|
حول آلام ومعاناة مخرج مسلسل الباشا
جاسم المطير
الحوار المتمدن-العدد: 2843 - 2009 / 11 / 29 - 19:30
المحور:
الادب والفن
ليس ثمة باب مغلق وراء النقد ..
أول شيء أقوله بالسطور الأولى من هذا المقال أنني حين كتبتُ ، في العام الماضي ، عن فلاح شاكر ، مؤلف قصة وسيناريو مسلسل الباشا نوري السعيد ، لم أكن قد تشرفت بمعرفته ، لا من بعيد ولا من قريب . لا تربطني به علاقة صداقة ولا علاقة عداء أبدا ، بل كنت آنئذ مندفعا بالكتابة النقدية لغرض كشف أحوال ورموز الليل الأسود الذي كان ينيخ بكلكله على العراق والعراقيين بقيادة نوري السعيد نفسه . هذا الحال لم يعشه المؤلف ولم تحط بحياته مخاطره كما أحاطت بالشعب العراقي كله ، كما أظن انه لم يجهد نفسه بقراءة الكثير من الكتب والوثائق التاريخية المتعلقة بموضوع المسلسل ، مباشرة أو بصورة غير مباشرة ، مما يعني انه أغلق بنفسه على نفسه أبواب الحقيقة التي يبحث عنها المسلسل التاريخي في العادة . كذلك لا بد لي من التوضيح أنني حين أشرتُ إلى بعض مظاهر وصعوبات إخراج المسلسل في مقالاتي العشرة عن نقد المسلسل ، لم أكن املك شرف المعرفة والصداقة بالمخرج الشاب الفنان فارس طعمة التميمي وهو يلج الطريق العراقي ، غير المعبد ، في رحلة إخراج المسلسلات التاريخية الصعبة ، التي تتطلب منه ، كما من المؤلف ، الاطلاع على كتابات الموتى والأحياء ، التي تحمل بين طياتها حقائق التاريخ والخلايا البيولوجية المتنوعة عن اختلاف العيون الناظرة بعمق أو المتبصرة في صراعات ذلك التاريخ وعقليات مؤرخيه . ما سعيت أثناء كتابة مقالاتي السابقة إلى أي شكل من أشكال المقارنة أو العلاقة بين المخرج والمؤلف لأنني اعرف أن مثل هذه المقارنة هي مضيعة للوقت أو أنها ستكون مجرد تمارين في حذلقة الكتابة لا تفيدني كناقد ولا تفيد المنقودين . لكنني منذ مشاهدتي الأولى للمسلسل حتى الآن وأنا أصر أن المخرج كان قد تحول أثناء عمله إلى ( فراشة ) تحلم أن تصنع من نسيج المسلسل ألوانا حريرية للمشاهدين . لو نتطلع إلى كل مشهد من مشاهد المسلسل على حدة ، أي بطريقة مفصولة عن مشهد سبقه أو عن مشهد لحقه ، سوف تظهر لنا إمكانية إخراجية فيها محاولات جادة في فن الإثارة والمتعة تعكس حقيقة واضحة هي أن دماء العقل الفني موجودة ونشيطة ومتدفقة في خطوات فارس طعمة التميمي . لكن التعقيد والضعف يبرزان بوضوح عند دراسة المسلسل كنص كامل ، كما استنتجت سابقا ، كان العيب الأساسي في ( النص والسيناريو مصنوعا بيد المؤلف نفسه إذ لم يحفل ، لا بالمنعطفات التاريخية المحيطة ببطل المسلسل نوري باشا السعيد ولا بقواعد وأصول الحياد المفترض بكل كاتب من كتاب مسلسل تاريخي حيث تتطلب منه الأمانة التاريخية أن يكون (ساردا مستمرا ) لأحداث المسلسل فقد ( يسقط ) المسلسل حال إدراج أية مادة أو واقعة أو أي حدث قائما على المزاعم وليس على الحقائق أو قائما على رؤية الكاتب نفسه وليس على قول التاريخ وصراعه . ليس مطلوبا من أي كاتب سيناريست أن يكون عالما نفسانيا أو مؤرخا يعيش في عصر نيوتن أو عصر شكسبير أو عصر موزارت بينما المعروف