|
أوديب: بطل على مفترق طرق
إبراهيم جركس
الحوار المتمدن-العدد: 2828 - 2009 / 11 / 13 - 07:22
المحور:
الادب والفن
إنّ أسطورة أوديب Oedipus قديمةٌ جداً. وقد ظهرت بشكلها المدوّن لأول مرة في ملحمتي هوميروس "الإلياذة" و"الأوديسة". كما أنّ كلاً من أسخيلوس ويوربيدس قد ألفا مسرحيات عن البطل، كما قام بذلك أيضاً يوليوس قيصر، سينيكا، وحديثاً أندريه جيد وجان كوكتو. ولكن أعظم نسخة على الإطلاق هي المسرحية التي وضعها سوفوكليس عام 429 قبل الميلاد. كان القرن الخامس قبل الميلاد هو العصر الذهبي للتنوير اليوناني، وكان سوفوكليس معاصراً لبعض العقول الفذّة: بروتاغوراس الملحد النموذجي الذي قال بأنّ "الإنسان مقياس جميع الأشياء". بينما ديمقريطس آمن أنّ كلّ شيءٍ هو نتيجة قوانين طبيعية وليس "العلّة الأولى" و"المحرّك الأول". هيراقليطس فيلسوف التغيّر والصيرورة، الصراع واللوغوس، مات عندما كان سوفوكليس في سن الخامسة والعشرين. وعندما قام سوفوكليس بتأليف المسرحية، كان سقراط في سن الأربعين، وكان أبقراط في سن الثلاثين، أمّا أفلاطون فقد كان طفلاً صغيراً. كانت الحضارة الغربية نقف عند مفترق طرق بين الدين والعقل. كانت الآلهة قد بدأت بالانزواء عندما انطلق العلم والعقل في مسيرة انتصاراتهما المذهلة. تقول الجوقة في مسرحية أدويب أنّ: إنها تموت، العرافات العجائز التي أرسلت إلى الملك لايوس الآن سادتنا يشطبون من على صفحات اللفائف زال مجد أبولو الذهبي الآن الآلهة، لقد سقطت الآلهة تيسبس، صانع الدراما المعترف به، قام بوضع تراجيدياته عام 534 قبل الميلاد، ولكن القرن الخامس ق.م كان فترة ازدهار النظام الديمقراطي والمسرح التراجيدي والفكر الفلسفي في أثينا، وقد أثرت هذه المجالات على بعضها وتركت آثاراً لا تمحى. وبخلاف الشعر الملحمي، كان أبطال التراجيديا يمثلون مجموعة من وجهات نظر مختلفة، وقد أدى ذلك إلى تطوّر فن النقاش والجدل. وعن طريق عرض الخلافات والنزاعات، أصبحت الدراما عربة التقدّم في ساحة الفكر الإنساني.
القصّة: لقد تحدّد مصير أوديب حتى قبل أن يبصر النور. فقد علم لايوس ملك طيبة من عرّافة دلفي أنّ أي ولد ستضعه زوجته جوكاسته سيصبح قاتله. وعندما أنجبت الملكة ولداً جميلاً ومعافى، أخذه الملك من بين يدي الممرضة، ثمّ دقّ المسامير في قدميه، وشدّ فيها حبلاً حتى يمنع الطفل من الحدوّ، ثمّ أمر خادماً لديه كي يأخذ الطفل ويلقيه على جبل الكيثايرون. لكنّ الخادم لم يلتزم بأمر سيّده، وسلّم الطفل إلى راعٍ أخذه بدوره إلى مدينة كورنثة حيث تبنّاه ملك المدينة وزوجته وربّياه مثل طفلهما. عندما شبّ أوديب بدأ يتساءل عن أصله وفصله، وقد قاده بحثه عن جذوره إلى معبد دلفي كي يستشير عرّافته، وهناك سمع منها نبوءة فظيعة تقول أنه سوف يقتل أباه ويتزوّج أمه. اعتقد أوديب أنّ العرّافة تقصد والداه الذين تبنّياه، فقرّر ألا يعود إلى كورنثة أبداً وبذلك فإنه سيتحدّى إرادة أبولو. ولكن عندما وصل إلى مفترق طريق "حيث تلتقي الطرق الثلاثة" التقى برجل عجوز نبيل