قاسم عزيز
الحوار المتمدن-العدد: 2839 - 2009 / 11 / 25 - 23:48
المحور:
الادب والفن
كنت اذرع ألغرفه بين مخدعي والنافذة وكثير من علامات الاستفهام تتوالى بازدحام فى ذهني , وكأنها خلية نحل تطن فى راسي .. بينما زوجتي- سامحها الله - تنعم بنوم كالحرير ولا تدرى بما يحدث ..
حين جاءت أخبار السادسة هبطت على ركبتي فى ارض الغرفة مقتربا من الراديو , وحين وجدت إن آن الأوان لتسمع,وكزتها لتصغي : " .. تقول الأرصاد أن غيمة حمراء بلون الدم تحلق فى سماء المدينة منذ ليلة أمس , وتبدو كخيمة هائلة ترتخي فوق العاصمة .." كنت كلما أحاول إخبارها بما أراه , تسرع فتسحب الغطاء على وجهها .. ثم تنصحني بمحاولة النوم حتى تنقطع تهيؤاتى , وتنقشع غيمتي .. غيمتي أنا .. ؟ ترى ماذا تقول الآن ؟
قامت مقطبة الجبين إلى النافذة لاستطلاع الآمر .. أنظر إليها بزهو المنتصر , حاجباها مرفوعان إلى منتصف الجبهة .. فمها مفتوح كباب عمارتنا .. تلهث عيناها بين النافذة و بيني ..
توجهت إلى النافذة لأرى معها .. أخيرا لدى ونيس , كان كل شيء مشربا بالحمرة البادية فى السماء .. وكانت الشوارع تعج بأهلها .. معظمهم بثياب النوم وبعضهم لم يكمل هندامه وعيونهم مشدودة بذعر الى السماء .. ضممتها إلى وأنا اخبرها بأننا لم نأت إلى هذه الدنيا لكي ننام .. فهذه تهيؤاتى التي لم تنقطع , وهذه غيمتي ما تزال ..
الآن اتاملها بوضح النهار .. تبدو كأنها كف عملاق يسد الفضاء , يغلق خط الأفق من حولنا .. الغيمة الآن أقرب كثيرا مما كانت تبدو ليلا .. تهبط رويدا نحو الارض و ..
أندفع إلى أرض الشارع .. كان رجلا يعتلى إحدى سيارات الشبح ويتحدث فى الناس : " . . كان الطريق يبدو كبحر هائل من الدم ولا مهرب منه , ثم إن الغيمة كانت بعيدة بالأمس عما هي الآن .. " .
وفى مقهى قريب ؛ تطل علينا وزيرة البحث العلمى من التليفزيون :".. جتى الآن نظن أن مادة الغيمة غير معروفة لنا, وهى ثابته لا تشتتها حركة الهواء .. وقد طلبنا من وكالات أبحاث الفضاء فى العالم المساعدة فى حل هذا اللغز .. ومازال الوقت مبكرا على الوقوف على حقيقة مايحدث فوق رؤوسنا .." .
مع ارتفاع الشمس بوسط السماء نسمع أزيز طائرات يهز أرجاء المدينة .. وساعة من الهرج والمرج وتمر الدقائق بطيئة ثقيلة كوابور الزلط , ثم ينقل "الراديو" لمتحدث عسكري أن طائرات السلاح الجوى خرجت لاستطلاع الأمر , وأكد طياروها أن الغيمة لانهاية لها فى الفضاء, وهى تبدو مخروطية الشكل , وأكد المتحدث أن الغيمة تهبط ببطء فوق المدينة ومن التوقع إذا واصلت ؛ أن تغشى أنوفنا مع الساعات الأولى من هذه الليلة .. ويزداد الاضطراب والهلع , وتبدو المبانى وكأنها تتقيأ من فيها .. وتتحول شوارع المدينة الى محيط مضطرب الأمواج .. وبدأت أصوات تنادى بالخروج من المدينة ... بينما تبادر سيارات الشبح بالانطلاق حاملة ما خف وغلا .. ويطل علينا وزير المواصلات مصرحا بأنه جند كل إمكانيات وزارته لنقل كل من يريد الخروج من المدينة , ولا داعي – على حد تعبيره – من تمكين الخوف من القلوب , يقول هذا ثم يتهالك في سيارته منطلقا إلى الطريق الصحراوي .. وكانت رائحة كريهة قد بدأت تظهر هنا وهناك , وتخرج تكهنات بأن غزاة من الفضاء الخارجي بدءوا يندسون بيننا , ويضيف آخرون بأن ما جذبهم للعاصمة هي تلك الأهرامات حتما لما يقال عن المقاييس الفلكية لبنائها , وهم بكل تأكيد مصدر هذه الرائحة التي تزداد باقتراب الغيمة ..