لدينا تماما أن التاريخ الحديث في بلادنا مثل التاريخ القديم يحفل بالقمع والقتل والاغتصاب والهزائم وانتشار الأمراض العصابية بين قادة الدولة ومنهم وفي مقدمتهم نوري باشا السعيد الذي لازمه شعور خطير أقلقه وعذبه طيلة حياته ، منذ هروبه من اسطنبول واختفائه بالبصرة ، أي منذ بدء معاركه الأساسية والجانبية في سبيل السلطة أو حين كان على رأسها أو حين يكون خلفها . قال العديد من النقاد والكتاب بما فيهم الدكتور سيار الجميل ــ المشرف التاريخي على المسلسل ــ أن المسلسل قد ( فشل ) في الحضور التاريخي المحايد . هذا الفشل ، عموما ، لا يبتعد عن آلاف الأعمال السينمائية والتلفزيونية في كل مكان في العالم التي واجهت بعض التجارب في هذا الاتجاه ، مما يقتضي من العاملين فيها ، كتابا ومخرجين وممثلين ، مراجعة أعمالهم وأدوارهم بروح نقدية دقيقة كي تأتي أعمالهم اللاحقة باختيارات جديدة تتقدم بهم وبفنونهم إلى أمام ، خاصة إذا كان العاملون بدرجة من الثقافة والوعي والإصغاء لأصوات الآخرين كما الحال في الواقع الفني السينمائي الأمريكي والأوربي حتى في الهندي والمصري . لكن نزعة البقاء في حالة التخلف إذا ما فقد المؤلف قدرته على الإصغاء والتنبه إلى ما يقوله المحيط الخارجي عنه وعن ميدان عمله ــ هذه الحالة السلبية توفرت ، مع الأسف ، لدى فلاح شاكر بصورة واضحة تماما من خلال جميع الحقائق والوقائع التي تناولته بالنقد والدراسة ــ لكنه واجهها بالتكبر والعجرفة والانفعال فدخل في نقاشات ساذجة مع نقاده من دون أي استناد إلى عقلية فنية ثاقبة أو عقلية علمية مجردة بل كان يريد ترحيل أخطائه بحماسة شديدة إلى الآخرين من أصحابه العاملين بقربه ومعه . انتقل النقد إلى داخل محيط المسلسل ، بل إلى محيط المؤلف نفسه من خلال عينين فنيتين خطيرتين بمقالة مؤرخة في 19 تشرين أول 2009 ومعنونة بـ" تجربتي في مسلسل الباشا - عندما يلعب الكبار مع الصغار " حملها مخرج العمل نفسه فارس طعمة التميمي . كان جوهر المقالة التميمية المتحفظة قد تركز بشأن عقلي ــ فني متواضع . كان فارس طعمة متشبثا لا بالرياضيات الفلسفية الغامضة كما فعل المؤلف في اغلب ردوده ، بل محاولا أن يثير انتباه القراء بما فيهم فلاح شاكر نفسه إلى نقطة ( التأمل ) الضرورية إلى هذا المسلسل الدرامي العراقي . ربما يكون الإصغاء لصوت هاتين العينين الفارستين ، في لحظة هذا الزمن ، بعد مرور أكثر من عام على عرض مسلسل الباشا ، خطوة مهمة إلى أمام . غير أن المؤلف وجد نفسه مرتجفا من نقد المخرج للنص الأصلي وكافة مستلزماته التفصيلية الأخرى التي أوردها في مقالته ــ كتب المخرج 405 ملاحظة عن 16 حلقة أولى من المسلسل ــ مما يشير أن شوارع إنتاج وإخراج حلقات المسلسل لم تكن مضيئة ولا ممتدة تحت مواقع الكاميرا في أماكن التصوير بما يليق بدراما تاريخية مما جعل لمسات الفشل السياسي والفني مخيمة على نتائج الفعل الإخراجي ومفروضة على المخرج فارس طعمة بسبب تشوش عملية الإنتاج كلها المرسومة بعض جوانب خارطتها في مقالة المخرج نفسها ، التي لم تستطع هي أيضا من تعليم المؤلف أي درس من دروس التفاعل والمراجعة مع آراء الآخرين فقد حمل رد المؤلف على المخرج أمرا مغلوطا وشاردا ، معتقدا أن طريقة تشويش الأحداث والعواطف المسطرة في مقاله المعنون " فارس طعمة ..