يقود عربة حيث أمره النبيل بأن يتنحّى عن طريقه. أمّا أوديب الذي وجد نفسه وحيداً في هذا الموقف فقد أجاب بأنه لا يعترف بأي أحد سوى الآلهة ووالداه فقط، وقصد بذلك والداه الكورنثيان. عندها قام العجوز النبيل بضربه على رأسه، فكانت ردّة فعل أدويب أن استشاط غضباً وقتل العجوز وكل من معه من حاشيته. ثمّ تابع طريقه إلى طيبة، حيث كان أبو الهول بانتظاره [أبو الهول = Sphinx وتعني "الخانق"] على مشارف المدينة. كان ذلك المخلوق المتوحّش _نصفه العلى امرأة ونصفه السفلي أسد_ يفترس ويفتك بأي مسافر يمرّ من جانبه ولا يتمكّن من الإجابة عن أحجيته إجابة صحيحة: "ما هو الشيء الذي يمشي على أربعة في الصباح، وعلى اثنتان في الظهيرة، وعلى ثلاثة في المساء؟" وكانت إجابة أوديب :"الإنسان" وهي الإجابة الصحيحة على أحجية أبو الهول الذي جرِح في صميم كبريائه وآثر الانتحار. بعد أن خلّص أوديب المدينة من براثن ذلك الوحش، عرضت عليه المدينة الممنونة يد الملكة الأرملة جوكاسته، ونصّبته ملكاً عليها. رزق الزوجان أربعة أطفال وعاشا حياةً سعيدة حتى..... .....حتى ضرب وباء المدينة واستمرّ بالفتك بسكّانها لسنوات طويلة. عند هذه النقطة تبدأ مسرحية سوفوكليس: قام شقيق جوكاسته، كريون، باستشارة عرّافة دلفي بالنيابة عن أوديب، وقد أخبرته العرافة أن المدينة قد تم تدنيسها بسبب وجود قاتل لايوس فيها. ويجب إيجاده ومعاقبته لوضح حد لهذا الوباء. لجأ كبار المدينة إلى الملك أوديب لإنقاذ مدينتهم، فقد أنقذهم مرة من براثن الوحش أبو الهول، لذلك لابد وأن يكون قادراً على إنقاذهم من هذا الوباء. أثناء التحقيق، اكتشف أوديب أنه هو الشخص المعنى في الأمر، حيث أنه هو الذي قتل الملك العجوز على مفترق الطرق، وبأنه قد تزوج من أمه. لقد تحققت النبوءة المريعة! انتحرت الملكة جوكاسته، أمّا أوديب فقد سمل عينيه ثمّ خرج من المدينة على منفاه النهائي. تختلف أسطورة أوديب عن أساطير البطل النموذجية في أن أفعاله تمت بمحض إرادته، وبأنه قد انتصر على الوحش بمفرده [سابقاً، كانت الإلهة أثينا تساعد الأبطال في معاركهم]. فأوديب لم يلجأ إلى القوة البدنية لقتل لوحش، بل دفعه للانتحار بكلمة واحدة. ونراه يتفاخر أثناء جداله مع الكاهن تيريزياس: كان هناك لغزاً لم يقدر على حلّه أي عابر سبيل وكان يحتاج إلى نبي لحله، أين كنت أنت؟ لم تأت به أنت فيما تعلم من علم الطير ولا فيما يأتيك من وحي الآلهة حتى أتيت أنا، "أوديب" الذي لا يعرف شيئاً أفحمت أبا الهول، وبدون اللجوء إلى حكمة الطيور بل اعتمدت على عقلي، وعلى عقلي فقط لقد استحق أوديب احترام ومحبة الناس بفضل حكمته وشجاعته فحسب وحقق مكانة وسلطة كبيرة في مدينته. ولكن هل هذا يكفي لخلق إنسان كامل؟ فقد مضى زمن طويل منذ أن واجه العجوز على مفترق الطرق وانتصر انتصاراً ساحقاً على أبو الهول، إلا أنه قد وصل على لحظة مصيرية حاسمة أخرى في حياته: "هل اعرف نفسي وأحبائي فعلاً؟"، وكان الجواب: "هل أصدّق أم أبحث وأتحقق؟". ومن هنا بدأت رحلته بالتعرف على الذات.
