أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الشواش: العلم الجديد















المزيد.....


الشواش: العلم الجديد


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2826 - 2009 / 11 / 11 - 16:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


هل هناك دقة مطلقة؟ هل تقدّم لنا القوانين العلمية أو أي نوع من القوانين نتائج دقيقة مئة في المئة؟ هل المعرفة التي حصلتها البشرية حتى الوقت الحالي هي معرفة دقيقة ويقينية، ونتائجها لا يدخلها شيء من الارتياب؟ وهل لنا أن نعتمد بشكل مطلق على النتائج العلمية والحسابات المختبرية على أنها نتائج صحيحة؟
والكثير من الأسئلة المطروحة على طاولة الحوار العلميّ المعاصر في النّدوات والمعامل والمختبرات العلميّة التّي تتناول موضوع جدليّة الشّواش والنّظام في كافّة مجالات المعرفة.
جاء اسم (نظرية الشواش) من واقع أن النماذج التي تدرسها النظرية _أي نظرية_ هي، في الحقيقة، مضطربة ومشوشة في صميمها. ولكن نظرية الشواش تعنى بالبحث عن مختلف أشكال النظام والرتابة الكامنة في البيانات العشوائية.
..............................
إن أول من بحث في مشكلة الشواش بشكل جدي هو عالم الأرصاد الجوية (إدوارد لورينتز). ففي العام 1960، كان لورينتز يعمل على حل لمشكلة التنبؤ بحالة الطقس. وكان لديه برنامجاً إلكترونياً محملاً في حاسوبه، وقد تم تحميله اثني عشرة معادلة، وكل واحدة منها تصف حالة من حالات الطقس، إلا أن هذه المعادلات لم تكن لتصف حالة الطقس بالشكل الصحيح والدقيق تماماً. وكان هذا البرنامج يتنبأ _بشكل نظري_ بالحالة التي يمكن أن يكون عليه الطقس بشكل تقريبي.
وفي أحد الأيام من العام 1961، كان لورينتز يراجع نسق معين من سلسلة الموجات في أحد القياسات التي كان قد حصل عليها. ولاختصار الوقت، قرر المراقبة بدأً من منتصف النسق الموجي بدلاً من مراقبته من النقطة التي حصل عليها في وقت سابق. فأدخل لورينتز الرقم الذي كان قد حصل عليه من قياسات ليلة البارحة من ورقة النتائج الإلكترونية المطبوعة وترك البرنامج يتابع عمله.
عاد لورينتز بعد مضي ساعة واحدة من عمل البرنامج الإلكتروني، وعند مراجعة النتائج لاحظ شيئاً فاجأه، كان النسق الموجي قد تغير بشكل كامل بدلاً من أن يأخذ مجراه الذي كان قد اتخذه ليلة البارحة. كان قد تشعّب عن مسار النسق السابق، وانتهى بمسار مختلف ومتباعد بشكل كبير عن مسار النسق الأصلي. ثم اكتشف لورينتز بعد ذلك ما الذي حدث حقاً، كان الحاسوب قد خزّن الأرقام ضمن ست خانات كسرية في ذاكرته. ولتوفير الورق، كان الحاسوب قد أخرج النتائج مؤلفة من ثلاث خانات كسرية، حيث أن الرقم كان في النسق الأصلي يساوي ,506127 ، ولكن الحاسب كان قد أخرج في النتيجة الأرقام الثلاثة الأولى فقط ,506 .
كان يجب أن ينتهي العمل من دون حدوث أي مفاجئات غير متوقعة، وحسب ما كان متعارف عليه، كان يجب أن يحصل لورينتز على نتائج قريبة جداً من قيم النسق الموجي الأصلي. ولكن العالم يعتبر نفسه محظوظاً جداً إذا حصل على قياسات هي على درجة من الدقة تنحصر بين ثلاثة أرقام بعد الفاصلة الكسرية... طبعاً، إن الرقمان الرابع والخامس لا يؤثران بشكل كبير على النتائج النهائية للتجربة. وقد أخطأ لورينتز عند هذه المرحلة.
عُرِف هذا العامل فيما بعد باسم (تأثير الفراشة The Butterfly Effect). فمقدار الاختلاف في قيم بداية تعرجان معينان في نسق ما هي ضئيلة جداً أنها شبيهة بضربات جناحي فراشة.