لا تقتل الباشا مرّتين " قد يثير بعض الضباب الفني أو العقلي حول أسباب فشل المسلسل مما يعيق طريق الباحثين عن الكيفية التي وصل إليها المسلسل في تزييف وتحريف الوقائع والأحداث والتأملات التاريخية لهذا المسلسل رغم أن عنوان مقال فلاح شاكر يعترف و يؤكد أن المسلسل وُلد قتيلا وهو يدين بنفس الوقت أن ملاحظات المخرج قد تقتل المسلسل ثانية . كنت اعتقد بعد موقفين رئيسيين ( موقف المشرف التاريخي وموقف المخرج ) أن يتفجر العقل الفني لدى فلاح شاكر كي يعتذر للمنتجين والمشاهدين عن محرك بحثه عندما كتب السيناريو بإغفال تام لتجارب ومواقف الحركة الوطنية العراقية بكل مكوناتها وأحزابها وفلاسفتها وكتابها عن تاريخ الحقبة التي قاد دفتيه نوري السعيد الباشا ، مثلما أغفل وتجاهل 415 ملاحظة من المخرج وعشرات الملاحظات قبلها من المشرف . كان وما زال عليه أن يرى الحياة الإنسانية العراقية بكل عقدها السياسية والاجتماعية لا أن يجعل من نفسه نسرا ينظر من أعالي الجو إلى العاملين في المسلسل والى نقاده كأنهم عصافير أو طيور صغيرة . من الواضح تماما من عنوان مقال الكاتب فلاح شاكر الذي يقول ( فارس طعمة ..لا تقتل الباشا مرّتين ) أن مسلسل الباشا لم يولد مقتولا حسب بل أن قاتله هو المخرج . لكن كما يبدو أن عنوان مقال رد المؤلف على آلام المخرج فارس طعمة كتب من دون وعي من أعماقه أو بصورة تلقائية متسرعة ، هدفه الأساسي كان إلقاء المسئولية في مقتل مسلسل الباشا على عاتق المخرج من دون أن يتناول أية إشارة إلى نواقص المخرج أو إلى أخطائه الفنية ، بل حمل المقال اللهفة لإبعاد مسئولية الفشل عن السيناريو الذي صار خلال أجوبته المملة على كل الانتقادات كأنه سيناريو ( مقدس ) لا يجوز لأي احد نزع الثقة عنه أو عن بعض أجزائه وأن ردود المخرج لا تعدو غير ( أكذوبة ) من وجهة نظر فلاح شاكر . على القارئ الكريم وعلى مشاهد الدراما العراقية معرفة كم من الوقت يتطلبه تقدم فن الدراما العراقية إذا كانت العلاقة بين مؤلف الباشا ومخرجه متوترة ومرهقة بهذا الحد والمستوى كنموذج في إنتاج قناة فضائية كبرى . كما يبدو لي ، أيضا ، أن الكاتب فلاح شاكر يعتقد بضرورة خضوع ( العقل الآخر) إلى ما يسطره هو وحده على ورقة بيضاء حيث يتمثل جميع العاملين أمامه كتلاميذ مساعدين له ليس من حقهم ولا من حق احد القيام بجولة نقدية حول المسلسل ودائرته الفنية والفكرية والتاريخية . لا أدري السبب الحقيقي الكامن في الشخصية الفنية للسيد فلاح شاكر الذي تناول التاريخ مرتبطا بالدراما وهي تجربة تلفزيونية أولى بالنسبة له كما هي التجربة الأولى الأكبر لقناة الشرقية . لا أدري لماذا يوجد كاتب عراقي لا يقبل النقد .. لا ادري لماذا يحاول فلاح شاكر ابتلاع كل جهد واجتياح كل نقد ..؟ لو تابع صاحبنا المؤلف مجريات ارتباط الدراما بالتاريخ من خلال مسرحيات شكسبير بأسلوب البرامج التلفزيونية وصناعتها الدرامية وإمكانياتها التكنيكية لوجد أن مئات الندوات والأبحاث والتعليقات في أنحاء العالم تتناول بالنقد كبار المؤلفين وكبار كتاب السيناريو الانكليز ، الذين يتقبلونها بكل سرور وابتهاج لأنها الوسيلة الوحيدة لمخاطبة وتحديد الأخطاء وعلامات النقص في القوى الذهنية الصائغة لتلك السيناريوهات . كما أن عادة الكتاب المتحضرين في الدول الأوربية يشعرون أن الكتلة الهائلة من النقد لأعمالهم هي الدليل على النوايا المتبادلة بين المؤلفين والنقاد كي يكون هواء الأعمال الفنية القادمة بلا غبار أو بكمية قليلة من الغبار . كم أتمنى أن يكون فلاح شاكر غير مستسلم لتسلط رؤاه على نفسه وان لا يتجاهل القوة النقدية الجدية النافعة له شخصيا قبل غيره بأن يذهب متواضعا لرؤية ما يقدمه ( الآخر ) عن أعماله فهو المستفيد الأكبر من رؤى الآخرين جميعا سواء من المحيطين به أو النقاد البعيدين عن محيطه . لقد حاول المخرج فارس طعمة بمقالته تلك أن يتواصل مجددا مع عمل وصفه الكثيرون بالفشل ، غير أن الشعور بالقشعريرة في قلم المؤلف جعله يرفض التواصل مع المخرج ، أيضا ، مثلما رفضه من قبل مع النقاد ومع المشرف التاريخي على المسلسل الدكتور سيار الجميل الذي أعلن براءته مرتين من العملية السياسية – الفنية ، المسماة مسلسل الباشا . يفترض بكل كاتب أن يقفل الأبواب ويسدل الستائر على عمل في الماضي فليس الخطأ في العمل سوى تمرين يدعو المسئول عنه أن يجلس شجاعا في تأمله وفي نقده لذاته ، ويبدأ بتركيز تفكيره لمعالجة أسباب الخطأ كي تكون هذه هي الخطوة الضرورية في كل عمل قادم . أقول ، هنا ، أن لا احد يدرك النور ومنافعه من دون أن يدرك الظلمة وأخطارها . هذا الإدراك يجعل كل كاتب يقظا تماما في كل أعماله اللاحقة لفشل ما . في كل دول العالم نرى أنه إذا فشل وزير أو أي مسئول في تنفيذ السياسة المكلف بها أو إذا فشل أي فنان في أي عمل أنجزه فإنه يتقدم فورا بنقد ذاته أو اعتذاره إن لم يقدم استقالته ليتيح لأي شخص كفء أن يواصل العمل حيث إن تقييم أي عمل لا يتوقف على شخص واحد أو على القائم به إذ من المعروف ( أن فوق كل ذي علم عليم ) . حدث ذلك و يحدث في الدنيا كلها ما عدا في عراق نوري السعيد الذي أرسى لزمن طويل روح البيروقراطية التي انحدرت إلى الزمن العراقي الجديد متجليا بعمل كتبه بعبثية تامة فلاح شاكر ، الذي يجد نفسه بعد كل نقد أنه لا يصحو حتى ولو رويدا رويدا ، بل مندفعا إلى العودة لمربعه الأول غير متأمل بما كتبه في مشاهد مسلسل الباشا من دون أية جدية راودته للبحث عن الألواح الطينية في السيرة الذاتية لنوري السعيد ومراجعتها ، بل ظل ، كما كان ، حاصرا نفسه في زاوية الفوز بظهور اسمه كسيناريست على شاشة الشرقية خلال شهر رمضان ، الشهر الذي تحظى فيه الشاشات التلفزيونية العربية المتنافسة بكثافة مشاهدة عالية في العالم العربي كله . رغم حق فلاح شاكر المشروع كفنان لممارسة دور ٍ ما في التأثير على المشاهدين ، ورغم حقه في تناول الأجر الحقاني عن جهوده لكنه ، مع الأسف ، مارس هذا الدور من دون قوة فنية تاريخية