السعي خلف الحقيقة: الميثوس مقابل اللوغوس [الأسطورة مقابل العقل] "هناك الكثير من العجائب والكثير من الفظائع، إلا أنه ليس هناك أجمل وأفظع من الإنسان". هذه الجملة مقتبسة من مسرحية سوفوكليس المبكّرة "أنتيجوني Antigone" وتعتبر المفتاح لفهم أوديب بشكل أفضل. إنه بطل مليء بالتناقضات: الذكاء والسذاجة، له وطن ومشرّد، أبيّ، إلا أنه بفضح نفسه وعيوبه أمام أولئك الذين يقدرونه، مذنب وبريء. يرى نفسه دائماً أمام مفترق طرق: بين الأسطورة والعقل، بين أن يكون دمية في أيدي الآلهة وبين أن يكون ذاتاً أصيلة تقرّر مصيرها بنفسها، بين كونه شخصاً أو يصبح ذاتاً تتمتع بميزة الأصالة. عندما اجتاح الوباء مدينة طيبة، لجأ الرجل الذي واجه الوحش بذكائه وحكمته إلى استشارة أبولو وكاهنه تيريزياس عوضاً عن اللجوء إلى عقله وفطنته. كما انه ارتكب العديد من الهفوات المنطقية. عندما حكى له كريون أن لا يوس قتل على يد مجموعة من قطاع الطرق، قام أوديب بتحويل الجمع إلى مفرد حيث قال: كيف يجرؤ لص متوحش على قتل ملك؟ مستحيل، إلا إذا دفع له بعض المتآمرين عليه من طيبة إذا كان أحد ما يعلم أنّ القاتل غريب أو أنه من أرض أجنبية، فليتكلم قبل أن يشير تيريزياس إلى عدد قتلة لايوس، كان أوديب قد كوّن رأياً في المسألة: هناك قاتل بمفرده وهو غريب عن هذه الأرض، مثله تماماً. هناك تناقض منطقي آخر يتعلّق بعدد أفراد حاشية لايوس. لقد تذكّر أوديب انه قتل ثلاثة أشخاص، وأخبرته زوجته جوكاسته فيما بعد أنّهم كانوا خمسة أشخاص، حيث أن أحدهم _العبد_ قد لاذ بالفرار. هذا العبد _والذي يتبين فيما بعد بشكل مفاجئ أنه الراعي_ يتم استدعائه للشهادة. وفي هذه الأثناء يصل رسول من كورنثة ينقل خبر وفاة الملك العجوز "بوليبوس" والد أوديب المتبني. وهذا الخبر يشتت انتباه أوديب بشكل كامل، ولا يتمّ توجيه السؤال المتعلق بعدد اللصوص إلى الشاهد الوحيد. وبالرغم من أنه يعلم أن "الواحد لا يمكن أن يكون مجموعة" وأن "الثلاثة لا يمكن أن يكونوا خمسة" إلا أنه لم يتبع المبدأ السقراطي في الحوار Elenchos والذي ينصّ على وجود طرح المزيد من الأسئلة حتى تتوضح الإجابة وتتحدّد. أوديب _المحقق الرئيسي والإدّعاء، القاضي، المخلّفين، والدفاع_ يدين نفسه بصفته قاتل والده البيولوجي وزوج والدته الفعلية من دون أي دليل منطقي ومقنع. لذلك وعلى مفترق الطرق بيم الميثوس واللوغوس، يبدو أوديب تائهاً. هنا نورد بعض المقارنات المحددة بين الفكر الأسطوري mythical والفكر العقلاني rational [من أجل مناقشة موسّعة أكثر في النقاط التالية أنصح بالرجوع إلى عمل كاسيرر "فلسفة النماذج الرمزية"]: • الفكرة المركزية في المعتقد الأسطوري هي افتراض أنّه لا شيء يحدث من قبيل المصادفة، بل وفق غاية أو خطة مقضيّة ومقررة مسبقاً. الوباء سببه غضب أبولو المتمحور حول معاقبة المدينة التي دنسها حضور قاتل لايوس. ولذلك فالحل الأنسب للأزمة هو استرضاء الإله بإجلاء المدنس "القاتل". لم يشكّ أوديب بذلك ولو للحظة. بالمقابل، إنّ الفكر