|
!استئصال الناصريين
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 865 - 2004 / 6 / 15 - 07:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
استبشرت خيرا بتنظيم المجلس الأعلى للثقافة ندوة عن «الحرية الفكرية فى مصر». ورحبت بالدعوة التى تلقيتها للمشاركة فى هذه الندوة التى ضمت كوكبة من الشخصيات العامة من مختلف المدارس الفكرية. فانعقاد الندوة حول قضية «الحرية» عموما، و«الحرية الفكرية» خصوصا يمثل حدثا مهما فى كل الأوقات، ويكتسب أهمية استثنائية فى هذه اللحظة التارخية الحرجة ـ حسب تعبير البيان الختامى للندوة ـ حيث يتعرض العالم العربى لتحديات خارجية وداخلية هائلة، ويواجه هجمة استعمارية وصهيونية عاتية لا تخفى أطماعها وأهدافها الرامية إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط وإعادة صياغة الأوضاع الداخلية فى البلدان العربية بما يحقق المصالح الأمريكية والإسرائيلية. فقد أصبح واضحا للجميع أن غياب الحرية، أو نقصها فى العالم العربى، هو الجذر الدفين لمعظم المصائب والمصاعب التى تعرض، ويتعرض لها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأصبح واضحا للجميع أن وصمة الاستبداد المنتشرة فى العالم العربى بدرجات متفاوتة كانت، ولا تزال، الثغرة التى تسللت منها القوى الاستعمارية على مختلف العصور لتبرير تنطعها على سيادتنا الوطنية وتدخلها فى شئوننا الداخلية. وأصبح واضحا للجميع أن الإرجاء المتكرر والمستمر والدائم للإجابة على سؤال الحرية فى معظم أنحاء العالم العربى بحجة إعطاء الأولوية للتصدى للتحديات الخارجية أدى فى النهاية إلى العصف بالحرية والاستقلال معا، فلا يمكن لشعوب مقهورة وقليلة الإرادة أن تشارك فى معركة التحرر الوطنى، ولا يمكن أن يتحقق تحرر الأوطان فى ظل استمرار استرقاق الأوطان. وأصبح واضحا للجميع أن مصادرة الحريات، بالتذرع بشعارات وطنية أو دينية أو غيرها، لم يكن فى أغلب الأحيان إلا ستارا لتعميق التبعية للخارج وتوسيع دائرة الفساد فى الداخل. باختصار.. أصبح واضحا لكل ذى عينين أن الطغاة يمهدون الطريق أمام الغزاة. وإذا كان سؤال الحرية قد طرح نفسه على جدول أعمال الشعوب العربية المبتلاة بالاستبداد المزمن منذ سنوات وعقود، فإنه أعاد طرح نفسه بإلحاح أكبر فى ظل الكوارث المتتالية التى لحقت ببلداننا مؤخرا، التى وصلت إلى الإهانة الصريحة لكرامتنا كمواطنين وكعرب وكبشر. كما أعاد طرحها على جدول الأعمال أيضا «مشروع الشرق الأوسط الكبير» الذى قدمته الإدارة الأمريكية لمجموعة الثمانى وحلف شمال الأطلنطى لـ «تعليمنا» ألف باء الحرية.. فى نفس الوقت الذى تدوس فيه الأحذية الثقيلة لقوات احتلالها كل الحريات فى بلاد الرافدين، وتشجع اغتيالها فى فلسطين! وفى الجدل الواسع الذى دار حول المشروع الأمريكى الأخير تشكل ما يشبه الإجماع بين المثقفين المصريين على استنكار المنطق الاستعلائى الكامن خلف هذا المشروع بما يمثله من وصاية استعمارية على خلق الله والتدخل فى شئونهم الداخلية، وفى نفس الوقت انتقاد النخب الحاكمة العربية التى أعطت ـ بجمودها وتلكؤها أمام قضية التغيير والإصلاح السياسى ـ الفرصة للأمريكيين فى التنطع على شئوننا. وفى هذا السياق جاءت ندوة «الحرية الفكرية فى مصر» تحت مظلة المجلس الأعلى للثقافة، لتناقش القضية من خلال عدد من المحاور: الحرية الفكرية وحقوق الإنسان مصريا وعالميا، الحرية الفكرية فى عصر ثورة المعلومات، واقع الحرية الفكرية والخلفية التاريخية، الحرية الفكرية والتنمية