أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فريد زهران - إنها ليست مجرد مباراة :أوقفوا إهانة وإذلال المصريين في العالم العربي















المزيد.....



إنها ليست مجرد مباراة :أوقفوا إهانة وإذلال المصريين في العالم العربي


فريد زهران

الحوار المتمدن-العدد: 2840 - 2009 / 11 / 26 - 00:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



رغم كل الأحداث المؤسفة التى صاحبت مباراة مصر والجزائر منذ الإعلان عنها وحتى الآن، فإنه يمكننا القول "رب ضارة نافعة"، فالمباراة فى الحقيقة لم تكن مجرد مباراة، بل كانت – بكل تفاصيلها – مناسبة كشفت لنا عما آلت إليه العلاقات المصرية – الجزائرية بصفة خاصة، والعلاقات المصرية – العربية بصفة عامة، كما أثارت الأحداث التى أحاطت بهذه المباراة، وما أدت إليه، أسئلة وتساؤلات حول دور النخب وموقفها من هذه الأحداث.
ودعونا نبدأ الحديث من تلك الفترة التى سبقت مباراة الفريقين فى القاهرة لنلاحظ بداية أن رموز النخب المصرية قد تعالوا على اهتمام الجمهور بالمباراة، وكان أكثرهم تطرفاً هم قادة الفكر الدينى السلفى الذين أكدوا أن الاهتمام بالكرة هو تقريباً درجة من الكفر على اعتبار أنه يبتعد بالمسلم عن ذكر الله ويدفعه للانصراف عن عبادته وطاعته، بينما أكد القوميون أنه تقريباً درجة من الخيانة على اعتبار أنه يبتعد بالمواطن العربى المصرى عن الاهتمام بالعراق وفلسطين ولبنان ... إلخ، ودون أى تعارض مع مثل هذه الرؤى الدينية والقومية، بل وانطلاقاً منها فى الأغلب، راحت أقلام كثيرة تبحث عن دور الحكومة فى دفع الناس للاهتمام بالكرة، لكى يلتف الناس من حول الحكومة، من ناحية، ولكى ينصرف الناس عن الاهتمام بمصالحهم الأكثر حيوية والتى تتعارض بالطبع مع مصالح الحكومة من ناحية أخرى، واللافت أن هذه النظرة التى تتعالى على مباراة للكرة قد ضمت بين صفوفها أيضاً المزيد من عناصر النخبة من كل التيارات، وأهم الملاحظات التى يمكن رصدها على هذه التفسيرات التى قدمتها النخب لهذا الاهتمام، الذى اعتبرته مبالغ فيه بالمباراة يتمثل فيما يلى:
• أن هذه التفسيرات تعتبر الناس قطيعاً يمكن توجيهه فى هذا الاتجاه أو ذاك من خلال الإعلام، وتجاهلت هذه التفسيرات أن مشايخ كبارا من نجوم الفضائيات، الذين يتقاضون ما يزيد على 100 ألف جنيه عن الحلقة الواحدة، قادوا منابرهم الفضائية لترويج فتاوى تذهب إلى أن الكرة إلهاء عن ذكر الله، وحرام، ومع ذلك لم يستجب لهم الجمهور الذى اعتاد أن يستجيب لهم فى أمور أخرى.
• أن هذه التفسيرات فى طبعتها المتطرفة، ذهبت إلى أن الناس الذين يهتمون بالكرة تافهين ويهتمون بأشياء لا ضرورة لها على الإطلاق، وهذه الرؤى، من الناحية المبدئية، لا تحترم الجمهور، ولا تراه قادرا على أن يحدد ما هو لمصلحته، ومن ثم فليس مصادفة أن هذه النخب فى المجالين العام والسياسى تتعالى على الجمهور، ولا ترى أنه قادر على تحديد مصالحه، ومن ثم غير قادر على تحرير نفسه بنفسه أساساً، وإنما تراه مجرد قطيع مفعول به قد تقوده الحكومة، أو قد تنجح هى نفسها فى قيادته بالتآمر أو الإعلام أو بركوب موجة عفوية .. إلخ.
• إن هذه التفسيرات، فى طبعتها المعتدلة، انتقدت الاهتمام الزائد بالمباراة وطالبت بتهدئة هذا الاهتمام المبالغ فيه، وأرجعت الأمر إلى ما وصفته بالشحن الإعلامى، وربما رغبة الحكومة فى إلهاء الناس أيضاً، وسنلاحظ بسهولة أن المعتدلين – شأن المتطرفين – إذ يرجعون المبالغة إلى الحكومة والإعلام فأنهم يفترضون أن الجمهور قطيع يمكن للحكومة أن تتحكم بتوجهاته، وذلك على اعتبار أن الإعلام من وجهة نظرهم بصفة عامة تسيطر عليه الحكومة أيضاً، ولم يفسر لنا هؤلاء المعتدلون لماذا تعجز الحكومة عن تحقيق التأييد المطلق لسياستها رغم هذه القدرات السحرية لجهازها الإعلامى ؟!
ربما تشى تفسيرات بعض نجوم النخب الذين أحزنهم هذا الاهتمام بالمباراة إلى ما أصابهم من أسى وحزن عميق جراء عزلتهم عن الجماهير التى تركتهم لمشاغلهم العليا المتعلقة بالعبادة أو فلسطين والعراق، ولكن اللافت أن هذه النخب قد اختارت ما يقطع بينها وبين الناس ؟ اختارت التعالى والإصرار على أن الناس – كل الناس – عليهم أن يهتموا بما تهتم هى به وأن ينصاعوا إلى توجهاتها !!
هل تريدون دليلاً على ما تقدم ؟ إن أحد أقطاب الفكر المصرى والنخبة المصرية (وهو بالمناسبة إسلامى – قومى أى أنه يجمع بين الحسنيين) كتب قبل مباراة القاهرة وفور فتح باب التذاكر يعتبر أننا هزمنا وأن الإعلام – فى البلدين – قام بجريمة وصلت بالأمر – أمر الاهتمام بالمباراة – إلى مستوى غير مسبوق، وحمل الإعلام بالطبع المسئولية الأساسية، ولكنه حاول أن يجنب الجمهور المسئولية عندما عزا سلوكه إلى الفراغ السياسى فى عالمنا العربى، وهكذا احتقر المفكر الكبير الجمهور على اعتبار أنه قطيع استجاب للإعلام والفراغ، وفى الوقت نفسه بدا حريصاً على ألا يكون الجمهور مسئولا بصفة مباشرة عن خياراته متصوراً بذلك أنه يدافع عن الجمهور المغلوب على أمره !!
هذه هى المفارقة المذهلة : يظهر هؤلاء المفكرون الكبار – على الدوام – وكأنهم يدافعون عن الجمهور، ويقدسونه، وينزهونه عن أى خطاء، أو أى اختيار يحيد عن جادة الصواب، وفى الوقت نفسه يخفى، هذا التقديس للجمهور، درجة عالية جداً من التعالى عندما يفسر الاختيارات السنية للجمهور بأنه "مضحوك عليه" !! وكأننا إزاء التعامل مع طفل، أو معاق ذهنياً، لا يدرى من أمره شيئاً ولا يعرف مصلحته وعندما يخطئ، هذا الطفل أو المعاق، فتفسير ذلك هو أن هناك من ضلله أو حرضه أو دفعه ... بالبلدى هناك "ضحك عليه" !!
الخلاصة : أدان المتطرفون الاهتمام بالكرة، وأدان المعتدلون الاهتمام المبالغ فيه بالكرة وقدموا تفسيرات تبرئ الناس وتتهم من "ضحك عليهم"، وفى المقابل نتبنى نحن تفسيرا مختلفا يبدأ من حق الناس فى الاهتمام بالكرة، بل ودعونا نجازف بمواجهة حاسمة مع كل دعاة النكد والاكتئاب ونعلن بشجاعة : نحن نتبنى أيضاً حق الناس فى الفرح ! نعم نتبنى حق الناس فى الفرح على الرغم – أو دعونا نقول وبسبب – كل ما يحدث فى فلسطين والعراق، وعلى الرغم – أو دعونا نقول وبسبب – كل الأزمة الاقتصادية الخانقة، وعلى الرغم – أو دعونا نقول وبسبب – كل المرارة والأسى من تأخر الإصلاح السياسى المنشود، نحن نؤيد حق الناس فى الفرح، كما نؤيد حقهم فى تحسين شروط حياتهم وتحرير أوطانهم وأنفسهم، باختصار نحن نؤيد، وبلا تحفظ حق الناس فى الفرح، فى كل المناسبات الممكنة : فى الموالد، تلك الكرنفالات الدينية الشعبية، التى تعالت عليها النخبة واعتبر السلفيون المشاركون فيها كفرة، وفى احتفالات الطهور والسبوع التى تعالت عليها النخبة واعتبرها السلفيون كفرا، وفى الأفراح الشعبية التى تعالت عليها النخب وحولها السلفيون إلى ما يشبه طقسا جنائزيا لا علاقة له بالفرح والبهجة. هل اتضحت أبعاد موقفنا المعادى للنكد ؟!