((إن خفقة واحدة من جناحي الفراشة اليوم، ينتج تغيراً طفيفاً في حالة الجو. وبعد فترة من الزمن يبتعد ما يفعله الجو فعلاً عما كان سيفعله، وهكذا خلال شهر من الزمن لن يحدث الإعصار الذي كان سيضرب شاطئ أندونيسيا، وربما يحدث إعصار ما كان له أن يحدث لولا حركة جناح الفراشة.)) [هل الله يلعب النرد؟ رياضيات الشواش: إيان ستيوارت، ص141]
وهذه الظاهرة الشائعة في نظرية الشواش تعرف أيضاً (بحالة الحساسية المفرطة التي تؤثر في الشروط الأولية Sensitive dependence on Initial Conditions). وهذا يعني أن أي تغير مهما كان طفيفاً في الشروط الأولية يمكن أن ينتج عنه تغير كبير وبعيد المدى في سلوك النموذج المرصود. ومثل هذا التغير الطفيف والصغير في القياس يمكن أن يُعَدّ كضجيج يشوّش التجربة، ويدعى بالخلفية الصاخبة، أو قد يُعََدّ بأنه حالة من حالات عدم الدقّة في آلة القياس. ومثل هذه الأشياء لا يمكن اجتنابها حتى في مختبر معزول عزلاً كاملاً.
عندما نبدأ أي اختبار نرصد فيه نموذج فيزيائي معين، ولنبدأ عند الرقم 2 مثلاً، فالنتيجة النهائية قد تختلف بشكل كبير في نفس النموذج عندما نبدأ الرصد عند الرقم 2,000001. إذن فمن المستحيل الوصول إلى هذه الدرجة العالية من الدقة في القياس _ حاول أن تقيس شيئاً أقرب ما يكون إلى درجة المليون من الإنش _أبسط مثال على ذلك عندما نطلب من الآلة الحاسبة أن تعطينا نتيجة عملية رياضية منطقية مثل أن نحسب جذر العدد 2:
2 = 1,41421352 فنحن نأخذ بعين الاعتبار الأرقام الثلاثة الأولى بعد الفاصلة الكسرية، ولكن باقي الخانات الرقمية فنحن نهملها تماماً، لأنها ليست ذات قيمة... وهذا هو الشواش بحد عينه، لأنه في الحسابات الكبيرة فإن هذه الفواصل الكسربة لها أهمية كبيرة، وقد ينتج عنها أخطاء حسابية هائلة على المدى البعيد_ وانطلاقاً من هذه الفكرة، صرّح لورينتز أنه من المستحيل التنبؤ بحالة الطقس تنبؤاً صحيحاً مئة في المئة. وقاده هذا الكشف الهام إلى اكتشاف ظواهر أخرى يمكن اعتبارها بأنها ذات مظاهر شواشية.
بدأ لورينتز بالبحث عن أبسط نموذج يتضمن حالة الحساسية المفرطة التي تؤثر في الشروط الأولية. وكان اكتشافه الأول عبارة عن نموذج يحتوي اثني عشرة معادلة، ولكنه كان يريد صيغة أكثر بساطة، وتمتلك في نفس الوقت ميزة الحساسية المفرطة التي تؤثر في الشروط الأولية. أخذ لورينتز المعادلات التي تصف حركة الحرارة في الجو وفي السوائل، ثمّ جرّدها محوّلاً إياها إلى معادلات في غاية البساطة، فأصبح النموذج خالياً تماماً من العوامل المتعلقة بحركة الحرارة في الهواء وفي السوائل. ولكنه _أي النموذج_ ظل محكوماً بحالة الحساسية المفرطة التي تؤثر في الشروط الأولية، وبقيت في النهاية ثلاث معادلات في حيّز العمل. وقد اكتُشف لاحقاً أن هذه المعادلات الثلاثة تصف حركة دولاب الماء.