الشاملة، وحرية العقيدة والحرية الدينية، وحرية التعبير والإعلام، وحرية الإبداع والنشر، والحرية الفكرية والتعليم والبحث العلمى.. فضلا عن عدد من «الشهادات» الحية. وهى كلها موضوعات بالغة الأهمية بذل مقرر الندوة الزميل والصديق الدكتور فتحى عبد الفتاح جهدا كبيرا فى حشد الشخصيات القادرة على تقديم اجتهادات جادة حولها على مدار ثلاثة أيام متصلة من 6 إلى 8 يونيه الجارى. وفى الجلسة التى شرفت بالمشاركة فيها لمست ظاهرتين ملفتتين للنظر. الظاهرة الأولى: هى تبلور ملامح تيار إسلامى مستنير عبر عنه المهندس أبو العلا ماضى.. وهو تيار استطاع أن يتخلص من الكثير من جهامة وجمود تيار الإسلام السياسى التقليدى، وأن يقدم نقدا ذاتيا صريحا وشجاعا للكثير من الممارسات السلبية لهذا التيار، وأن يتبنى بالمقابل أفكارا بالغة التقدم منها الاعتراف بالتداول السلمى للسلطة، والديمقراطية عموما، و«الاَخر» بما فى ذلك الشيوعيون الذين قال «ماضى» إنه يطالب بحقهم فى تشكيل حزبهم السياسى المستقل والشرعى. الظاهرة الثانية: هى استمرار نزعات «استئصالية» لدى البعض ضد من يعتبرونهم خصومهم السياسيين. وعلى سبيل المثال فإن أحد المشاركين ـ وهو شخصية بارزة ومعروفة على خريطة نشطاء حقوق الإنسان ـ شن هجوما ساحقا ماحقا على ثورة 23 يوليو وعلى الناصرية والناصريين، مستبعدا إياهم من أى تحالف ديمقراطى محتمل. وهى نزعة تذكرنى باستئصال البعث والبعثيين فى العراق، وهو الاتجاه الذى بدأه المندوب السامى الأمريكى بول بريمر وحليفه ـ وقتذاك ـ أحمد الجلبى الذى عاد إلى بغداد على الدبابات الأمريكية. وفى رأيى أن النزعات الاستئصالية عموما، منافية للروح الديمقراطية. فلا يمكن تعميم الأحكام على أى اتجاه سياسى ودمغه من قيادته إلى قواعده وأنصاره والمتعاطفين معه بصفة واحدة، سواء كانت هذه الصفة حسنة أو سيئة. ولا يمكن التعامل مع الفصائل السياسية بصورة مجردة، بمعزل عن الزمان والمكان، ولا يمكن الحكم على فصيل سياسى حكما مطلقا يتجاهل الظرف التاريخى وموازين القوى وملابسات أخرى كثيرة لا حصر لها. ولا يمكن الاكتفاء بترصد أخطاء فصيل سياسى بعينه، وتجاهل إيجابياته.. فلا أحد يحتكر الخطأ فقط، أو يحتكر الصواب فقط. وقد أعجبنى أن الكاتب الكبير محمد عوده قال فى معرض رده على الهجوم الضارى على الناصرية والناصريين إنه لا أحد ينكر أن ثورة 23 يوليو كان لها سلبيات، لكن هذه السلبيات يجب النظر إليها فى سياقها التاريخى، ثم إن الأهم هو تركيز الاهتمام حاليا على التحدى الرئيسى الذى يواجه مصر والعالم العربى حاليا، بما يستوجبه ذلك من إيجاد أوسع جبهة وطنية وديمقراطية تكون على مستوى مواجهة هذا التحدى المصيرى. ولعلنى أضيف إلى ما قاله أستاذنا محمد عوده، ورغم أننى لا أنتمى إلى التيار الناصرى، إن أحد الأمور التى تبعث على الأمل أن اتجاها داخل الحركة الناصرية قدم نقدا ذاتيا لكثير من الممارسات السلبية التى ظهرت أثناء حكم الرئيس جمال عبد الناصر، وبالذات تلك الممارسات المنافية للديمقراطية.. ولم يكتف هؤلاء بتقديم نقد ذاتى عام، بل تقدموا كذلك باعتذار إلى الشعب المصرى عن هذه الأخطاء وتلك السلبيات. ومثلما أشدت بالاتجاه الديمقراطى المستنير الذى قاده أبو العلا ماضى ـ الذى خرج من تحت عباءة الإخوان المسلمين ـ أقول إن الاعتذار الذى قدمه هذا الاتجاه الناصرى الديمقراطى يستحق الإشادة والترحيب والتشجيع، ليس بالتصفيق أو التهليل بالطبع، وإنما بالتعامل سياسيا مع تداعيات هذا الموقف المحترم فى كل ما يتعلق