العقلاني قد تمحور حول الرأي المتغير بشكل منتظم. • تتطلّب الحكمة تحمّل الشك والجهل [قدرة كييتس السلبية] والتي بسبب تأجيل وإرجاء الحكم، إلى "التعليق الإرادي للرأي". يعتمد الاستنتاج على توازن الاحتمالات، ولذلك يجب أن تكون النتيجة منفتحة أمام التنقيح. بالمقابل، يتوق الميثوس إلى اليقين: إنه يرغب بالإيمان أكثر من رغبته بعدمه. أوديب لا يحتمل لا الجهل ولا تأجيل اكتشافه، كما أنه لم يعدل عن افتراضاته أبداً. • وجود إطار شامل ومستقر من الإدراك والمعرفة هو أساس الفكر العقلاني. بالمقابل، إنّ مقولات الفكر في الميثوس _كما هي في الدراما والجنون_ هي إمّا مرنة ومطواعة أو أنها غير موجودة. إنّ مسألة الطبيعة الحقيقية لقاتل لايوس، لسلسلة الأحداث وتوقيتاتها، لا يتم التطرق إليها في مسرحية أوديب أبداً. إنّ أحداث المسرحية معلّقة في لحظة الحاضر الأزلية. وفي حالة تضبيب كامل للهوية، يصبح الراعي عبداً، ثمّ يعود إلى هوية الراعي من جديد. إلا أن هذا التضبيب للشخصيات والهويات كان شائعاً جداً في الفكر الأسطوري، فقد كان الأبطال والآلهة القديمة يتحوّلون إلى كائنات أخرى. إلا أن أحجية أبو الهول _ولسخرية القدر_ كانت تتعلق جوهرياً بمسألة ثبات الهوية. • إن مطلقية الفكر والفعل هي مسألة جوهرية في الاعتقاد الأسطوري. حيث أنّ الكلمات مدعومة بقوة سحرية ويمكنها أن تحدّد مجرى الأحداث فعلياً. أرسل أوديب كريون إلى دلفي كي يستشير أبولو: "ماذا عليّ أن أفعل أو أقول؟". علاوةً على ذلك، يكمن الشعور المطلق والأزلي بالذنب في قلب الوعي الأسطوري، حيث أنه قد يدفع الفرد بالتسبب بكارثة فظيعة، إلا أنه يمكن تجنّبها وتفاديها من خلال فعل التضحية. وتلك هي حال أوديب الذي ضحّى بنفسه من أجل مدينته وشعبه، ونفس الأمر حدث مع المسيح الذي "صلب من أجل خطايانا". [ يمكننا ملاحظة بقايا هذا الشعور الأسطوري بالذنب الأزلي في أوهام مرضى الإكتئاب النفسي]. • في الأساطير هناك تأكيد على مصدر المعلومة، حيث يتمّ إضفاء صفة المصداقية على المصادر غير الموثوقة. كريون: الذي شكّ فيه أوديب، يؤتمن على مهمة استشارة العرافة... تيريزياس: الذي لم يقدر على حلّ أحجية أبو الهول، تتم استشارته في مسألة الوباء... العبد/ الراعي: الذي هرب من غضب أوديب عندما قتل الملك العجوز، يتم استدعاؤه ليمثل أمام أوديب كشاهد وحيد وموثوق. • بخلاف المفاهيم المستخدمة في التفكير الجيّد، ليس للكلمات الأسطورية أي معنى ثابت, وهذه النزعة المطواعية والزئبقية للكلمات تحدث بسبب فعل التلاعب بالألفاظ والكلمات في المسرحية. وليس من المستغرب أنّ كلمة Oidipou [اعرف أين] تصبح بسهولة Oidipous [القدم المتورّمة]، على سبيل المثال. • في الأساطير، جميع قوى الطبيعة ما هي إلا تعبيرات عن إرادة شيطانية أو إلهية. إلا أن أوديب كانت له إرادته المستقلة والخاصة _تحدّي نبوءة أبولو، كشف خفايا جريمة قتل الملك لايوس، والتعرف على ذاته. وعلى مفترق طريق التعرّف على الذات لجأ أوديب على الطريقة السقراطية في