سليمة ، كما أن أجوره التي لم يحلم بها في يوم من الأيام السابقة لم تدع أمامه أي مجال للمراجعة ونقد عمله وأخطائه وتقديم الاعتذار للمنتجين ربما خوفا من عدم وثوق القناة الشرقية تمام الثقة لمنحه شرف كتابة سيناريوهات قادمة . بعد عرض المسلسل ظهرت كلمات تذكره بالخير ، بينما ظهرت كلمات أخرى تذكره بالنقد . لم يلذ بالصمت ولو قليلا حتى يسمح لنفسه بالمراجعة النقدية ، التي تحتاج إلى تأمل قوي والى شجاعة النقد الذاتي والى اهتمام منصف بتجربة المخرج الكاشفة لكثير من الإحباط . فلاح شاكر كان في حالة من الإعياء سلط فيها طاقته التفجيرية الغاضبة على مخرج المسلسل متهما إياه بولوج طفيلية الأكاذيب في مقالته حتى انه استجمع قوته الكلامية ليظهر تبرؤ الدكتور سيار الجميل كأنه ليس من ( النص ) الذي كتبه فلاح شاكر بل من (الإخراج ) الذي قام به فارس طعمة . من المثير للدهشة أن فلاح شاكر لم يعترف بعد كل الملاحظات النقدية أن هناك واقعا قاسيا في العراق في الزمن المحدد 1921 – 1958 ولم يعترف بوجود قيم ناقصة وقيم محرفة في مسلسل الباشا الذي تناول بعض صفحات هذه الفترة بشكل يشير إلى اكبر الأكاذيب في فترة الحكم الملكي بالتاريخ العراقي الحديث ، كما لم يعترف قبل نشر مقالة المخرج بأي ضعف أو نقص في كائنات المسلسل المختلفة لكنه حاول أن يلقي كل مسئوليات ضعف المسلسل بأقصى سرعة على عاتق المخرج الذي بدا لي من تفاصيل مقالته انه راكب في سفينة فضائية تابعة لقناة الشرقية لكنه لا يعرف من هو قائدها ولا يعرف ، وهو المخرج ، أين ومتى وكيف تتحرك ومتى تحط فهو لم يكن من أصحاب القرار فيها رغم أن الكثير من المخرجين العالميين والمصريين وحتى العراقيين على صلة مباشرة بالقوة المحركة لعملية إنتاج الفلم أو المسلسل بل يمارس ، بدكتاتورية فنية ، عملية تعجيل وتحسين الرحلة الفنية . يبدو لي أن مؤلف مسلسل الباشا لا يعرف حتى الآن ، أن طريقه في التقدم إلى أمام بكتابة السيناريوهات ، إن أراد الاستمرار بولوجه ، هو المرور عبر الأفكار النقدية التي ينطلق وجودها من القريبين منه أو من النقاد الذين لا يعرفونه إلا من خلال مشاهداتهم لأعماله . إلى جانب هذا وذاك فقد بدا لي من اعتراضاته على المخرج انه لا يملك قدرة ذهنية على تقبل النقد ولا يملك أيضا أي نسبة من روح التواضع في كتاباته وفي حواره مع ناقديه . هذا الكاتب المسرحي أساسا يبدو انه لا يعرف أن أهم أسس الارتقاء بالكتابة هو الإصغاء للنقد العلمي والجاد ، الذي يثير تدفقا هائلا في الرؤى الجديدة لأي كاتب قادر على تركيز قواه الفكرية في المراحل الإنتاجية اللاحقة ، مرحلة بعد أخرى . يبدو أن مؤلف الباشا ليس فقط لا يحب النقد بل انه من المؤمنين أن ( الحظ ) و ( التوفيق ) في الفن كما في أي مجال آخر من مجالات الحياة يأتي من الله . كذلك يبدو لي انه من المقتنعين بوجود ( نظرية المؤامرة ) عليه وعلى فنه التلفزيوني وقد اقنع نفسه بها ليس استنادا إلى مرتكزات علمية معينة ودقيقة ، بل استنادا إلى ( مزاجية أنا الأقوى لأني أنا المؤلف ) وهي نظرية راسخة عنده . علمتنا تجارب