(( في أعلى العجلة، إن قطرات الماء تقطر بشكل ثابت ضمن المستوعبات وهي معلّقة على حافة العجلة، وكل مستوعب يقطر ماءً بشكل ثابت من خلال ثقب صغير. وإذا كان جريان الماء بطيئاً، فالمستوعبات العليا لن تمتلئ بالماء بالسرعة الكافية للتغلب على الاحتكاك. أما إذا كان جريان الماء سريعاً، فالوزن المتزايد يبدأ بتحريك العجلة، وبذلك يصبح الدوران استمرارياُ. ولكن إذا كان جريان الماء سريعاً جداً بحيث يجعل المستوعبات الثقيلة تتأرجح بتذبذب ما بين أسفل وأعلى، فهذا من شأنه أن يجعل العجلة تتباطأ، ثم تتوقف، بل قد تعكس دورانها أيضاً.)) [الشواش: صناعة علم جديد، جيمس غليك، ص92].
يبدو أن المعادلات التي تصف هذا النموذج تفسح المجال لبروز مظاهر سلوك عشوائي، وعندما قام لورينتز برسم هذه المعادلات على شكل خطوط بيانية، حدث أمر مفاجئ. بقيت النتائج المستخرجة منحنية، أي أنها ظلت عبارة عن قمة منحنية. وكان هناك نوعين من الحالات المنتظمة والمعروفة بشكل واضح:
1- حالة الثبات: حيث أن قيم المتحولات لا تتغير أبداً.
2- السلوك المتعاقب: حيث أن الأنظمة تدخل ضمن حلقة مفرغة، مكررة نفسها باستمرار إلى ما لا نهاية.
كانت معادلات لورينتز منتظمة بشكل كامل _كانت عبارة عن تتابع على شكل قمم_ ولم تستقر عند نقطة معينة، وبما أنها لم تَعُد تكرر الفعل ذاته، فهي بذلك لم تعد متعاقبة ودورية أيضاً. وقد أطلق لورينتز على هذه الصورة التي حصل عليها عند رسم المعادلات الرياضية بشكل بياني ((بجواذب لورينتز Lorentz s Attractors)).
نشر لورينتز في العام 1963 ورقة بحث يصف فيها ما اكتشفه بالضبط. وقد ضمّنها مشكلة عدم قابلية التنبؤ بحالة الطقس، وكان قد ناقش فيها كافة أنواع المعادلات التي كانت سبب هذا الشكل من السلوك الغريب. ولسوء الحظ، فالمجلة الوحيدة التي كان بإمكانه نشر عمله فيها هي مجلة خاصة بالأرصاد الجوية، وذلك لأنه كان عالماً بالأرصاد الجوية، وليس رياضياً أو فيزيائياً. ونتيجة لذلك، فاكتشافات لورينتز لم يتم الاعتراف بها إلا بعد مضيّ سنوات كثيرة عليها، أي حين تمّ اكتشافها من قبل علماء آخرين. كان لورينتز قد اكتشف شيئاً ثورياً، والآن عليه أن ينتظر بعض الوقت ليتم اكتشافه هو شخصياً.
..............................
هناك نموذج آخر يعطينا مثالاً بيّناً عن حالة الحساسية المفرطة المعتمدة على الشروط الأولية، وهي حالة رمي قطعة نقد في الهواء. فنكون بذلك أمام نوعين من المتحولات _يمكن أن ندعوها بالاحتمالات_ أثناء تقلّب قطعة النقد في الهواء، وهي كما يلي:
1- الزمن الذي تستغرقه قطعة النقد للوصول والارتطام على الأرض.
2- سرعة تقلّب قطعة النقد في الهواء.
نظرياّ، قد يكون مكناً التحكم في كمية هذه التحولات والاحتمالات _يمكننا أن نعدّ كل تقلب تفعله قطعة النقد وهي معلقة في الهواء مؤلف من احتمالين. أما تقلبان لقطعة النقد نعتبرها أربعة احتمالات، وثلاثة تقلبات تعدّ ستة احتمالات وهكذا، فتخيل عدد الاحتمالات التي تتراكم كلما تقلبت قطعة النقد في الهواء_ والكيفية التي ستنتهي عليها قطعة النقد على الأرض. ولكن،عملياً، فمن المستحيل التحكم بشكل تام في سرعة تقلّب قطعة النقد، والارتفاع الذي ستبلغه في الهواء.
الحقيقة هي أننا لا يمكننا أن نتحكم في كمية التحولات والاحتمالات إلا في مدى معين، وقصير نسبياً. ولكننا لن نتمكن أبداً أن نسيطر على الحركة العشوائية لحركة النقد، وتوقّع مكان وجهها النهائي حين تستقرّ على الأرض.
