جهاد علاونه
الحوار المتمدن-العدد: 2864 - 2009 / 12 / 21 - 11:45
المحور:
ملف فكري وسياسي واجتماعي لمناهضة العنف ضد المرأة
من طفولتي المبكرة وأنا أرى أمي تبكي وتتألم أكثر مما تضحك وبرغم كل آلامها فإن الناس إلى اليوم لو رأوني معها لاعتقدوا أنها شقيقتي وليست أمي , عاشت حياتها وهي تمسحُ دمعتها بيدها اليمنى وبيدها اليسرى كانت تحاولُ أن ترسم على وجوهنا وشفاهنا الابتسامة تلوى الابتسامة , فحين كنا نرى دموعها ونسألها عن السبب كانت تمسحها وتبتسم في ألم مثل (شارلي شابلن) وتقول: لالالا ...ما في شيء , وتمسح على وجوهنا محاولة إبداء البسمة عليها .
أمي مخلوق عجيب وكما قال أحد الفلاسفة : لو نظرت إلى الإنسان من ناحية الفلك لوجدت أن الإنسان هو الفلك نفسه , وأمي فعلاً هي الفلك نفسه فلديها قمر أو قمرين أو ست أقمار يدورون حولها وإذا رأيتها تعتقدُ أنها كائن حي طبيعي من فصيلة الإنسان العاقل ولكن إذا نظرت إليها من ناحية أخرى ستجدُ أنها ليست مخلوقاً عادياً فللمخلوقات البشرية ٌ يدين ورجلين وعينين ولكن لأمي 500 يد وألف 1000عين ومليون رجل تمشي عليها .
فمنذُ رأيتها وسمعتُ صوتها وأنا أسمعها تشكو من آلام المفاصل والخدر القاتل في القدمين ولو كانت هذه الآلام في أعتى رجل من رجال قريتنا لقتل نفسه بيده وبحد السيف ولأطلق على نفسه رصاصة الرحمة أولألقى بنفسه تحت عجلة من عجلات السيارات الكبيرة .
وللناس العاديين مليون وجه للغش وللكره ومليون قلب يحبون ويعشقون فيه معشوقات زائفة ولكن كان وما زال لأمي قلب واحد يعشقنا ويعيش من أجلنا جميعاً أنا وأخوتي.
أمي كائن عاقل مش طبيعي كانت في يدها اليمنى تُطعمني وفي يدها اليسرى تطعم ُ أخي الصغير , وبحركات س ريعة كانت تعمل بيدها اليمنى وظائف أخرى وبيدها اليسرى وظائف أكثر دقة من اليمنى ولن أنسى القول بأن أمي حقيقة من النوعية التي تتستعملُ يدها اليسرى كما تستعمل اليمنى فكانت تقشر لنا البطاطة باليسرى وتقطع (تفرم) لنا السلطة باليمنى دون أن تشعر بأي فارق.
وكلما طلبتْ أمي من أبي شيئاً كان رحمه المولى يقولُ لها : استني حتى أخلص سيجارتي هو أنا كاين أكم إيد عندي ! كان يقولها هكذا باستغرابٍ كبير وبعنجهية وكأنه سلطان زمانه , علماً أن أمي هي السلطانة الحقيقية أوالسلطة الرابعة.
أما حين كان يطلبُ منها شيئاً فكان يريده عاجلاً مستعجلاً لأنه سلطان أو لأنه يعتقدُ أنه سلطان زمانه , وحين كانت تحاول أن تعتذر كان يقولُ لها : الله أعطاك إيدين ثنتين وجرين ثنتين وعيون ثنتين وأذان ثنتين على شان اتدبري حالك فيهن , وكانت أمي تردُ وتقول :طيب ليش ما تحكي هذا الحكي لحالك , فكان يرد ويقول:أف..أف من هذي المره ما أسرعها في رد الجواب!!رغم أن أبي كان متفتحاً وعلمانياً مثقفاً وصاحب مكتبة كبيرة في بيتنا, ورغم كل ذلك كانت أعضاءه الجسدية المنتشرة على أطراف جسمه لا تساعده كما تساعد أمي .
طبعاً كنتُ أنا أنظر للجميع وأستغرب وأقول :سبحان الله أمي أكم إيد ورجل وعين لها ؟!؟.
وأبي بيدين اثنتين وكأنهن مشلولتين وعينين لا يبصران و كان رحمه الله يرى فيهن الأشياء التي يريدها وخصوصاً أخطاء وسيئات أمي أما حسناتها فلم يكن يلاحظها أحدٌ غيري أنا .