التساؤل. أوديب هو باحث عنيد عن الحقيقة، وكلمة zêtein [البحث عن، التحقيق في تظهر بشكل متكرّر خلال المسرحية. أمّا الكلمة المشابهة zêtêma [تساؤل] فنراها تظهر في كتابات سوفوكليس ، لكنها لا تظهر في كتابات أسخيلوس، وكأنها لم تكن مستخدمة أو حتى معروفة في اليونان قبل القرن الخامس. "التحقيق في الأشياء التي تحت الأرض وفي السماء" (أفلاطون: الاعتذار Apologia) كانت تلك النظرة العلمية الجديدة للتنوير اليوناني. وفي رسالة أبقراط "في الطب القديم" تمّ استبدال الوحي السحري بالتكهّن المبني على الملاحظة والمراقبة وتاريخ الحالة، لذلك أصبحت تلك المعرفة الجديدة إنجازاً عظيماً للعقل البشري أكثر من كونها امتيازاً خاصاً بالآلهة. ولكن ما الذي دفع أوديب للقيام برحلة السعي خلف الحقيقة؟ هل هو الفضول أو الخوف؟ إنّ كلمة "خوف" ظهرت في مسرحية أوديب سبعة عشر مرة، أي بمعدّل ثلث كافة الحالات الموجودة في باقي مسرحيات سوفوكليس. وأكثر من نصف عددها (تسعة) يظهر خلال النقاش الدائر بين أوديب وجوكاسته عندما يصاب كلّ منهما بالرعب والذهول. عندما أجاب أوديب على أحجية أبو الهول إجابة صحيحة كان يبدو تصرّفه كالعالم الهادئ والرصين، ولكن عندما كان يبحث عن هويته، فأعتقد أنه كان الخوف هو الذي جعله يتردّد على مفترق الطريق بين الأساليب العقلانية والأساليب والأسطورية في التفكير. فعندما نواجه تهديداً يتهدّد وجودنا وكينونتنا فإننا نرجع إلى نقطة الالتقاء هذه بين العقل واللاعقل، وغالباً ما نتخذ السبيل النكوصي باتجاه الميثوس.
التحليل النفسي وقصّة أوديب عندما واجهت نظرية فرويد في الإغراء Seduction theory بعض المشاكل والعقبات، أخذ يبحث يائساً عن فكرة جديدة تشكّل أساس نظريته السيكولوجية _حل محدّد واضع للغز العصاب. كانت قصة أوديب قد استحوذت على خيال فرويد، حيث أنه وصف اكتشافه هذا في رسالة وجّهها إلى صديقه فلهلم فليس: "وضعت يدي على فكرة فريدة تصف حالة عامة، لقد كشفت عن عشق كامن تجاه الأم وغيرة من الأب في داخلي، وأعتبر هذا الأمر حالياً حدثاً عالمياً عاماً يحدث في مرحلة الطفولة المبكرة... وإذا كان الأمر كذلك، عندها بإمكان المرء أن يفهم تلك القوة المثيرة عند أوديب... فالملحمة الإغريقية تزخر بالقسر والإكراه الذي يستشعره جميع الناس في دواخلهم. وكل شخص من الجمهور كان في إحدى المرات أوديباً ناشئاً في خياله، وهذا ما يدفع الجميع للارتداد والانقلاب في رعب". (من كتاب: نشأة التحليل النفسي). وفي كتابه (تفسير الأحلام) يكتب فرويد: "مصير [أوديب] يحرّكنا فقط لأنه قد يكون مصيرنا نحن _لأنّ العرّافة ألقت علينا نفس اللعنة قبل مولدنا كما فعلت معه. هذا مصيرنا جميعاً، ربما لكي نوجّه دافعنا الجنسي الأول تجاه أمهاتنا، وبغضنا وأمانينا الإجرامية الأولى تجاه آبائنا. أحلامنا تقنعنا أنّ الأمر كذلك حقاً. الملك أوديب الذي ذبح والده لايوس وتزوّج والدته جوكاسته، يكاد يظهر لنا التحقق الفعلي لأمانينا الطفولية الأولى". وكما جاء على لسان فرويد إنّ "عقدة أوديب