...............................
على كل حال، عند الفحص القريب والدقيق، يصبح من الممكن رؤية القطع البيضاء، وهذه القطع هي أشبه ما تكون بقطع لوحة الفسيفساء، وعند النظر بشكل أكثر قرباً إلى هذه القطع ستفتح أمامنا نافذة نرى من خلالها أشكال معينة من النظام والرتابة، حيث تتجاوز المعادلة التفرعات والانقسامات البيانية، ولكنها ما تلبث أن تعود إلى حالة الفوضى حين تبدأ العمل من جديد ضمن نطاقات أكثر انخفاضاً من النطاق السابق.
يطلق علماء الرياضيات والفيزياء على هذه الحالة اسم التماثل الذاتي Self Similarity _أي أن التشعبات والتفرعات العشوائية الدقيقة كانت تنسخ دائماً نفسها ضمن مجالات أدق وأصغر عميقاً في قلب البنية _ وقد أصبحت من المفاهيم الأساسية والهامة جداً في علم الشواش.
بينويت ماندلبروت Benoit Mandelbrot ، موظف عادي في شركة IBM للحواسب الإلكترونية. ولكنه كان رياضياً في الوقت نفسه، وكان يدرس حالة التماثل الذاتي المذكورة آنفاً.
كان تقلب أسعار القطن إحدى المجالات التي كان يدرسها ماندلبروت. وبغض النظر عن الطريقة التي تم من خلالها تحليل تغير أسعار محصول القطن، فالنتائج لم تتطابق مع التوزيع الطبيعي. وقد حصل ماندلبروت على كافة البيانات المتاحة عن أسعار القطن، بدئاً من العام 1900.
وعندما قام بتحليل البيانات في حواسيب الشركة، لاحظ حقيقة مفاجئة، ولكنها مدهشة أيضاً ((إن الأرقام التي جاءت مغايرة للاعتقاد العام للتوزيع الطبيعي جلبت معها تناظراً معيناً....)) [الشواش: صناعة علم جديد، جيمس غليك، ص86].
لم يكتف ماندلبروت بتحليل أسعار القطن فقط، بل درس أيضاً عدة ظواهر أخرى بشكل دقيق. وفي إحدى الحالات تسائل ماندلبروت عن شكل خط الساحل على الخريطة، فإذا تأملنا خط الساحل على خريطة ما لاستطعنا تمييز عدة خلجان ورؤوس. وعند قياس طول الخط على الخريطة فإننا نفقد العديد من الخلجان الدقيقة التي هم من الصغر لدرجة لا نستطيع أن نميزها على الخريطة. ومهما حاولنا تكبير الخريطة نلاحظ بروز العديد من الدقائق الصغيرة التي تبرز، وسنلاحظ ظهور العديد من الخلجان كلما ضخمنا صورة الخريطة، وستبقى الفروق بالظهور حتى ولو كانت بمقدار حبات الرمال.
..............................
هيلغ فون كوخ Helge von Koch هو أحد الرياضيين الألمان. كان كوخ قد تصور فكرة التشعبات الدقيقة في عالم البنى الرياضية التي أطلق عليها فيما بعد اسم تشعيبات كوخ Koch curve.

لتصور ما يمكن أن تكون عليه تشعبات كوخ، تخيل مثلث متساوي الأضلاع. وفي منتصف كل ضلع هناك مثلث متساوي الأضلاع آخر، وإذا واصلنا إضافة مثلثات إلى منتصف أضلاع المثلثات السابقة سينتج لدينا تشعبات في محيط الشكل الذي شكّلناه، تدعى هذه التشعبات بتشعيبات كوخ. وعند النظر عن قرب إلى هذه التشعبات يتبين لنا أنها مشابهة جداً للتشعبات الأصلية في النموذج الأساسي، وهذه صورة أخرى من صور التماثل الذاتي.
مع تشعبات كوخ تبرز مفارقة مثيرة للجدل، فكل مرة يضاف فيها مثلث متساوي الأضلاع إلى الشكل، يزداد طول الخط الذي يكوّن بدوره محيط الشكل. في حين أن منطقة التفرعات الداخلية تبقى أقل من مساحة محيط المثلث الأصلي. عموماً، فإن هذا الأمر عبارة عن طول خط غير محدود ولا نهائي يحيط بمكان محدود ومتناهي.