إن كبار المفكرين، من النخبويين المهتمين جداً بصب الجماهير فى قوالبهم الجاهزة معادون لكل أشكال الفرح، وكل أشكال المتعة، ومهتمون جداً ببث كل دعاوى وفتاوى النكد والاكتئاب، وليس معنى هذا فى الأغلب أنهم مكتئبون وغير مستمتعين بالحياة، بل على العكس يُعرف عن كثير من هؤلاء، الذين يملأون الدنيا مزايدة على المواطن البسيط الذى يستمتع بأقل القليل، أنهم نهمون وشرهون لكل ملذات الحياة الدنيا وأن بعض رموزهم دخلوا إلى الحياة العامة والمجال العام دون أصل أو ثروة أو حتى تعليم عال وانتهى الأمر بهم إلى أنهم أصبحوا من أغنى أغنياء مصر وأكثرهم استمتاعاً بكل ما لذ وطاب.
نحن نتبنى حق الناس فى الاهتمام بالكرة، ونتبنى حق الناس فى الفرح بكل الأشكال الممكنة وهى أمور حدثت بالفعل أثناء وعقب فوز مصر ببطولة الأمم الأفريقية ولم ينجم عنها أى خسائر بشرية أو مادية، ورغم ذلك تعرض هذا الفرح الشعبى – فى ذلك الوقت – إلى التعالى النخبوى نفسه و الانتقادات المتطرفة والمعتدلة نفسهاعلى السواء !!
الاهتمام بهذه المباراة اتخذ أبعادا مبالغا فيها، لماذا ؟ ابتداءً نحن نرفض أن يكون مرد ذلك إلى "التغرير" الحكومى بالجمهور، ونفسر مشاعر الشعب المصرى المحتقنة، والمبالغ فيها، فى الأيام التى سبقت مباراة القاهرة مباشرة، بأن الجمهور المصرى كان يسعى لتأكيد وجوده ورد الاعتبار إلى ذاته فى مواجهة حالة عامة من الإهانة والامتهان – المسكوت عنها – التى يتعرض لها المصريون فى أغلب البلدان العربية – بدرجات متفاوتة – منذ بضعة عقود.
شاعر قومى كبير اتصل بإحدى الفضائيات - عقب كل ما حدث للمصريين فى الجزائر والسودان – حزيناً وتعساً على ما أصاب العلاقة بين الأشقاء مشدداً على أن ما تم من إفساد للعلاقات الحميمة بين الشعبين المصرى والجزائرى إنما حدث بسبب تجاوزات من الطرفين تسبب فيها إعلام البلدين، وفى رده على الشاعر الكبير قال حسن المستكاوى إن موقف الجزائر من مصر، ومن الشعب المصرى لا يعود إلى المباراة كما زعم شاعرنا القومى، بل يعود إلى 30 سنة خلت، رافق خلالها الناقد الرياضى المصرى الرصين منتخباتنا فى كل اللعبات وانفجر بعد كل هذا الوقت وكل هذه السفريات متسائلاً بمرارة الآن، ومرة أخرى وبعد صمت استمر أكثر من ثلاثين عاماً، لماذا يكرهوننا إلى هذا الحد ؟ تساءل المستكاوى كيف نفسر وعلى مدى ثلاثين عاماً كيف كان الجزائريون يهتفون فى المدرجات، وبإصرار شديد على حد تعبير المستكاوى، وطوال فترة المباريات ضد الشعب المصرى بهتافات مثل "يا مصريين يا حرامية ... يا بتوع الفول والطعمية" ؟! الشاعر القومى النخبوى – وكل من سمحت له نفسه بالتعالى على الناس - لا يساوى بين الضحية والجلاد فحسب – وهذا موضوع سنعود له – وإنما لا يقول الحقيقة عندما يزعم أن هناك علاقات أخوة ومحبة واحترام بين الشعبين أفسدتها مباراة فى كرة القدم. هذا غير صحيح أيها النخبويون، وإذا كنتم تعرفون وتنكرون فهذه مصيبة، وإن كنتم لا تعرفون فالمصيبة أعظم. إن أى مصرى فى الجزائر – وأنا شاهد بنفسى على ذلك – ومنذ عقود طويلة - كان يتعرض طوال الوقت ومن عدد لا يستهان به من الجزائريين، بل ومن الأطفال فى الشوارع، إلى شتائم من نوع "اليهود ......" أو "يا مصرى ...يا بتوع الفول ... أكل الحمير"، ولا أريد أن أزيد، وإذا كانت الجزائر متميزة فى هذا الصدد – ونقصد بذلك إهانة المصريين – فإن الأمر كان قائما – بكل أسف – فى معظم البلدان العربية بدرجات متفاوتة، وهذا الملف – ملف إهانة المصريين وامتهانهم فى معظم البلدان العربية لم يُفتح إلا فى لحظات عابرة، وبدا الأمر، على الدوام، وكأن هناك إرادة جماعية، وقرار جماعى، يرفض فتح هذا الملف، وإليكم أسباب هذا الرفض من كل أطراف المشهد :
• بالنسبة للمصريين، للجمهور الواسع الذى ذاق مرارة الغربة بحثاً عن "لقمة العيش" كان الأمر مُهينا ومثيرا لأقصى درجات الحزن والأسى بالنسبة للمواطن الذى دفعته ظروف بلده للغربة لأول مرة منذ خمسة آلاف عام، وهى عمر الحضارة فى مصر وفى العالم، ومع ذلك فقد قرر هذا المواطن المقهور والمغلوب على أمره أن يلوذ بالصمت وألا يحكى – إلا فى أضيق الحدود – عما يحدث له فى الغربة، وإلا أصبح لزاماً عليه أمام الآخرين – وربما أمام نفسه أيضاً – مضطراً للعودة إلى بلاده، وعدم السفر مرة أخرى، وهو خيار شديد الصعوبة أمام أغلب من ضاقت فى وجههم سبل الحياة واحتاجوا إلى العمل فى البلاد العربية، ولذلك وصل الأمر ببعض المغتربين من المصريين إلى حد الدفاع عن مضطهديهم، بل والتشبه بهم أيضاً، كموقف نفسى دفاعى يبرر استمرار الغربة.
• بالنسبة للنخب المصرية الحاكمة اختلطت الحسابات الشخصية بالحسابات السياسية فى إدارة علاقات مصر بالعالم العربى، فالحفاوة التى يمكن أن يقابل بها مسئول أو إعلامى كانت على الدوام أهم مما يمكن أن يلاقيه المغترب المصرى الغلبان من عسف أو جور، وظلت السفارات المصرية فى الخارج بشهادة الجميع موصدة أمام شكوى أى مصرى بصفة عامة، ومن ناحية أخرى بدا على الدوام وكأن مصر هى الطرف الأضعف فى العلاقة مع الأشقاء، فقد انتهى الزمن الذى كنا نقدم فيه العون من أجل التنمية أو التحرير، وانتهى الأمر بشعبنا إلى العمل "عند الأشقاء" وبدا وكأن النخبة الحاكمة تخشى من تصعيد أى مشكلة لأى مصرى مغترب، إلى الحد الذى يهدد وجود العمالة المصرية فى هذا البلد العربى أو ذاك بكل ما يعنيه ذلك من ضغط لا قبل لها به على الاقتصاد المصرى، ومن ناحية ثالثة - وهذا هو التفسير الوحيد المُعلن – كانت النخبة الحاكمة – وهو فعلاً سبب صحيح لكنه ليس الوحيد وليس الأهم أيضاً – ترى أن مصالح مصر العليا أهم من إنصاف هذا المصرى أو ذاك، وأننا بصفتنا الأكبر والأكثر نضجاً علينا أن نتحمل لما فيه مصالح مصر ومصالح العالم العربى كله.
• بالنسبة للنخب المصرية المعارضة أيضاً، اختلطت الحسابات الشخصية بالحسابات السياسية، فالحفاوة التى يمكن أن يُقابل بها شاعر من القوميين، أو شيخ من نجوم الفضائيات، كانت على الدوام سبباً لإغفال ما يقال عن معاملة المصريين بشكل سئ فى هذا البلد أو ذاك، ظل الخطاب المعلن على الدوام أن ما يقوم به قلة من الأشقاء إزاء شعبنا لا يمكن أن يعتبر سبباً يقوض العلاقات بين الأشقاء، وهكذا فإن مجرد فتح الملف أصبح أمار مستهجنا والحديث عما يتعرض له المصريون من إهانة هنا أو هناك أصبح ضرباً للقومية العربية والعروبة وللمصالح العربية العليا.