الفلاسفة الأقدمين والمحدثين أن طاقة إنسانية مبنية على الأرسطية القائلة ( اعرف نفسك ) تكون محفزة دائما على تجنب الكوارث العقلية والفنية في أي عمل من أعمال السينما والتلفزيون . لولا مثل هذه الطاقة لما شاهدنا مسلسلات عربية ناجحة مثل قاسم أمين وأم كلثوم ومسلسل جحا الفولكلوري الذي قدم للمشاهدين بنجاح أجواء عصر المماليك . كذا القول عن مسلسل الملك فاروق وأسمهان وصلاح الدين الأيوبي وباب الحارة وغيرها . كل هذه المسلسلات المرتبط إنتاجها بشهر رمضان قدمت جدية الصلة الدرامية بالوقائع التاريخية أو بالشخصيات التاريخية . لكن هل بإمكان احد أن يزعم أن تلك المسلسلات جميعا كانت من دون أخطاء تتناقض مع التاريخ أو فيها أخطاء إخراجية تتناقض مع الشائع المعروف . هل بإمكان أي كاتب أو مؤلف أن يزكي نفسه من الوقوع في تأويل ذاتي لبعض الوقائع ..؟ هل يوجد سيناريست واحد في مصر أو سوريا أو لبنان أو في الخليج وجد نفسه في مشكلة مع النقد كما وجدها فلاح شاكر ..؟ هل يوجد كاتب عراقي أو عربي واحد رفض النقد رفضا قاطعا كما فعل مؤلف مسلسل الباشا مع اقرب العاملين معه كالمشرف والمخرج ..؟ دائما هناك مجال للحوار بين الناقد والكاتب والفنان وقد شهد هذا الميدان حالات ايجابية كثيرة في الأوساط الفنية العربية منذ أكثر من نصف قرن . كان في ميسور النقاد التحدث بصورة نقدية عن الموسيقى والغناء وعن الفنون التشكيلية وعن الفلسفة والشعر والرواية وجميع فروع الثقافة الإنسانية . كلها تطورت من خلال تقبل النقد ومقاومة كل أشكال العنجهية الذاتية ، التي لا يسمح وجودها بتطور الثقافة والحياة وبرفع قدرات الجاذبية الجماهيرية لدى الكتاب والمثقفين . لا أريد من خلال كتاباتي النقدية استبعاد احد من المنقودين من مكانته أو من الساحة الفنية بل هدفي الأول والأخير هو التأكيد على فنان العراق في المسرح والسينما أن ينهض من جديد بعد كل عمل ، مهما كانت نتائجه ، نهضة شبيهة بنهضة القمر من الصفر بداية كل شهر قمري . إذا كانت السنوات الست الماضية قد تضمنت شكلا قاسيا من أشكال اضطهاد الفن والفنانين فأن الإصغاء للحوار المشترك ولكل أنواع النقد البناء إنما يصبح وسيلة مضمونة بصورة أفضل لتقدم فنوننا وثقافتنا كلها ، خاصة إذا ما تم التزام الكتاب والمخرجين بضرورة بقاء الدراما ملتزمة بحرفية العمل الفني وبسرد الوقائع التاريخية سردا محايدا دون محاولة إخضاعها للفكر السياسي لهذا أو ذاك من المتصلين بالدراما التاريخية المطلوب إنتاجها . إن السردية الحيادية في التلفزيون ضمانة أكيدة لعدم الوقوع بمناقضة التاريخ أو تفسير أحداثه تفسيرا شخصيا ، خاصة إذا ما عرفنا أن المشاهدين العراقيين ، حالهم مثل حال القراء العراقيين الشغوفين بقراءة كتب التاريخ ومذكرات الشخصيات الفاعلة فيه، يميلون بشغف نحو الدراما التاريخية رغم أن المسلسل التاريخي يتطلب جهدا فنيا غير غادي كما يتطلب وقتا أطول في التنفيذ مثلما يتطلب توفير روح الفريق الجماعي بين جميع العاملين. لا بد هنا من الإشارة إلى مسلسلي ( الدهانة ) و(النخلة والجيران ) من قناة البغدادية في