هناك حل لهذه المفارقة، حيث اخترع العلماء ما يسمى بالأبعاد الكسرية الدقيقة Fractal Dimensions، وكلمة كسرية جاءت من اللفظة كسري Fractional، لذلك فإن الأبعاد الكسرية الدقيقة لتشعبات كوخ تبلغ من الطول حوالي 1,26.
من المستحل تصور شكل الأبعاد الكسرية الدقيقة، ولكنها مسألة منطقية تماماً. وتبين الحسابات أن تشعيبات كوخ هي أقسى من الخط أو الفرع الناعم أحادي البعد. وبما أن تشعبات كوخ أقسى وأكثر تعرّجاً وتكسّراً، فإنها أفضل من حيث البنية والتشكيل لتوفير المساحة في الفراغ _لنتذكر أشكال خلايا النحل Bee Hives السداسية وعملية تلاصقها مع بعضها البعض، حيث أن كل ضلع من المسدس يشترك مع ضلع آخر ويتلاصق به مما لا يترك أي مجال لوجود الفراغات بين الخلايا السداسية، وتعدّ هذه الظاهرة من أحد الظواهر العجيبة في عالم النحل_ وعلى كل حال، لن تكون جودة هذا بمقدار جودة مربع ذو بعدين لملء الفراغ، لذلك من المنطقي تصور أن أبعاد تشعيبات كوخ تكمن بين بعدين اثنين.
..............................
جاء مصطلح (الكسري / المتكسّر) Fractal للتعبير عن أية صورة تحمل ميزة التماثل الذاتي. فالرسوم البيانية لمعادلة النمو الحضاري هي ذات طابع كسري. وجواذب لورينتز كسرية أيضاً، وتفرعات كوخ هي الأخرى كسرية.
فيما مضى، وجد العلماء صعوبة بالغة في نشر أي عمل عن الشواش. حيث أنهم لم يكونوا قد تعرفوا بعد عن الأوضاع التي تصف توافقية العالم الحقيقي، فلم يكن أغلب العلماء يعتقدون بأن النتائج التي حصلوا عليها أثناء تجاربهم على الشواش هي ذات قيمة. ونتيجة لذلك، وبالرغم من أن الشواش هو ظاهرة رياضية في الأساس، فإن معظم الأبحاث والدراسات التي جرت في مجال الشواش تمت على أيدي علماء هم من مجالات أخرى وبعيدين عن مجال الرياضيات تماماً، مجالات مثل الأرصاد الجوية والإيكولوجيا. وقد نشأ بعد ذلك علم دراسة الشواش كهواية يمارسها العلماء حين يعملون على حل مشكلات ربما يستفيدون منها لاحقاً.
بعد ذلك كان عالم آخر يدعى فيغينبوم Feigenbaum يدقق في مسألة التضاعف والتشعب مرةً أخرى. وكان يراقب سرعتها، حيث استنتج أنها تأتي من جذر واحد ثابت. وقد أجرى حساباته فحصل على النتيجة 4,669. بمعنى آخر، لقد اكتشف فيغينبوم المقدار الحقيقي والدقيق لذلك الذي كان يدعى بالتماثل الذاتي. الآن، حاول أن تجعل صورة التضاعف أصغر من المقدار 4,669 فستجد أنها أصبحت ضمن نطاقات أخرى أصغر من التشعبات.
فيما بعد قرر فيغينبوم أن يبحث عن معادلات أرى ليرى إذا كان من الممكن أن يحصل على قيمة ذات طابع حتمي لهذا المقدار. فوجد ما أدهشه تماماً، كانت المقادير هي ذاتها تماماً. ولم تكن هذه المعادلة الوحيدة التي تستعرض الرتابة والانتظام، بل هذا الانتظام كان هو ذاته في كل المعادلات الأبسط ولا يتغير فيها مقدار شعرة واحدة. كان قد جرّب العديد من المعادلات الأخرى، ولكن النتيجة بقيت واحدة وهي 4,669.
كان هذا اكتشافاً ثورياً. فقد لاحظ أن صفاً كاملاً من المعادلات الرياضية تتصرّف بنفس الطريقة، طريقة قابلة للتوقع.