• بالنسبة للنخب العربية الحاكمة والمعارضة على السواء يمكننا القول إنها تبنت على الدوام موقف التهوين من شأن ما يتعرض له المصريون من إهانة، وكان ذلك نوعاً من النفاق لمشاعر الكراهية الشعبوية التى وقفت وراء هذه الإهانات التى يتعرض لها المصريون، وفى ظل صمت الحكومة المصرية والنخب المصرية – الحكومية والمعارضة على السواء – كان موقف النخب العربية منطقيا، ولم يكن من المتصور أن يكونوا "ملكيين أكثر من الملك"، بالذات وأن تيارات مهمة داخل هذه النخب كانت – ولا تزال وستظل – ضد الفكرة العربية والمشروع العربى أصلاً سواء أعلنوا ذلك أم آثروا الصمت ولم يعلنوه، ويرون أن مصر والمصريين كانوا سبباً فى طرح هذا المشروع الذى يرفضونه بعمق لأسباب متنوعة ومتعددة، وبالتالى نستطيع أن نذهب – ودون أى مبالغة – إلى أن تيارات مهمة ورئيسية داخل النخب العربية كانت تصمت أو تتواطأ إزاء ما يتعرض له المصريين من إهانة وإذلال من قبل الشارع فى معظم البلدان العربية بدرجات متفاوتة، بل وكان بعضها يشارك أيضاً فى إهانة وإذلال المصريين بصورة مباشرة ويمكننا أن نرصد فى هذا الصدد العديد والعديد من الكتابات والرسوم الكاريكاتيرية فى صحف هذه البلدان، وسواء صمتت النخب العربية أو تواطأت أو شاركت فى إهانة المصريين، فإنها فى كل الأحوال قامت بدورها فى هدوء شديد وبدون أى ضجة، وبدون أن تتعرض لأى مُساءلة أو حساب أو حتى عتاب من الأشقاء فى مصر !
اللافت أن تعرض عدد من رموز النخبة المصرية – الحكومية والمعارضة على السواء – إلى اعتداءات الجزائريين فى السودان كان أحد الأسباب الرئيسية لكسر حاجز الصمت عن هوان المصريين على مدى عقود طويلة، واللافت أن بعض رموز النخب المصرية قد أعلنت إنكار القومية العربية بسبب ما حدث لها من إهانة وإذلال، فيما تعالت رموز أخرى على ما تعرض له حتى أصدقاءهم من إهانة لمجرد أنهم لم يتعرضوا لإهانة مباشرة !! إن أحد أسباب ما حدث للمصريين من إهانة وإذلال فى العقود الأخيرة هو هذه الروح الفردية التى سادت بعد أن تم تجريم العمل الجماعى المنظم فى مصر – منذ 1952 وحتى الآن – وأصبح الطريق مغلقا أمام إمكانية تحسين شروط الحياة من خلال استخدام أساليب المساومة الجماعية التى تشترط توفر حد أدنى من الحريات والحقوق (حق التنظيم والإضراب ... إلخ).
لقد دُفع بملايين المصريين إما إلى البحث عن حلول فردية فى الداخل (الارتشاء أو إعطاء دروس خصوصية .... إلخ) أو السفر للعمل فى الخارج، وظل سلوكهم فى الخارج محكوما بالروح الفردية نفسها، وبينما كان أبناء جاليات عربية أخرى يتكتلون من أجل تحقيق مصالحهم، كان المصريون – بكل أسف – يتنافسون ويتناحرون فى كثير من الأحيان، وذلك إلى الحد الذى بات فيه المصرى – وبالذات من أبناء النخبة – يعتبر أن المصريين لا يتعرضون للإهانة ما لم يتعرض للإهانة هو شخصياً، بل والأدهى والأمر، إن النخب المصرية كانت تتعالى حتى على سفر الناس بحثاً عن لقمة العيش، حتى أن بعض النخبويين كالوا الاتهامات فى العقود الأخيرة للمصريين الذين سافروا للعمل خارج مصر، وظهرت مسلسلات وأفلام ومقالات تدين السفر للخارج وتتهم من يقدم على هذه "الجريمة" إما بأنه مادى ولديه أطماع مبتذلة أو أنه "يبيع القضية" – والقضايا هنا كثيرة ومتنوعة تبدأ بالأهل وتنتهى بالوطن – أو أنه يدمر أسرته التى أصبحت بلا أب أو زوج .... إلخ، واللافت أن معظم الذين أطلقوا هذه الصيحات الاستهجانية كانوا يتمتعون بحياة كريمة أسهمت فيها أموال النفط العربية نفسها بصورة غير مباشرة من خلال بيع هذه المسلسلات والأفلام لفضائيات عربية مثلا !! والطريف أن بعض الجماعات اليسارية الثورية فى السبعينيات كانت تُحرم على أعضائها السفر بحثاً عن "لقمة" العيش على اعتبار أن ذلك خيانة، والأكثر طرافة أن بعضاً من الذين صاغوا مثل هذه التهم، ووضعوها فى قالب نظرى يبرر طرد هؤلاء المسافرين من هذه الجماعات، قد سافروا بعد ذلك إلى البلدان العربية، بعد أن أفسدوا حياة الكثيرين بتخوينهم وإذلالهم ، وفى ظل هذا المناخ، لم يكن صدفة أن يشعر الكثير من المصريين بالذنب عندما يقررون السفر للخارج وكأنهم قد ارتكبوا ذنب أو جريمة، وقد تلقفت موجات الكراهية الشعبوية فى البلدان العربية هذه الفكرة واستندت عليها فى إهانة المصريين لمجرد أنهم قد وفدوا لبلادهم طلباً للرزق، وتناسى الجزائريون - مثلاً – أن هناك ما يزيد على ثلاثة ملايين جزائرى "بياكلوا عيش" فى فرنسا، وأن مصريا واحدا لم يخطر فى باله أن يعتبر ذلك مدعاة لإذلال الجزائريين أو إهانتهم، بل ولم نسمع من النخب المصرية، التى انتقدت المصريين على سفرهم، نقدهم للجزائريين أو غيرهم من العرب الذين يعملون فى أوروبا أو فى بلدان عربية أخرى
لا أريد أن أتوقف عند هذه النقطة كثيراً، ولكننى حاولت فقط أن أوضح أن المصرى المغترب فى البلدان العربية كان يعمل ويعيش فى ظل إحساس بالذنب خلقته لديه النخب المتعالية، وكان يتعرض فى الوقت نفسه لدرجة أو أخرى من الإذلال دون أن يتمكن من الدفاع عن نفسه بصورة جماعية، ودون أن يجرؤ – بحكم الخجل والحاجة -
على أن يشكو بصورة واضحة وبإلحاح، وكل ذلك فى ظل صمت – أو ربما تواطؤ ومشاركة – النخب المصرية والعربية على السواء، ولم يُفتح هذا الملف إلا فى محطات عابرة عندما حاولت السلطات فى مصر استخدام الأمر عدة مرات من خلال السماح للناس بالتعبير عن مشاعرهم فى لحظات محددة. حدث ذلك – مثلا- عقب زيارة السادات للقدس عندما شنت بعض البلدان العربية هجوماً على مصر انتهى بتجميد عضويتها فى جامعة الدول العربية، وحدث بعد الحملة التى قادتها محطة الجزيرة وقطر ضد مصر أثناء العدوان الإسرائيلى على غزة، وتكرر الأمر للمرة الثالثة بمناسبة مباراة مصر والجزائر.
ولعل القارئ يلاحظ هنا أننى استخدمت تعبير الهجوم على مصر وليس الهجوم على نظام السادات أو مبارك، وأنا بالتحديد أعنى ذلك رغم أن الخطاب العربى المعلن – وبالذات عقب زيارة السادات للقدس – كان يؤكد أنه ضد السادات وليس مصر، وهو ما أكدت عليه معظم تيارات النخب المصرية المعارضة فى ذلك الوقت إلا أننى كنت، ولازلت، وسأظل، أعلن وبوضوح أن الأنظمة العربية التى ناصبت السادات العداء عقب زيارته للقدس لم يكن لديها فروق واضحة بين السادات والشعب المصرى، وأكدت كل الشواهد والأحداث أن الأمر لم يتعلق بخلافها مع السادات حول تحرير فلسطين أو القدس التى لم تحررها الأنظمة العربية بعد أن اتهمت السادات بالتقاعس عن تحريرها، وإنما تعلق أساساً برغبة هذه الأنظمة فى أن تلعب أدوارا إقليمية وعربية على حساب دور مصر. لم يكن الأمر يتعدى تنافسا إقليميا ما بين الأطراف التى حاولت أن تقود الأمة وتفرض نموذجا مختلفا، ولذلك لم يكن مصادفة أن تجميد عضوية مصر فى جامعة الدول العربية، بل ونقل مقر الجامعة من القاهرة، وإذلال المصريين هنا وهناك، لم يفتح الطريق أمام تحرير فلسطين واجتاحت إسرائيل جنوب لبنان وطردت منها منظمة التحرير الفلسطينية مع استمرار الهدوء على الجبهات الصامدة والمتصدية وليس على الجبهة المصرية وحدها !!