The Oedipus Complex" هي ليست نتيجة علاقات عاطفية مضطربة ضمن العائلة، بل هي دافع غريزي حيوي يمرّ به جميع الذكور في مراحل طفولتهم المبكرة. وحسب نظريته، إنّ الأطفال في عمر الثالثة يخطّطون لقتل آبائهم لكي يناموا مع أمهاتهم. ويبدو الأمر وكأنه إحياء حاضر لمبدأ "الخطيئة الأصلية"، بغضّ النظر عن موقف فرويد الرسمي كملحد. فالخلاص لا يتمّ إلا من خلال الفحص الدقيق والنشيط على يد باحث خبير ومتمرّس، حيث أنه لم يتردّد في استخدام "القسر الأقوى في العلاج النفسي" (حسب تعبير فرويد الخاص) في أقصى الحالات استعصاءً. وأي احتجاج على دور المحلّل النفساني سوف يكون إثباناً لذنبه، بينما أي ذكرى عن أي حالة استغلال جنسي فعلي خلال مرحلة الطفولة سيتم اعتباره على أنه فنتازيا. فشبح Joseph K (كافكا: المحاكمة) يكمن داخل الكثير من قاعات الاستشارة النفسية. كما فعل ذلك الدكتور كروكوفسكي _"الأب المعترف" مع "القوة الشافية للتحليل النفسي" (توماس مان: الجبل السحري). على أية حال، توصّل فرويد إلى رؤاه الأوديبية هذه ليس من خلال الملاحظة المتجشّمة والمجهدة لمرضاه، بل في لحظة إلهام وإشراق عندما قرأ كلمات جوكاسته التالية: لا يهولنّك نومك مع أمك فكثيرون ناموا مع أمهاتهم في منامهم لا يوجد إنسان عاقل يعبأ بهذه الأمور علاوةً على ذلك، لم يكن ينوي فرويد دحض اكتشافه المزلزل بطريقة علمية، بل إنّ العقدة اكتسبت طابعاً دينياً، و"هرطقة" (هذا مصطلحة هو) ثم حرمانها من حركة التحليل النفسي. ومن ذلك استنتج فرويد ما يمكن أن نسميه "عقدة لايوس Laïus Complex" وهي غيرة تستبدّ بالأب وتجعله يتمنى قتل ولده الذي قواه تثير مخاوف الأب. [وهذا ما نلاحظه عند معظم الحيوانات حيث يسعى الذكور خلف الصغار من أجل قتلها خوفاً من منافستها على الإناث وعلى الموارد الغذائية عندما تكبر]. وربما تكون هذه النقطة العمياء هي نتيجة ضغط فرويد وعداوته تجاه زملائه الأصغر سناً والأكثر ذكاءً وإبداعاً. أو ربما أحد الأسباب التي منعته من الاعتراف بتأثير شوبنهور ونيتشه على نظريته هي أنه _على غرار لايوس_ كان عليه أن يتحقق من أولويته حيث "تلتقي الطرق الثلاثة". بالنسبة ليونغ، فهو يخالف نظرة أستاذه، فالوعي ليس مجرّد مستودع أو مخزن للرغبات المكبوتة، بل هو قوّة حيوية دافعة، أشبه ما تكون بمفهوم "الإرادة" عند شوبنهور. لذلك فالحياة تصبح إدراك ذاتي للاوعي، رحلة نحو التفرّد والكمال. من هذا المنظور، يمكن النظر إلى الجريمة وسفاح القربى في مسرحية أوديب كتعبير مجازي عن أكثر النواحي المظلمة في أنفسنا ("الظل" اليونغي) والتي نرفض معرفتها والاعتراف بها. قد يقول قائل أنه من خلال تحمّل مسؤولية أفعاله الشنيعة، قام أوديب بامتصاص "ظلّه" وأصبح بمجموعه في حالة تفرّد تام. فولادة الفرد بكامله تسم أيضاً ولادة التعاطف. فقط الذات غير المنقسمة يمكنها تصوّر العالم الداخلي للآخر وإقامة علاقة عاطفية معه، كما فعل أوديب مع أولاده. ومن المفارقة أنّ أوديب أثناء "سقوطه" أصبح إنساناً كاملاً.
