3
-
أسير العبارة (رواية)-4
-
أسير العبارة (رواية)- 5
-
أسير العبارة (رواية)- 6
-
أسير العبارة (رواية)- 7
-
أسير العبارة (رواية)- 8
-
أسير العبارة (رواية)- 9
-
أسير العبارة (رواية)- 10
-
أسير العبارة (رواية)- 11
-
أسير العبارة (رواية)- 12
-
أسير العبارة (رواية)- 13
-
أسير العبارة (رواية)- 1
-
مرثية للطيب صالح
-
إني لأجد ريح نهلة
-
وداع في صباح باهت بعيد
-
ملف داخل كومبيوتر محمول
-
لغة
-
نصّان
-
زاوية لرجل وحيد في بناية
المزيد.....
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
-
وفاة بطلة مسلسل -لعبة الحبار- Squid Game بعد معاناة مع المرض
...
-
الفلسفة في خدمة الدراما.. استلهام أسطورة سيزيف بين كامو والس
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|