واللافت أن الأمر تكرر مرة أخرى عندما شرحت قطر من خلال الجزيرة أن مصر باعت القضية ولم تفتح معبر رفح أمام عبور الجرحى والبضائع .... ومقاتلى حماس، وهنا لابد لى أن أتوقف قليلاً لاستجلاء الأمر وللإجابة عن التساؤلات المتعلقة بحقيقة الموقف العربى من مصر فى المرتين. وابتداءً نتساءل إذا كان الأمر يتعلق بفلسطين وتحريرها، وإذا كانت مصر قد تخلت عن الأمر وباعت القضية، لماذا لم تتحالف القوى الراغبة فى تحرير فلسطين للقيام بدورها التحريرى ؟ سأعيد صياغة السؤال بالتطبيق على ما حدث فى المرة الأخيرة أثناء العدوان الإسرائيلى على غزة، وسأتفق مع ما ذهب إليه التحليل القطرى – الحماسوى (وربما الإيرانى أيضاً ؟!) من أن مصر باعت القضية، وأتساءل ما الذى قام به الذين اشتروا القضية ؟! لإسرائيل حدود مشتركة كما نعلم جميعاً مع سوريا، مثلاً، ولسوريا، كما نعرف أرض محتلة قسراً وضمتها إسرائيل إلى حدودها بالمخالفة لقرارات الشرعية الدولية، فلماذا لم ترسل قطر جيوشها إلى سوريا (أو الأردن ولها أيضاً حدود مشتركة مع إسرائيل) من أجل التخفيف عن الأشقاء فى غزة، أو دعونا نتساءل لماذا لم ترسل قطر جيوشها إلى حزب الله الذى لم يفتح هو الآخر الجبهة اللبنانية رغم أن لبنان هى الأخرى أرض محتلة (مزارع شبعا) ؟! ترى هل أحجمت قطر عن تقديم هذا الطلب بإرسال الجيوش القطرية إلى سوريا أو الأردن أو حزب الله (ولا نقول الجيش اللبنانى لأنه لا يسيطر على هذه المنطقة) أم أن قطر عرضت إرسال الجيوش ورفضت سوريا والأردن وحزب الله استقبال الجيوش القطرية وفتح الجبهات للقتال ؟! أم أن قطر لم تعرض شيئا ولم يدر فى خلد الأردن وسوريا وحزب الله أن يفتحوا جبهاتهم سواءً أرسلت قطر جيوشها أو لم ترسلها ؟! إذا كانت النظم الأربع لم تحرك ساكناً فإن الأمر المثير للتساؤل هو لماذا تم شن كل هذا الهجوم على مصر لأنها لم تفعل شيئاً، وهو الهجوم الذى وصل إلى حد تعرض السفارات المصرية فى بعض البلدان العربية لاعتداءت حظيت فى بعض الأحيان بموافقة السلطات فى هذه البلدان، وفى المقابل لم يتم الهجوم على أىً من هذه النظم رغم أنها لم تفعل شيئاً. سيقول أحدهم إن أحداً لم يطلب من مصر أن تحارب، وقد اقتصر الأمر فقط على المطالبة بفتح معبر رفح، والواقع الذى تعرفه قطر – التى قادت الهجوم على مصر – أن المعبر كان يتم فتحه كلما كان ذلك ممكناً، الواقع الذى تعرفه قطر أيضاً – أن المعبر تحكمه اتفاقيات دولية قد تؤدى مخالفتها إلى استدراج مصر إلى مواجهة دبلوماسية أو حتى عسكرية لا تريد مصر أن تتورط فيها، وهو أمر شبيه بما يمكن أن يحدث لو أطلق حزب الله صواريخه إزاء إسرائيل، وفيما بدا أن هناك حرصا واضحا على ألا يتم توريط حزب الله فى فتح الجبهة اللبنانية ولم يوجه إليه أى نقد، بدا الأمر وكأن هناك حتمية لإشعال الجبهة المصرية، والطريف فعلاً والمثير للأسى والضحك أنه بينما حافظ نصر الله على جبهته هادئة وآمنة فإنه دعا الشعب المصرى والجيش المصرى للثورة على حكامهما وفتح الجبهة المصرية ؟!
نحن على يقين من أن قطر لم تعرض إرسال جيوشها وأن كل الأنظمة العربية التى حرضت شعوبها على مهاجمة السفارات المصرية لم يكن فى نيتها أن تحرك ساكناً. لماذا إذن كل هذا الهجوم على مصر ؟ لو كان الأمر يتعلق بنظام السادات أو مبارك لكان المنطقى أن تهاجم هذه الأنظمة سياسات السادات ومبارك وتقوم بتنفيذ سياسات مختلفة، فتهاجم – مثلاً – تقاعسهما عن تحرير فلسطين ثم تشرع فوراً فى تحرير فلسطين، ولأن هذا لم يحدث فليس له سوى تفسير واحد : أننا إزاء مزايدة كلامية الغرض منها استخدام ما وصفوه بأنه تخاذل النظام من أجل إضعاف مصر والنيل من مكانتها ودورها، بل وشعبها أيضاً، وحتى نكون أمناء ونذهب بهذا التحليل إلى نهايته ربما يمكننا أن نفسر الأمر بأن قطر، أو غيرها من البلدان العربية، ترى أن جيوشها – وربما مع الجيوش الأخرى المشار إليها – غير قادرة على تحرير فلسطين دون الجيش المصرى، وذلك على اعتبار أن مصر الشقيقة الكبرى والقادرة على تعبئة وحشد القوى التى يمكنها أن تحرر فلسطين، وهذا التفسير لم يرد إلا على لسان بعض القوميين النخبويين فى مصر، ولكن جزيرة قطر - أو غيرها من العرب – لم يذكروا هذا التفسير على الإطلاق. لماذا ؟ لأن الإقرار بأن مصر هى الأقدر والأقوى وأنها الشقيقة الكبرى معناه أن هناك طريقة مختلفة ينبغى أن يُعامل بها الشعب المصرى – أكرر الشعب المصرى - وأن إضعاف مصر، وإذلال أبنائها فى البلدان العربية، وإهانتهم لا يمكن أن يدعم قدرات مصر أو يساعدها حتى على تغيير سياستها، والأكيد أن الشقيق الأكبر عليه واجبات، ولكن له حقوق أيضاً، وليس من المنطقى أن تكون الصيغة هى إهانة مصر والمصريين والحديث بصوت عال من خلال جزيرة قطر عن نهاية دور مصر فى المنطقة، ثم دعوة مصر للحرب لآخر عسكرى مصرى، ووفقاً لأوامر تصدر من قطر، وجدير بالذكر هنا – وحتى لا ننسى – أن قطر هذه أيها النخبويون تستضيف على أرضها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى المنطقة، وهى القاعدة التى أغارت منها الطائرات الأمريكية على العراق، فأى نخبة هذه التى يمكن أن تصدق أن قطر تقود الأمة من أجل تحرير فلسطين ؟! أنا لا أصدق بالقطع أن هناك من يصدق هذه الادعاءات القطرية، ولا أصدق على الإطلاق أن هناك من لا يعرف أن قطر تستضيف القاعدة الأمريكية التى شاركت فى احتلال العراق، لكننى فى المقابل أصدق أن هؤلاء النخبويين القوميين الذين يشاركوا الجزيرة هجومها على مصر متواطئون أو مستفيدون من هذا الخلط المروع للأوراق.
هل لكل هذا الاستطراد حول غزة والجزيرة ضرورة ؟ نعم هناك ضرورة بالتأكيد، فاللافتات التى حملها الجمهور الجزائرى كان قسم منها يتحدث عن نساء مصر بألفاظ بذيئة، وقسم آخر يتحدث عن مصر باعتبارها بلد الفول والحرامية، وأخيراً كان قسم هام منها يتحدث عن اليهود ومعبر رفح، وهكذا وجد القوميون النخبويون ضالتهم وأعلنوا بثقة أن تراجع الدور المصرى، وتقاعس النظام المصرى عن الاضطلاع بدوره العربى هو السبب فى الانتقادات الموجهة لمصر !! وتناسى هؤلاء عن عمد – فى الأغلب – أن الهجوم على مصر فى الجزائر أمر يعود لأكثر من ثلاثين عاما خلت، وأن الأمر – أمر المعبر أو غيره – لا يتعدى كونه سببا إلى جوار الأسباب الأخرى المستديمة (إهانة نساء مصر – وصف المصريين بالحرامية ... الخ) لكى يبرروا الكراهية ويعمقوا منها، وإلا فبماذا نفسر عدم توجيه أى نقد جزائرى أو حتى مصرى من قبل العديد من القوميين المصريين – لقطر التى تستضيف أكبر قاعدة عسكرية أمريكية فى المنطقة، أو لماذا لم توجه أى انتقادات لسوريا التى لم تطلق طلقة واحدة على إسرائيل رغم أرضها المحتلة منذ حرب 1973، ورغم وقوع اعتداءات إسرائيلية على سوريا عدة مرات.