أوديب: وجودي يبحث عن نفسه من هو أوديب؟ ربما هناك الكثير من الشخصيات الأوديبية كما أن هناك قرّاءً للتراجيديا، أو مشاهدين لها. هيغل، الذي كانت مشكلة الوعي الذ اتي بالنسبة له تقف في مركز الفكر الفلسفي، نصّب أوديب كفيلسوف خطابي في كتابه "محاضرات في تاريخ الفلسفة". كان تعريف هيدغر للفلسفة أنها عملية تجديد ذاتي من الهدم والبناء، وهي العملية التي جسّدها أوديب أحسن تجسيد. على أية حال، إنها مبدأ كانط في الوجود المشترك للحرية والضرورة التي أرى أنها مرتبطة بأوديب. كونه الشخصية التي كان عليها بالضرورة (عاطفي‘ سريع الانفعال، أبيّ، شجاع، عنيد، ذكي وفضولي) فقد اختار قتل العجوز على مفترق الطرق، كما أنه اختار بمحض إرادته التغلب على أبو الهول. فالقدر fate هو ما نصنعه نحن بأيدينا ولأنفسنا، "حتى نصبح على ما نحن عليه"، لإعادة صياغة تعبير بندار والعنوان الذي اختاره نيتشه لإحدى كتبه "هذا هو الإنسان Ecco Homo". إذ أنه ومن خلال تحمّل مسؤولية أفعاله بإرادته وحريته، يصبح أوديب البطل السارتري المعاصر، "محكوم بأن يكون حراً". فهو يملك الشجاعة والجرأة لمواجهة الألم، المعاناة واللاجدوى، وفي مسرحية (أوديب في كولون): إنه يبدأ حياته في القسم الآخر من اليأس. لذلك أوديب بطل مأساوي ووحيد على مفترق طرق، ويتساءل: "هل عليّ أن أعرف نفسي، أو لا أعرف نفسي؟"، ويجيب كوجودي أصيل: "لأكون أصيلاً، أو لأعيش إيماناً سيئاً؟". وبألم جسدي ومعنوي، يختار اتباع سبيل معرفة الذات والأصالة. ربما استجداء أوديب يكمن في مدى تمسّكه بالبحث عن هوية _البحث عن جوهر ماهية الإنسان في كامل وحدته الوجودية. الطبيعة الإنسانية مأساوية ومتناقضة في جوهرها، والمعرفة هي التي تجعلها كذلك. سيلينوس، معلّم ورفيق الإله ديونيزوس قال مقتبساً أنّ "الحياة حرّة من الألم عندما تكون مترافقة مع جهلها لمعاناتها". ردّد سوفوكليس هذه الحكمة خلال هذه الأسطر التي غنتها الجوقة في مسرحية أوديب: "الجهل يجعلك سعيداً، الحقيقة جعلتك أعمى". مسرحية أوديب هي مأساة المعرفة، الرؤية والعمى: الحقيقة محتجزة داخل الوهم، وداخل اضطرابات اللغة والعواطف. الإباء الغامر، بالإضافة إلى الغضب والخوف، يعمي العقل ويشلّ الفكر. مبدئياً، إنّ أوديب أعمى ليس وفق هويته فحسب، بل وفق هوية أحبائه. لاحقاً، يعمي الخوف بصيرته عن الأسس غير المنطقية لنتائجه. ومع أنه يفقد بصره غلا أنه يكتسب بصيرة متيقظة. وتلك هي اللحظة الأكثر حرجاً وألماً وتكدّراً في الانقلاب الدرامي Peripetia. إنها تظهر لنا كيف أننا نسمح لنزعتنا الروحية وإنسانيتنا العاطفية بالتألق فقط بعد التخلي عن صلابة وجودنا وتعلّقنا بممتلكاتنا (ومن ضمنها القوة والسلطة). أوديب إنسان حقيقي بالنسبة إلى نفسه، الذي صنع قدرته من خلال تحطيم وجوده الجيد، وأصبح على ما هو عليه. أخيراً، يعرض نفسه كقربان في سبيل المدينة التي بجّلته ووقرته كحاكم حليم وحكيم، والمدينة التي أحبّها من أعماق قلبه. وهذا هو الشيء الذي يحرّك مشاعر الجماهير على ما أظن.
إيفا سيبولسكا إبراهيم قيس جركس
#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الشواش: العلم الجديد
-
سيكولوجية الخضوع 2
-
سيكولوجية الخضوع والطاعة (1/2)
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|