وكان دائماً ما يجلس في الزاوية الشرقية من الغرفة يلفُ السيجارة تلوى السيجارة ويراقب أعمدة الدخان المتصاعدة من فوهة فمه وكأنه خليفة من خلفاء الدولة العباسية وحين تمتلأ (مكتة- منفضة-متكة) الدخان كان يناديني أنا أو أخواتي لحملها ورمي وتفريغ النفايات التي فيها من النافذة وكان في كل يوم يقدر على إحراق 60سيجارة من نوع (الكمال) وكان هذا النوع منتشراً في بلادنا حتى نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم, وطبعاً يستمر المسلسل الدرامي كل يوم فقد كانت يومياً تمسك بيدها اليمنى العسّافة وهي أداة مصنوعة من رمح قصيب طويل وفي نهايتها مكنسة قش تطاردُ فيها بيوت العنكبوت في زوايا الغرفة وكأنها جارية من جواري قصره لأنها كانت وهي تعمل تلقي ما بيدها على الأرض حين تسمع صوته لتلبي له كل احتياجاته علماً أنها هي السلطانة .
وكانت تعود للتعسيف وبيدها الأخرى قطعة قماشٍ تنظفُ فيها جدار الغرفة المتسخ من كثرة التدخين , وبيدها الأخرى تمسك بشعر شقيقتي لتمشطه وبيدها الأخرى تمسك بكأس الماء الذي طلبته منها لكي تسقيني وأبي طبعاً ما زال ينظر في أعمدة الدخان المتصاعدة هذه المرة من أنفه ومن فمه وأمي تمسك بيدها إبريق الشاي الأزرق لتسكب لأبي الشاي .
وبعد أن نذهب للمدرسة كانت تقوم بإعادة تسخين إبريق الشاي الأزرق لأبي وبعد ذلك تعدُ له الإفطار وهو يدخن وينظر في أعمدة الدخان ويقول: استعجلي..استعجلي ..بدي أطلع أشوف شو في بالبلد ,علماً أن أبي لم يكن كائناً اجتماعياً مع الناس لأنه كان يمقت النظام العشائري , وأمي كعادتها تزيد من سرعتها فتفتح عداد السرعة وتقع أحياناً على الأرض وتضرب بالجدران وتخالف القوانين المرعية من أجل خدمة الزوج والزوج طبعاً لا حمداً ولا شكورا بل على العكس يصدر مخالفات قانونية بحقها ويعتبرها زوجة مهملة حين يقعُ منها على الأرض شيئأ .
وحين كنا نعود من المدرسة كنا نجدها في انتظارنا وبيدها سلة الخبز وصينية الطعام وإبريق الماء فكانت تغسل لنا وجوهنا وأيدينا إلى المرفقين وكأننا ذاهبون إلى قداس ديني كبير وكانت تستبدلُ لي ملابسي البنطلون والقميص, وكانت تفعل بيدها كل هذا وبعينها الأخرى تراقب حركات أخي وأختي الصغيرين ,وتحاولُ أن تسمع إرشادات جدتي وبأذنها الأخرى طلبات أبي , وكانت تركزُ بسمعها جداً على أصوات السيارات فكانت تخرج للشارع كلما سمعت صوت فرامل أو كما يقولون (إبريكات ) فكانت تخرج لكي تتطمئن على وجودنا بعيداً عن واجهات وعجلات السيارات الأمامية والخلفية وبنفس الوقت تستمع لصوت طنجرة الطعام , وحين تنتهي منّا جميعاً , تتذكر باقي الأشياء فتذهب لجرة الماء الكبيرة فتملأها بالماء إذا كانت ناقصة بعض الشيء , فقد دربها جدي قبل أن يموت على ملأها كلما نقصت فقد سبق لجدي وأن جاء ليشرب فلم يجد فيها الماء فكسرها أكثر من عشرين قطعة , لذلك أمي تستذكرُ كل هذه الدروس جميعها .