دعونا ننتقل إلى نقطة أخرى : هل يمكننا أن نعالج الأمر بخطاب من نوع : هناك أخطاء هنا وأخطاء وعفى الله عما سلف. أنا أرفض هذا الخطاب تماماً. لا يمكن المساواة بين الضحية والجلاد. لا يمكن المساواة بين الفعل ورد الفعل مهما كان رد الفعل حادا أحياناً أو خاطئا فى أحيان أخرى، وللدلالة على ذلك أتساءل هل توافقون - مثلاً - موقف بعض المنظمات الحقوقية الدولية التى تساوى بين ممارسات الاحتلال الإسرائيلى وبين ردود أفعال المقاومة الفلسطينية ؟! أنا بالطبع لا أوافق على عمليات حماس ضد المدنيين، ولا أعتقد أبداً أن ارتكاب إسرائيل لجرائم حرب يبرر أن يرتكب أياً كان جرائم حرب، والغاية النبيلة العادلة، من وجهة نظرى تقتضى استخدام وسائل نبيلة، وإذا كنا ننتقد وندين ممارسات إسرائيل فلا ينبغى أن نستخدم أو ننتهج ممارساتها نفسها، ورغم كل ذلك فإننا – مرة أخرى – لا ينبغى أن نساوى بين الفعل ورد الفعل، بل ولا ينبغى أن نساوى بين أنواع مختلفة نوعياً من الجرائم، والفعل الأصلى فى الأزمة الراهنة لا يعود – كما أوضحنا مراراً وتكرارً – إلى مباراة الكرة، وإنما يعود أساساً إلى شيوع، واستقرار، واستمرار إهانة المصريين فى الجزائر على مدى ثلاثين عاما، حتى أنه تم صياغة خطاب كامل يبلور مبررات هذه الإهانة والاحتقار للشعب المصرى، وذلك فى ظل صمت – وربما تواطؤ ومشاركة – النخب المصرية والجزائرية وهو الفعل الذى استنفر طاقات الغضب فى مصر التى اعتادت أن تعبر عن نفسها، فى مباراة كرة بعد أن حرمت نفسها وحرمتها النخبة من التعبير عن غضبها من الإهانة بصورة مباشرة، ومع ذلك فإن هذه الطاقات المتأججة من التوتر والغضب الذى بدا واضحاً على المصريين، وبالذات من خلال اهتمامهم المبالغ فيه بالمباراة، لم يصل بالجمهور المصرى على الإطلاق إلى مستوى أداء الجمهور الجزائرى قبيل وأثناء وبعد المباراة، وبداية يمكننا أن نلاحظ أن الجمهور الجزائرى قد صاغ – وعلى مدى بضعة عقود – خطابا يرى أن الشعب المصر "حرامية ... وشحاتين ... ويأكلون أكل الحمير : الفول ... ونسوانهم "......." ... وجبناء ومتخاذلون بدليل ما فعله بهم اليهود وتقاعسهم عن تحرير فلسطين". وفى المقابل فإن الشعب المصرى وفى مقابل كل ذلك لم يبلور خطابا عدائيا إزاء الشعب الجزائرى، أو أى شعب عربى آخر، وغاية ما يقوم به المصريون، الذين عرفوا دائما بخفة الدم، هو إطلاق النكات على هذا العربى أو ذاك، وهى نكات أقل بكثير من النكات التى يطلقونها على "الصعيدى" أو "الهنجراوى"، واللافت فى هذا الصدد أن جمهور الجزائر وعلى مدى ثلاثين عاما لم يكن يهتم بتشجيع فرقه الرياضية فى مبارياتها المختلفة مع مصر، ولكنه كان مهتم للغاية بإهانة المصريين، وتوجيه السباب لهم، وهو ليس سبابا انفعاليا وليد اللحظة مثلاً، بل سباب محدد ومبنى على صورة معينة أصبحت راسخة فى عقول الجزائريين ووجدانهم، وهذا لم يحدث بالنسبة للمصريين على الإطلاق.
سيقول البعض : فليكن، هذا كله كلام عن التاريخ، ولكن ما وصل بنا إلى الوضع الحالى هو الخطاب والممارسات التى سبقت المباراة، أو المباريتين، وما أعقبهما من الطرفين، ولذلك لزاماً علينا أن نتوقف عند ما سبق المباريتين وما أعقبهما، وسأستشهد هنا ببعض اللقطات الموحية والمعبرة عن الفعل العدوانى ورد الفعل الدفاعى. استضافت الجزيرة مباشر – وهى محطة لا يمكن اتهامها بالانحياز للمصريين – مجموعة من المصريين والجزائريين وبعض العرب قبيل مباراة القاهرة بعد ما قيل عن الاعتداء على أتوبيس الفريق الجزائرى وفى حضور سفير الجزائر فى مصر ود. مصطفى الفقى، وكان حديث العقل – رغم بعض التوتر الذى مر على خير وسلام – هو الغالب على الحوار، وفى ظل هذا المناخ الهادئ قال صحفى جزائرى من الحاضرين فى الاستوديو، والمرافقين لبعثة المنتخب الجزائرى فى القاهرة، للتدليل على ما يتعرض له فى مصر من عداء، أنه كان يسير فى حى المهندسين مُلتفاً بعلم الجزائر – لاحظ أن ذلك كان قبل مباراة القاهرة بيومين – فإذا بصبى صغير يسأله : "لماذا تكرهوننا إلى هذا الحد ؟" فسأله الصحفى الجزائرى : "ومن قال إننا نكرهكم"، فأجاب الصبى : "إذا لم تكونوا تكرهوننا فلماذا أحرقتكم فانلة المنتخب المصرى ؟".
والمفاجأة أن الرواية التى أراد لها الصحفى الجزائرى أن تعبر عن مدى معاناته فى القاهرة، انتهت إلى هذا الحد فالصحفى الجزائرى اعتبر أن سؤال الصبى – ثم تعليقه – هو دلالة فظيعة على ما أدى إليه الشحن الإعلامى من إهانة للجزائر والجزائريين !!!! تصوروا الر جل الملتف بعلم الجزائر يسير فى شوارع القاهرة قبل المباراة بيومين فيتعرض لأسئلة مشروعة من صبى فيعتبر أن هذه القصة دليلا على ما يتعرض له الجزائريون فى القاهرة من عدائية وإهانة، ... تصوروا !!، إليكم الوجه الآخر للأمر : بعد عدة تعليقات وكلمات لأكثر من مشارك فى البرنامج قال أحد الشبان المصريين المشاركين وهو يكاد يختنق من التأثر والدموع تقريباً معلقة فى عينيه إنه لا يفهم فعلاً لماذا يكرهنا الجزائريون إلى هذا الحد مستطرداً "أنا ليا صديق مصرى يعمل فى الجزائر، ومنذ شهرين وهو يحكى لى تليفونياً تحت وطأة القلق والخوف أنه يحمد الله إذا انصرف إلى بيته فى نهاية يوم عمل طويل وهو "مشتوم" فحسب دون أن يتعرض لقذف الحجارة أو ما هو أكثر من ذلك !!"، هل يمكن أن نساوى بين سؤال صبى مصرى لجزائرى ملتف فى علم بلاده فى شوارع القاهرة قبل المباراة بيومين وبين مواطن مصرى يذهب إلى بيته مذعوراً ومهاناً، وربما مضروباً لمدة شهرين قبل المباراة ؟! هل يمكن أن نساوى بين حجرين تعرض لهما أتوبيس الفريق الجزائرى الذى سار لثلاث دقائق من المطار إلى الفندق – وفقاً للرواية الجزائرية – وبين الاعتداء على مئات المصريين وعلى نحو منظم فى السودان وفى الجزائر ؟! هل يمكن أن نساوى بين ما يمكن أن يكون قد حدث من تجاوزات لمصريين عقب مباراة القاهرة - وفقاً للرواية الجزائرية – وبين اتخاذ المصريين فى الجزائر ما يشبه أسرى حرب، وتسكينهم فى معسكرات تحت دعوى حمايتهم، ورفض العروض التى قدمتها شركات مصرية لنقلهم إلى بلادهم تحت دعوى عدم توفر إمكانية بمطار الجزائر لطائرات إضافية، وهو المطار نفسه الذى انطلق منه جسر جوى لنقل بلطجية أو قوات شبه نظامية لإذلال وإهانة المصريين فى السودان.