رمضان الفائت فقد استغل المؤلفان حامد المالكي في الدهانة وعلي حسين في الدهانة شغف المواطن العراقي برؤية تاريخه من خلال أجواء عراقية وبغدادية أصيلة عن أخلاقيات وعادات وسلوكيات أهالينا في تاريخ قريب من الجيل العراقي الحالي . بالرغم من أنني لا أقول بتكامل هذين العملين المسلسلين أو خلوها من النواقص والأخطاء ، إلا أن الواضح هو انصباب اهتمام الكاتبين على التفاصيل اليومية الدقيقة والأشياء الحقيقية الكائنة حول سلوكية الناس ووجودهم داخل المجتمع تماما كما فعل الكثير من المختصين السينمائيين والتلفزيونيين المصريين بأدب نجيب محفوظ حين سعوا بقدرة فنية عالية إلى ربط أحداث الحياة اليومية للمصريين بالعديد من الأحداث المصرية السياسية والاقتصادية مما يساعد في تنوير المشاهدين من خلال العلاقة السردية المحايدة بين الحدث الشخصي لبطل الفلم أو المسلسل وبين الحدث التاريخي أو السياسي في طول البلاد أو عرضها مما يدل على سعة أفق المؤلف أو السيناريست . كذلك الإشارة إلى كتابات أسامة أنور عكاشة في اغلب أعماله يعتبرها النقاد نموذجية في السرد الحيادي وسعة التفكير . إن العمل الفني التلفزيوني مهما كانت أحداثه هائلة ومعقدة فان واحدة من مقومات نجاحه أن يتحول فشله الجزئي والكلي إلى مجال جديد من مجالات التفكير العميق من اجل القيام بتجارب جديدة فكلما عاد الفنان إلى جوهر النقد وغاياته فذلك يعني مواصلته لتأهيل نفسه للدخول إلى ظواهر فنية جديدة وهو يستند إلى خرائط مسح معداته الفنية القادرة على تغطية شجاعة النجاح المؤكد . ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ بصرة لاهاي في 28 – 11 – 2009
#جاسم_المطير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لا تصير عضوة مجلس محافظة الكوت أنثى إلا بمصاحبة محرم ..!
-
بين التياسة والسياسة يقف الأتيس في البرلمان ..!
-
ليست غلطة كبيرة أن يكون أمين العاصمة اسمه صابر ..!
-
أسوأ ما في العراق وزير الصحة ..!!
-
الاستحمار أفيون الشعوب ..!!
-
قانون الانتخابات ضمان لحكم الأكثرية أم ضمان لحريات المواطنين
...
-
ثبت علميا أن الإنسان الطائفي هو حيوان اجتماعي غير لبون ..!!
-
اكبر غلطة في التاريخ العراقي يرتكبها وارد بدر السالم ..!!
-
البرلمان العراقي عربة تجرها أبقار لا خيول ..!!
-
حكومتنا العراقية منشغلة بمشاهدة المسلسلات التركية ..!!
-
يا حيوانات العراق اتحدوا ..!!
-
محاولة إيجاد طريق جديد للقصة العراقية القصيرة
-
إكليل من الغار على جبين الصحفيين الأحرار ..!
-
في البرلمان العراقي تنتعش العيوب والجيوب والحقائب ..!!
-
القرود يستحون لكن النواب العراقيين بلا حياء ..!!
-
البراغيث تبصر ابعد من بصر البرلمان العراقي ..!
-
حكام البصرة لا يبصرون غير القارورة وفرج المرأة ..!
-
البرلمان العراقي يسمو في أوج السماء ..!
-
10 أسباب حقيقية وراء تفجير الصالحية ..!
-
الفساد السياسي خنّاق الديمقراطية
المزيد.....
-
الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى
...
-
رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|