وفي وقت الظهيرة يعود أبي من السوق مثل ذكر النحل لينام وليسترح من شدة ما عانى طوال النهار , فيطلبُ من أمي المحافظة على الهدوء علماً أنني كنتُ ألاحظُ أنها متعبة أكثر منه وهي التي من يستحق أن ينام كما ينام الخلفاءُ والسلاطين , وكان يشير بيده لها حين يضعها تحت خده الأيمن دون أن ينطق بحرفٍ واحد فتفهم أمي أنه يريدُ النوم فتعمل على تمشيط المنزل منّا ومن أي عابث بالأمن وبالنظام لكي توفر لأبي الراحة التامة ريثما يصحو فكانت أمي تجلسُ في الغرفة تمسك بي وبأخواتي خشية أن نصدر صوتاً مزعجاً يزعجه ويوقظه من النوم فنتسبب لها ببهدله من السلطان كثيرة وكبيرة وكان أحياناً يصحو على صوت أحدنا وهو يقول : يلعن أمكوا على أبوكوا , وأمي السلطانة الحقيقية تطلبُ منا تكميم الأفواه , فنسكتُ عن الكلام وتعودُ أمي للحراسة فوق رأس السلطان .
فأشعرُ حين ينامُ أبي أن أمي مرتاحة أو أنها ترتاحُ بعض الشيء فكانت تخرج للجلوس مع الجارات تحت أربع شجرات سرو كبيرات جداً وما أن تجلس لبرهة أو لساعة حتى يفيق السلطان من نومه فيناديني باسمي أو اسم أي أحد منا خارج الغرفة إذا سمع صوته فكان إذا سمع صوت إحدى أخواتي يناديها وإذا لمتسمع كنتُ أقوم عنه بالمناداة فيسمع صوتي فيقول :جهاد..جهاد..فأركضُ إليه فيسألني :
-وين أمك؟
-أمي قاعده برى.
فيقول بالعربية الفصحى وهو يضحك ساخراً : اذهب بكتابي هذا إليها وقل لها إذا بلغها كتابي هذا فرجلٌ بالنعال ورجلٌ بالركاب , وهذا قولٌمقتيس من أحد الخلفاء العباسيين , والمهم أنني كنتُ أوصل الرسالة بشكل جيد فتقومُ أمي من بين النساء فيسألنها : وين يا أم جهاد ؟
-شو وين مش سامعاته شو بقول ؟.
-يقطع الزلم ويقطع عيشتهم بس بدهم الوحده ببقوا بدهمياها وكأنها خدامه شو هذا ؟..ول يصبر حتى تشرب المسكينه قهوتها .
-يييي ..هسع بزبل الفرن بي.
وكانت تنهضُ وتأتيه فتسأله عن طلباته فتكتشف أنه لا توجد له طلبات ولكن من باب الاحتياط يجب أن تكون في حضرته.
كانت وما زالت أمي مخلوقاً عجيباً , تبكي بعين واحدة وتتوارى عنّا فيها حتى لا نرى دموعها وبعينها الأخرى تنظر لنا وفيها نوع من البريق والرؤيا الثاقبة , وكانت تمسح بيدها اليمنى دمعتها وبيدها الأخرى تمسحُ على رؤوسنا جميعاً, محاولة إبعاد أنظارنا عن دموعها, إذا نظرت إليها تعتقدُ أنها إنسان آلي أو توماتيكي , أحبتنا بقلب واحد , وجعلت في وجهها ألف عين لتراقب حركاتنا وطورت حواسها بنفسها فكانت تعرف شكوانا قبل أن نقولها وكانت تتألم لآلامنا وما زالت قبل أن نتألم لها نحن وطورت أرجلها ويديها الاثنتين حتى أصبحت تعمل وكأنها ب 500 يد , إنها فعلاً كائن عجيب وغريب طور نفسه بنفسه بعد أن كانت مثل مخلوق, وأصبح في رأسها عيون ترى فيهن من خلف رأسها , فكانت ونحن خلفها ترى ما نفعله وكأنها أمامنا , أما أبي فقد كنا نقوم ونركض ونقعد ونقع أمام عيونه وهو يلف في يده السجائر ويراقبُ أعمدة الدخان , وأذكرُ مرة أنها جاءت فرأت أختى الصغرى تنزفُ من إصبعها لأنها جرحته بالسكين وهي تحاولُ تقشير حبة برتقال فقالت لأبي :
-شو مالك مش شايفها ؟
-لا.
-ولا سامع إعياطها ؟
-لا.
-ليش؟ كيف؟!..أنا اسمعتها وانا في المطبخ وهي قدامك مش سامعها ..أنا اسمعتها وشفتها وعرفت شو فيها .
-شو أنا كاين أكم عين عندي ..ويلي أدخن وألف السجاير وويلي ...إلخ.
- شو قول.
-أي حلي عني
كانت وما زالت الصوت والصورة المتعددات الأغراض , أما أبي فقد كان صوت وصوره محدودات المسئولية.
#جهاد_علاونه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