انظروا : لدى بعض القوميين النخبويين تبرير آخر إذا لم يعجبكم فكرة أن هناك تجاوزات هنا وتجاوزات هناك، وهذا التبرير يذهب إلى أن الشعب الجزائرى شعب حاد المزاج وعصبى – وفقاً للقراءة القومية المصرية الموضوعية جداً – أو أنه عنده "نيف" – أى كرامة بالجزائرى – ومن ثم – لأنه عصبى أو عنده "نيف" – فهو لا يطيق من يسئ إليه ويحتد فى مواجهته بصورة مبالغ فيها بالنسبة للمعايير المصرية، بل وأضاف مثقف مصرى بارز فى أحد البرامج التليفزيونية أن بعض الإعلاميين فى مصر قد أهانوا الثورة الجزائرية ولما كان التاريخ الجزائرى - والكلام لا يزال للمثقف المصرى البارز – جد محدود ولا يوجد لديهم المزيد مما يمكن أن يكون تاريخاً فإنهم شديدو الحساسية لأى إهانة لحرب التحرير، وأضاف وقد جاءتنى رسائل واتصالات عديدة من مثقفين وإعلاميين جزائريين تبدى احتجاجها وانزعاجها من هذه الإهانة التى تعرضت لها الجزائر. جوهر الموضوع إذن أننا قادرون على التحمل وهم غير قادرون على التحمل. لماذا ؟ هناك سببان :
- إن الجزائريين عصبيين وفقاً للقراءة التبريرية المعتدلة، أو عندهم نيف (أى الكرامة) وفقاً للقراءة التبريرية المتطرفة.
- إن الجزائريين لديهم أمور مقدسة يعتبر المساس بها خطا أحمر ويتعرض من يقوم بذلك إلى ما لا يُحمد عقباه.
وأنا بصراحة أرى أن التبرير الأول مُهين ومثير لأقصى درجات الاستفزاز، فإذا أخذنا بالرؤية التى تذهب إلى أننا يجب أن نتحمل من الجزائريين ما لا نطالبهم بتحمله منا، لأن عندهم "نيف" – أى كرامة – فمعنى ذلك أننا لا كرامة لنا وهو أمر أعتقد أن أشد القوميين النخبويين قومية ونخبوية لن يقبل به، وأنا لا أقبل التبرير القائل بأنهم عصبيون، وإلا بات علينا أن نحترم أى شخص وقح أو عدوانى تحت دعوى أنه عصبى، فمن ناحية، هناك فرق بين العصبية بمعنى حدة المزاج أو التطرف فى المشاعر، وبين السفالة أو العدوان، فالتعبير عن الرأى بحدة هو أمر مختلف عن التعبير عن الرأى بالتطاول سواءً باللسان أو اليد، وعندما يقوم الناس – أى ناس – بممارسات سيئة لا نبرر لهم تصرفاتهم السيئة، وإنما ننتقدها ونصفها بما تستحقه من أوصاف. هناك – مثلاً – عنف ضد المرأة فى العالم كله، نعم، هناك أزواج يضربون زوجاتهم. يحدث هذا فى أمريكا ومصر والعالم كله بدرجات مختلفة وفى أوساط محددة، وللأسف تحاول بعض الأقلام تلمُس المعاذير والمبررات لهؤلاء الأزواج ربما لأنهم عصبيون أو لأن المرأة أخطأت.... إلخ، إلا أن الرأى العام المتحضر يرى أن الأزواج الذين يعتدون على زوجاتهم بالضرب هم معتدون وآثمون أولاً ومتخلفون وغير متحضرين ثانياً .. هناك من يحاول تفسيرالأمر بهذه البساطة : أنهم معتدون وغير متحضرين ، أما التبرير فيرى أنهم عصبيون ومعذورون، وما ينطبق على عدوان الرجل على زوجته لا يختلف كثيراً عن عدوان الجزائريين على المصريين فى الجزائر والسودان، فهو أمر له تفسيرات، لكن ليس له أى تبرير منطقى، أو عقلانى، أو مقبول ولا يمكن أن تساق مثل هذه التبريرات فى إطار تهدئة الموقف، بل هى تزيده اشتعالاً لأنه من غير المنطقى – مرة أخرى – أن تتساوى الجرائم بالأخطاء، ومن غير المنطقى أن تقول للناس : الحديث عن مقدسات الشعب الجزائرى لا يجوز بينما يسمع الناس يومياً – وبدرجات مختلفة – فى العالم العربى كله – وفى الجزائر على نحو خاص – كلاما مهينا حول "جُبن" المصريين واستسلامهم وهزيمتهم وعمالتهم لليهود فهل هذا مقبول ؟! هل للشعب الجزائرى مقدسات لا يجوز المساس بها والشعب المصرى مستباح ؟! وهل يجوز أن يحتج المثقف الجزائرى على إهانة الثورة الجزائرية فى رأى للمثقف المصرى البارز بينما لم يرتفع صوتهم على الإطلاق لإدانة التطاول الجزائرى على تاريخ مصر – وعلى الشعب المصرى – طوال الوقت.
هل تريدون المزيد من الإيضاح؛ تأملوا معى المشهد التالى : فى استاد القاهرة حضر مباراة مصر والجزائر ألفا مشجع جزائرى فى وسط 80 ألف مشجع مصرى، وفى نهاية المباراة، وأمام كاميرا التليفزيون، وقفت شابة جزائرية تستخدم ذراعها بصورة غير لائقة، وبعيداً عن ما يعبر عنه هذا المشهد من مستوى تحضر جمهور الجزائر الذى ضم بين صفوفه مثل هذه الشابة، التى لا أعتقد أنه توجد فى مصر، من أقصاها إلى أقصاها شابة مثلها تستطيع القيام بهذه الحركات والإشارات أمام كاميرا التليفزيون، وبعيداً عن أن أحداً من جمهور الجزائر المحيط بها لم ينهرها، بما فى ذلك الرجل الذى كان برفقتها، فإن اللافت للنظر أن هذه الحركات والإشارات الاستفزازية كانت موجهة لـ 80 ألف مشاهد مصرى، بل كانت موجهة للشعب المصرى كله، واللافت أن ذلك تم فى القاهرة وكان الجزائريون ألفين فقط. كيف يمكن تفسير سلوك هذه الشابة – ذات الذراع – بل وكيف يمكن تفسير سلوك جمهور الجزائر العدوانى فى استاد القاهرة عندما رفع لافتات تسب المصريين ؟ بل وقيل أيضاً أنه حرق العلم المصرى فى استاد القاهرة ؟ كيف يمكن تفسير ذلك ؟ هل هى شجاعة ؟ هل هو تهور ؟ هل هو جنون ؟ يذهب بعض القوميين النخبويين إلى أن ذلك تعبير عن مزاج الجزائريين – العصبية أو "النيف" –وتفسيرى أنا أبسط : لقد أصبحت صورة مصر – والمصريين – الراسخة فى عقل ووجدان الجزائريين بصفة عامة أن الشعب المصرى مجموعة من "..............." أو "الراقصات" و "المخنثين" .... و "الخيخة" و "الجبناء" ومن ثم فإن سبهم باللفظ أو الأذرع فى استاد القاهرة، أو فى شوارعها، أو فى السودان، هو أمر سهل، وليس من المتوقع أن يترتب عليه دفع أى ثمن. إننى أتساءل فحسب لو أن ألفي مواطن مصرى فى استاد الجزائر اعتدوا على الجزائريين بالألفاظ والأذرع، وأمام شاشات التليفزيون، أكان أحداً منهم من الممكن أن يعود حياً؟ إن عودة الجزائريين كلهم إلى وطنهم سالمين هو دليل ساطع على تحضر الشعب المصرى وهو أمر نعتز به ولا يسئ لنا على الإطلاق، ويبدو أن الذين روجوا الشائعات حول مقتل الجزائريين فى القاهرة – إذا كانوا حسنى النية – كانوا يتصورون انطلاقاً من مستوى تحضرهم، أن ما قاموا به فى استاد القاهرة، لابد أن ينتهى إلى الاعتداء بصورة واسعة ومنظمة على جمهور الجزائر، وهو ما كان يمكن أن يفضى إلى قتلى بالفعل، ومرة أخرى أكرر أن الشعب المصرى الذى لم يستجب لـ "ذراع الشابة الجزائرية" ويرد عليها بعنف – كان من الممكن تبريره وليس تفسيره فحسب – هو شعب متحضر وليس "جبانا" كما يتصور المتخلفون وغير المتحضرين من الذين يحتقرون الرجال الذين لا يضربون زوجاتهم، بل ويتشاورون معهن أيضاً !