بالتحالفات التكتيكية والاستراتيجية. ثم إن منهج الاستئصال، القائم على تصيد السلبيات، يمكن أن يطبق على كل التيارات دون استثناء. بمعنى أنه ليس صالحا للتطبيق على الناصريين فقط، بل يمكن تطبيقه على كل التيارات الأخرى.. فيمكن مثلا الإمساك بتلابيب تيار الإسلامى السياسى من خلال ممارسات سلبية أكثر من الهم على القلب، وكذلك الحال بالنسبة للتيار الاشتراكى.. حتى التيار الليبرالى يمكن رصد سقطات متعددة للكثير من رموزه وتجلياته سواء فى ظل النظام الملكى والتحالف مع السراى والانجليز المحتلين أو بعد ثورة 23 يوليو. وبهذه الممارسة المفتقرة الى المسئولية والموضوعية تتحول السياسة إلى ساحة للثارات القديمة، بما ينفى أى إمكانية عقلانية لتلمس القواسم المشتركة التى يجب التفتيش عنها من أجل توسيع جبهة الأصدقاء وتضييق جبهة الخصوم من أجل الوصول الى أهداف محددة. لكل ذلك.. ورغم عدم انتمائى إلى المدرسة الناصرية، فإنى أرى أن الدعوة إلى استئصال الناصريين واستبعادهم دعوة غير ديمقراطية.. وأذهب أبعد من ذلك لأقول إنها أيضا دعوة غير وطنية، لأن الناصريين يمثلون اليوم أحد الفصائل الوطنية الأساسية، وبالتالى فإن متطلبات إيجاد جبهة وطنية ديمقراطية عريضة قادرة على التصدى للتحديات الخارجية والداخلية، تستلزم إعلاء شأن الاعتبارات الموضوعية وتحجيم الاعتبارات الذاتية. والمؤسف.. أن هذا ألف باء السياسة.. ومع ذلك نضطر إلى إعادة إثبات البديهيات.
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العرب مذلون مهانون فى قمة الثمانية الكبار
-
مكسيم رودنسون .. مفكر وضع أصبعه فى عين - حكيم أوروبا -
-
شاهد عيان فى عنبر المعتقل وبلاط صاحبة الجلالة - شهادة مقدمة
...
-
لماذا أصبحت الطبقة السياسية سميكة الجلد؟!
-
خصخصة حق تقرير المصير.. هى الحل
-
مهرجان »كان« السينمائي أهم من قمة تونس العربية
-
يحيا العدل.. الأمريكي !
-
اكبــر ديمقـراطيـة .. فى بـــلاد تركب الأفيــال
-
الغضب .. أفيون العرب!
-
جــريمـــــة الـقــــرن الحــــادي والعشـــــــرين
-
الــــــورطــــــــــة !
-
- وعد بوش - .. لاقامة إسرائيل الكبرى
-
حكاية سيدة محترمة اسمها - ميريام - اطلبوا الإصلاح .. ولو من
...
-
بعد أن تحول العراق من »وطن« إلي »كعكة« سباق دولي وعربي محموم
...
-
رسالة مفتوحة الى أصحاب الجلالة والفخامة والسموالبقية فى حيات
...
-
بين -الدير- و-الشيخ- .. -ياسين- يدفع فاتورة الاستشهاد جرائم
...
-
رئيس الحكومة صاحب المزاج العكر .. أول ضحايا لعنة العراق
-
من لا يقـــدر على - بــوش- وزعــانفــــه فليقــــذف نــادر ف
...
-
من لا يقـــدر على - بــوش- وزعــانفــــه فليقــــذف نــادر ف
...
-
العربى مريض .. فمن يكون - بوش - : الطبيب أم الحانوتى ؟
المزيد.....
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
-
نجل شاه إيران الراحل لـCNN: ترامب و-الضغط الأقصى- فرصة لإنشا
...
-
-لقد قتلت اثنين من أطفالي، فهل ستقتل الثالث أيضا؟-: فضيحة وف
...
-
كيم: المفاوضات السابقة مع واشنطن لم تؤكد سوى سياستها العدائي
...
-
الوكالة الدولية للطاقة الذرية تعتمد قرارا ينتقد إيران لتقليص
...
-
ZTE تعلن عن أفضل هواتفها الذكية
-
مشاهد لاستسلام جماعي للقوات الأوكرانية في مقاطعة كورسك
-
إيران متهمة بنشاط نووي سري
-
ماذا عن الإعلان الصاخب -ترامب سيزوّد أوكرانيا بأسلحة نووية-؟
...
-
هل ترامب مستعد لهز سوق النفط العالمية؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|