وبدأنا نميز بين أنواع ودرجات من هذه الرائحة , فهذه كريهة , وهذه كريهة جدا , وتلك تكاد تقتل , ولاحظت رجلا في ثوب حريري يمسك بكلنا يديه حقيبة دبلوماسية منتفخة تندس بين أصابعه سلسلة مفاتيح ذهبية ما إن يقترب من أحدهم حتى ينفر منه مبتعدا بينما هو يسب ويلعن ويرغى ويزبد .. وتذكرت آن زوجتي تصف ابتسامته النادرة بأنها مصنوعة من الجبس .. وهو رجل أعمال مشهور يسكن فوقنا بنفس البناية توجهت إليه مستفسرا عما أرى .. فوجدت منه رائحة لم أتحملها .. أشرت عليه ألا يقترب أكثر , فعاد يرغى ويزبد وبسبنا ويسب الغيمة التي لا يعرف منى تنقشع كى يعرف كل فرد مقامه وموضعه فى هذا البلد .. ثم اتجه إلى سيارته قاصدا أى مكان يجد فيه من يحادثه دون أن يشمئز أو يمسك انفه , وقيل أن اللذين استقلوا سياراتهم للهروب فوجئوا بالغيمة تحاصرهم وتكاد تحتك برؤوسهم فتركوها وتسابقوا عائدين ..
ويزداد الأمر تأزما ويوقن أهل المدينة أنه الهلاك لامحاله , ويعود التليفزيون لينقل اجتماعا لمجلسي الشعب والشورى لبحث الموقف العصيب , فرأينا معركة كلامية تطورت إلى عراك بالأيدي , ووصلت إلى الأحذية , ونقلت الأخبار فيما بعد أن بعضهم تهور فاستعمل سلاحه الناري ولم تفرق المعركة بين عضو محترم أو حارس أو وزير .. كان الجميع يرمى جاره بتلك الرائحة .. حتى صويحبات البارفان الباريسي لم يسلمن منها .
كانت الرائحة بالفعل في كل مكان وحاول معظمنا أن يقتنع بأن الرائحة تأتى من الغيمة أو قمامة الشوارع المتراكمة أو حتى من الصرف الصحي .. في الوقت الذي عاد فيه بعضهم إلى ترويج فكرة الغزو الفضائي وأنهم بيننا – ربما - بالآلاف دون أن نراهم وهم مصدر تلك الرائحة , بل إنهم صاروا داخل بيوتنا وغرف نومنا الآن ..
كنت ما أزال أتجول في الشوارع على غير هدى بعد أن قل سكانها وعادت المساكن تتجرع ساكنيها جماعات ووحدانا وبدأت الرائحة تبتعد بعض الشيء غير أنها تتجدد كلما مر بى أحدهم , وتذكرت زوجتي فجأة , فعدت أطوف بعيني في جوانب الشارع وعلى الجزيرة الوسطى حيث تقف بعض النسوة هناك .. توجهت إلى المقهى البلدي الكائن بالميدان الكبير فوجدته خاويا إلا من بعض الطاولات التي يشغلها عدد قليل من بينهم كانت زوجتي تجالس الجارة المقابلة وزوجها .. يتحدثن بحميمية وهيام , وزوج كريس يضطجع على كرسيه في استسلام وراحة .. قصدتهم كمن وجد أسرته الضائعة .. وسألته عن حاله فقال انه جيد .. ثم أضاف وهو يبتسم أنه فقط يتمنى لو يصمد راتبه حتى نهاية الشهر وضحكنا سويا وشاركتنا المرأتان , وأضافت الجارة كريس : "وأنت ؟ ألم يطرأ على راتبك بعض التحسن ..؟ عمولة مشروعة .. علاوة أهلية .. منحة حكومية .. ما هذا ؟ أنت كصاحبك تحبان الفقر .." وتعالت ضحكاتنا , وتقاربنا كثيرا من بعضنا ... .
#قاسم_عزيز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