والآن : هل تريدون المزيد ؟ لماذا قام المئات من الجزائريين بخلع ملابسهم – وبالذات الجزء السفلى – فى مواجهة الجمهور المصرى – وفقاً لروايات مثقفى وفنانى مصر الذين صدمهم المشهد ودفع الكثيرين منهم إلى حد البكاء ؟ أقول لكم لماذا وبصراحة : لأن الصورة التى تشكلت عن مصر هى أنها بلد "............" والفنانين المصريين تم اختزالهم إلى "راقصات و ....." حتى أن صحفى جزائرى فى الـ b.b.c قال : لماذا يحتج المصريون على ضرب الجزائريين لشرذمة من الراقصات فى السودان بعد أن تعرض الجزائريون للضرب فى القاهرة، وقد أدلى الصحفى الجزائرى بهذه التصريحات بكل أسف فى حضور صحفى مصرى نخبوى لم يكتف بعدم الرد عليه بما يستحق، بل وظل يتحدث عن الأخوة والأشقاء !!
ومن ثم فإن الإشارات إلى الأفعال الجنسية، وخلع الملابس، كان مرتبطاً بهذه الصورة المسبقة عن المصريين، وقد تعززت بما هو معروف فى علم النفس من الإنسان الذى يقع أسير شعور بالدونية تراوده تصورات حول قدرته الجنسية مع من يتصور أنهم أعلى منه أو قاهريه.
والآن : دعونا ننتقل إلى السؤال الأهم : ما العمل ؟ ما الذى ينبغى أن نقوم به فى مواجهة هذا الوضع الذى وصلنا إليه ؟
فى البداية علينا أن نحدد رؤيتنا للموقف قبل أن نتطرق لأى تصورات عملية، وأنا فى تصورى أن أى رؤية ينبغى أن تؤسس على إدراك كامل وعميق على أن ما حدث هو تتويج لممارسات وسياسات ألحقت الأذى والإهانة بالشعب المصرى على مدى عقود طويلة فى معظم البلدان العربية، وبدرجات متفاوتة، وأنه قد آن الأوان لفتح هذا الملف والحوار حوله بصوت مسموع، والأمر لا يخص مصر وحدها – حكومة وشعباً – وإنما يخص العالم العربى كله، وإذا كان من المنطقى أن يكون للحكومة المصرية سياسات ومواقف فى هذا الصدد، فإن المنطقى أكثر أن يكون للنخبة المصرية مواقف وسياسات مقترحة فى هذا الصدد يمكن أن ننفذ الكثير منها بالأصالة عن نفسها، ويمكن أن تطالب الدولة أو تضغط عليها أو تنتزع منها مواقف وسياسات أخرى فى نفس الاتجاه.
أنا لا زلت أؤمن بالعروبة، لا انطلاقاً من تاريخ مشترك كما يزعم بعض القوميين النخبويين لأن الروابط التاريخية وحدها غير كافية وغير متوفرة إلا بالنسبة لبعض البلدان دون بعضها الآخر، وأنا لا زلت أرى أن ما تقوم به الدوائر الغربية من وصف لجزء من عالمنا العربى بأنه الشرق الأوسط ولجزء آخر بأنه شمال أفريقيا هو امتداد لنظرة استعمارية كانت ولا تزال وستظل ضد أى مشروع نهضوى عربى، وفى المقابل أنا متطلع وبكل قوة إلى مشروع عروبى انطلاقاً من المصالح الحاضرة والمستقبلية وأرى أن هذا المشروع من الممكن أن يحقق مصالح كل شعوب المنطقة العربية، وأعنى بذلك الشعوب العربية وغير العربية وغير العربية، ولذلك – ولا أقول ولكن – فأنا أؤكد على ضرورة فتح الملف، ملف إهانة المصرين وإذلالهم فى العالم العربى، لأن الذين سمحوا بذلك ولا أقول من قاموا به فحسب – قد باعدوا بين الشعوب العربية ووصلوا بالأمر إلى ذروته الحالية، والمشروع العروبى ليس حتمية تاريخية فمن الممكن أن ينجح ومن الممكن أن يفشل، وهو أمر ليس مرهون باختيار وموقف وجهد النخب المصرية والشعب المصرى فحسب، وإنما مرهون باختيار ومواقف وإرادة النخب والشعوب العربية، ولذلك ليس من المنطقى أن يُهان المصريون فى معظم البلدان العربية ولعقود طويلة خلت وبدرجات متفاوتة، والمطلوب وبإلحاح أن يقف ذلك فوراً وأن تدافع النخب العربية – بما فيها المصرية – عن كرامة المصريين بكل قوة فليس من مصلحة أى عربى – على الإطلاق – أن تتبنى شعوب عربية خطاب كراهية لمصر سيترتب عليه بالضرورة كراهة المصريين للعرب، ولعلنا جميعاً نعرف أن النخب فى بلدان عربية كثيرة – الحكومى منها والمعارض – تخلت أو كادت أن تتخلى عن الخيار العروبى وأصبحت مشدودة أكثر لخيار متوسطى أو لخيارات إقليمية أخرى، وربما لن نبالغ إذا قلنا أن النخب المصرية – على اختلافها – لا زالت ترى أصلاً جدوى وضرورة للنضال من أجل المشروع العروبى ربما أكثر من أى بلد عربى آخر.
لابد من وقف إهانة مصر والمصريين فى البلاد العربية، لابد من فضح ذلك ومواجهته، ولابد أن تشارك النخب العربية فى ذلك بكل قوة، وأذكر فى هذا الصدد أن صديقا أردنيا قال لى أن رسام كاريكاتير نشر رسما أساء للمصريين فرد عليه هذا الصديق فى صحيفة أخرى وأدانه، وهذا أمر محمود، بالطبع لكنه غير كاف، ومن المفترض أن نلتقط هذه الأحداث لا لنبالغ فيها ولكن لكى نستفيد منها فى إثارة الموضوع، ومن ثم النجاح فى وقف السياسات الخاطئة التى لم يساعد الصمت على وأدها، بقدر ما ساعد على تراكمها فى النفوس والوصول بها إلى ما وصلت إليه. لابد من الاعتراف بأن هناك مشاكل تواجه المصريين ولابد من تعبئة كل قوى النخب، لكل شعوب المنطقة، من أجل وقف إذلال وإهانة المصريين وأى محاولة لتبرير الأمر مرفوضة، وأى محاولة للصمت، أو التواطؤ، باتت شديدة الضرر، ولأن هناك سلوكيات متحضرة وسلوكيات ليست كذلك فلا بد من أن تتوقف فوراً بعض التصريحات البذيئة والمهينة التى يكررها البعض فى مصر ضد الجزائر والجزائريين، لأن الأصل فى الموضوع أن كل إناء ينضح بما فيه، وأن السلوك غير المتحضر لا يجوز – على الإطلاق – الرد عليه بسلوك غير متحضر، والبشر المتحضرون، لا يسرقون السارق مثلاً، ولكنهم يسلمونه للعدالة لكى تقتص منه، أنا أعلم جيداً ما يقوم به الجزائريون ضد المصريين فى الجزائر، وأعلم جيداً ما يقوم به الإعلام الجزائرى من إساءة لمصر وللشعب المصرى، ولا أدعو – على الإطلاق – للتسامح مع العدوان والإساءة، لكننى أدعو لعدم الرد بنفس المستوى غير المتحضر وبنفس الطريقة غير المتحضرة، والقول بأن مصر كان عليها – مثلاً – أن ترسل بلطجية إلى السودان تحسباً من بلطجية الجزائر هو بالضبط ما أرفضه بكل قوة، بالطبع كان هناك انعدام كفاءة فى الترتيبات المصرية الخاصة بمباراة السودان، ولكن إرسال أفراد أمن لحماية المصريين، مما يمكن أن يلحق بهم من أزى جراء اعتداء بلطجية الجزائر، المدفوعين بأوامر من قبل السلطات الجزائرية، هو أمر مختلف تماماً عن إرسال بلطجية.
أكرر : ينبغى أن نتوقف فوراً عن إهانة الجزائر والجزائريين بصفة عامة وأن نظل – فى الوقت نفسه – نُدين بكل قوة ممارسات الجزائر والجزائريين ضد مصر والمصريين منذ ثلاثين عاماً وحتى المباراة.
إن المشروع العروبى مرهون برغبة وإرادة الشعوب العربية كلها، وإذا كانت الشعوب العربية ترفض هذا المشروع أو تتنكر له فليس هناك أى منطق فى محاولة فرض هذا المشروع عليها وسيكون من الأنسب إذن لمصر أن تتحمس للمشروع العروبى بنفس القدر الذى تتحمس به البلدان العربية للمشروع العروبى، وينبغى أيضاً لمصر أن تتوقف عن القبول بمنطق "فى حزنكم مدعية وفى فرحكم منسية"، ويجب أيضاً ألا تُختزل العلاقات المصرية – العربية فى مدى تحقيق هذه العلاقات لمصالح بعض قطاعات النخبة الحاكمة والمعارضة على السواء. ولتوضيح كيف يمكن لنا أن ندير علاقتنا العربية لنأخذ لذلك مثالاً واضحاً : فى الأيام الأخيرة أعلن الرئيس مبارك عن رفض الإدارة المصرية لتدخل إيران فى الشأن العربى الداخلى، وأنا لا أريد أن أناقش مدى صحة هذا الموقف من عدمه لكننى فقط أشير إلى أن موقف مبارك – وفى هذه اللحظة بالتحديد – إنما ينطلق من عدة أسباب، أهمها أنه تعبير عن تضامن الإدارة المصرية مع اليمن فى مواجهة الحوثيين المتهمين بتلقى دعم عسكرى وسياسى من إيران، بل والتضامن مع السعودية أيضاً بعد أن امتدت المعارك مع الحوثيين إلى الأراضى السعودية وازداد تورط الجيش السعودى فى المعارك يوماً بعد يوم، ويعلم الجميع أن جزءا من مكونات موقف الإدارة المصرية أيضاً - بصرف النظر مرة أخرى عن الاتفاق معه أو رفضه – هو الوقوف مع بلدان عربية خليجية أخرى منها الإمارات مثلاً التى تؤكد أن الإيرانيين احتلوا ثلاث جزر من أراضيها (طنب الكبرى – طنب الصغرى – أبو موسى)، وهو أيضاً تضامن مع بلدان خليجية أخرى تخشى من تدخل إيران فى شئونها بالذات وأن نسبة كبيرة من السكان فى هذه البلدان هم من الشيعة المتهمون بالتعاطف مع إيران من قبل دوائر الحكم فى هذه البلدان، واللافت أن رد الفعل الرئيسى على موقف مبارك جاء من جزيرة قطر التى أوضحت، من خلال برنامج طويل عريض، أن إيران تربطها علاقات طيبة مع كل دول الخليج، واستعرضت لقطات البرنامج زيارات أحمدى نجاد المتبادلة مع بعض حكام الخليج للدلالة على ذلك، وهكذا بدا موقف الإدارة المصرية غير مفهوم وغير مبرر، و "ملكيا أكثر من الملك"، والمطلوب فى هذه الحالة – وأنا للمرة الثالثة أكرر : أنا لا أناقش صحة موقف الإدارة المصرية ولكننى أناقش الآليات المفترضة لإدارة المواقف التضامنية أو العروبية – هو أن تعبر دول الخليج عن تقديرها الكامل لموقف الإدارة المصرية بشكل معلن، بل وأن يتم ترجمة هذا التقدير أيضاً فى صورة سياسات تتضامن فيها دول الخليج مع مصر بالقدرنفسه الذى تتضامن فيه مصر مع دول الخليج، وفى تصورى ببساطة شديدة أنه ما لم تحدث هذه الاستجابة من دول الخليج إزاء الموقف المصرى فعلى مصر أن تُعيد حساباتها وتسارع – أكرر تسارع – باتخاذ مواقف مختلفة إزاء إيران.
سيقول بعض القوميين النخبويين أن مصر لم تتخذ هذا الموقف من إيران إلا بسبب خضوعها للإملاءات الأمريكية، والخاصة بحصار إيران بسبب برنامجها النووى وموقفها من تحرير فلسطين، دعونا نناقش الأمر : الإدارة المصرية تطالب بنزع أسلحة الدمار الشامل من المنطقة بما فيها السلاح النووى الإسرائيلى إلى جوار رفضها لبرنامج التسليح النووى الإيرانى، وأنا لا أعتقد أن هذا هو موقف أمريكا الذى تمليه على الإدارة المصرية، أما إذا كان القوميون النخبويون يقصدون من حكاية الاستجابة للإملاءات الأمريكية أن إيران – مثل قطر – تتحرق شوقاً إلى تحرير فلسطين، ومصر تمنعها من ذلك، فأنا أكرر التساؤل حول لماذا لم ترسل قطر جيوشها إلى جبهة حزب الله التى تحظى بدعم كامل من إيران، بل ولماذا لا ترسل إيران أيضاً جيوشها إلى هذه الجبهة الساخنة ؟ هل هناك مشكلة شرعية فى لبنان – مثلاً بالنسبة لحزب الله ؟
فليكن، هناك حل آخر : فلترسل الجيوش : جيوش قطر وحزب الله وإيران إلى سوريا ولديها – كما نعرف جميعاً – أرض محتلة وجبهة هادئة منذ 1973، وأنا على يقين من أن الإدارة المصرية لن تستطيع وقف ذلك، بل وأنا على يقين أيضاً من أن الشعب المصرى سيشارك بقوة إذا نجحت هذه الفكرة التى لا يوجد على الإطلاق أى عائق منطقى أمامها إذا كان العائق الوحيد هو تقاعس مصر مثلما تعلن جزيرة قطر !!
إعلان الرئيس المصرى لموقف الإدارة المصرية من إيران – فى جانبه المصرى – هو تعبير عن خشية النظام من رغبة طهران فى تصدير نموذجها الإسلامى، بالذات وأنها فتحت جسورا مع قوى ودول مثل قطر وحماس لتنفيذ ذلك – وليس لتحرير فلسطين التى يمكن تحريرها من خلال أكثر من جبهة كما رأينا -، والمكون الثانوى لموقف الإدارة المصرية – من جانبه المصرى – فى إيران يتعلق بروح التنافس بين النظامين – المصرى والإيرانى – على النفوذ والمكانة فى المنطقة، وكلا المكونين – الرئيسى والثانوى – يتضاءل إلى حد كبير أمام المكون العربى لموقف الإدارة المصرية، والذى يتأسس على تخوفات الإدارة المصرية من التوغل الإيرانى عربياً – أو بالأحرى خليجياً – وتقويض ما تبقى من مشروع عربى لا تزال النخب المصرية – بما فيها النخب الحاكمة – تراه مشروعا ممكنا على عكس نخب عربية أخرى تخلت عن هذا المشروع بالكامل، ولكن ما لم تكن هناك رغبة خليجية – يمنية واضحة فى هذا الدور المصرى المتضامن معها، لماذا لا تغير مصر توجهاتها ؟ عاشت مصر قبل ظهور الفكرة العربية وستستمر فى الحياة، وعمل المصريين فى البلدان العربية، أو وجود علاقات اقتصادية مع هذا البلد العربى أو ذاك، من الممكن أن تستمر فى غيبة مشروع عروبى، وأنا – أكرر مرة أخرى – لست ضد المشروع العروبى ولكننى على يقين من أنه لن ينجح دون تضافر جهود كل العرب، وليس المصريون وحدهم، وأن على مصر ألا تتقدم العرب كثيراً على هذا الطريق حتى لا تسير وحدها فى النهاية، وعليها أن تتخذ من الموقف ما يجعل العرب يدركون أهمية التضامن العربى، ومن ثم يدركون أهمية مصر.
أخيراً قبل أن نختتم حديثنا ينبغى أن نحذر من أن شحن الناس وتعبئتهم كما لو كان هناك ما يمكن تنفيذه عملياً "بكرة الصبح" هو أمر شديد الخطورة وينبغى علينا أن ندرك بعمق أن تحسن أحوال الناس المعيشية فى مصر والإصلاح السياسى المنشود لا يتحقق إلا بالنضال الدءوب طويل النفس، وبالمثل فإن وقف إهانة وإذلال المصريين وإعادة النظر فى علاقتنا بالجزائر – أو بغيرها من البلدان العربية – هو الآخر أمر نضالى سيحتاج إلى طول نفس ومثابرة، حيث لا يوجد أصلاً أى إجراءات سريعة يمكن اتخاذها، وهذا الكلام ينبغى أن يستقر فى عقل ووجدان الناس رغم إحباطهم وإحساسهم بالعجز والهوان لأنه ببساطة لا يوجد أى حل آخر سوى الدأب والإصرار والإبقاء على الشعار واضح ومعلن : أوقفوا إهانة وإذلال المصريين فى العالم العربى، وأعيدوا الحياة على أسس محترمة وبناءة للمشروع العربى النهضوى.



#فريد_زهران (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقدمة تقرير العنف ضد المرأة
- مقدمة تقرير مبادرات الإصلاح فى الشرق الأوسط
- الأخلاق بين الضرورة الاجتماعية والإيمان الدينى
- فى رثاء مصطفى وعزت وعبد الباسط جيل السبعينات يواصل العطاء
- رفع حالة الطوارئ أو معركة التحديث ومسؤولية القوى السياسية
- القمع الفكرى داخل الأحزاب السياسية فى مصر
- قراءة في نتائج انتخابات نقابة الصحفيين
- دعوة للحوار حول مبادرة تجديد المشروع الوطني - مصر
- لا للحرب . والاستبداد . والهيمنة . نعم للسلم . والديموقراطية ...
- مسيحى ما علاقتك بالانتفاضة


المزيد.....




- الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
- من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
- الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة ...
- إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل ...
- التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي ...
- هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
- مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
- إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام ...
- الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية ...
- الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر ...


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - فريد زهران - إنها ليست مجرد مباراة :أوقفوا إهانة وإذلال المصريين في العالم العربي