كان هذا التعميم سيساعد العديد من العلماء الآخرين في تحليل المعادلات الشواشية بطريقة أسهل. وقد أعطى هذا التعميم Universality العلماء الأداة الرئيسية لتحليل النماذج الشواشية. والآن بات بإمكانهم استخدام معادلات بسيطة لتوقع نتائج معادلات أخرى أعقد منها
كان العديد من العلماء يقومون باكتشاف معادلات ينتج عنها معادلات كسرية fractal Equations وأشهر صورة كسرية تشعبية هي في نفس الوقت الأبسط على الإطلاق، وقد عرفت فيما بعد بشكل أو هيئة ماندلبروت The Mandelbrot s Set.


إن شكل ماندلبروت هو القطاع الداخلي الباطن في الصورة. وكل ظل مختلف من الغباش يمثل مدى البعد الذي تبلغه تلك النقطة. إن أحد الميزات المثيرة التي تكمن في شكل ماندلبروت هي أن كافة الحدبات المستديرة تتطابق مع منحنى التضاعف. كما أن تشعيبات ماندلبروت لها خاصية التماثل الذاتي والتي تظهر في بقية المعادلات. في الحقيقة، إن التضخيم الكافي لصورة تشعيبات ماندلبروت سوف يكشف عن نسخة مطابقة تماماً للشكل، كما أنها تتصف بالكمال التام في كل تفصيل.
.............................
لقد تمت مشاهدة البنى الكسرية في العديد من ظواهر العالم، وبشكل أدق في عقول الرياضيين، تشعب الأوعية الدموية، فروع الأشجار، البنية الداخلية لجدران الرئة، الخطوط البيانية على لوحة بيانات البورصة، والعديد من الأنظمة الواقعية في عالمنا المضطرب، وجميعها لها قاسم فيما بينها: أنها كلها متماثلة ذاتياً.
وجد العلماء في مركز سانتا كروز أن الشواش يظهر لنا إذا راقبنا تساقط قطرات الماء من الصنبور. وبعد تسجيل التساقط خلال فترة زمنية معينة، ثم تسجيل هذه الفترة، اكتشفوا أنه من خلال سرعة معينة للتساقط وخلال مدة زمنية معينة، لا يتطابق التساقط بدقة مع سرعات أخرى في أوقات أخرى. وعندما عملوا على رسم النتائج التي حصلوا عليها من الدراسة بشكل بياني، وجدوا أن التساقط أيضاً يتّخذ له نموذجاً عشوائياً معيناً.
القلب البشري أيضاً له نموذج شواشي، فالمدة الزمنية التي تقبع بين نبضة وأخرى لا يمكن أن تكون ثابتة ومتساوية، بل هي تعتمد على عامل الحيوية، أي على مدى النشاط الذي يبذله الشخص. وفي ظروف خاصة، يمكن لضربات القلب أن تتسارع، وفي ظروف أخرى سيكون هنالك اضطراب في ضربات القلب، ويطلق في بعض الأحيان على هذه الحالات: النبض الشواشي لضربات القلب Chaotic Heartbeats. وفي الطب الحديث فإن مسبار القلب الكهربائي يمكن أن يساعد الأطباء والمسعفين لإعادة ضربات القلب العشوائية والمضطربة إلى حالتها الطبيعية والمستقرة، بدلاً من الفوضى الجامحة.
اكتشف الباحثون شكلاً بسيطاً مكوّناً من ثلاث معادلات تصوّر توزّع الأوراق على نبتة الخنشار. وقد أشعلت هذه الحالة فتيل فكرة جديدة في مجال الهندسة الوراثية تقول: ربما تكون شيفرة الدنا DNA الصيغة التي تحكم توزّع أوراق الخنشار على العود، وليس المكان الذي يجب أن تنبت فيه الأوراق. كما أن الحمض النووي الريبي المنقوص الأكسجين الذي يتضمّن كميات هائلة من البيانات الوراثية، قد لا تحتوي على تلك البيانات الضرورية التي تقرّر مكان توضّع كل خلية جسمية في جسد الإنسان. وباستخدام الصيغ الكسرية لتوضيح كيفية تفرّع وتشعّب الأوعية الدموية، وتكوين الألياف العصبية، فالدنا تحتوي على معلومات ضخمة وفائضة عن الحاجة. وقد اعتُقِدَ سابقاً أن بنية الدماغ كانت قد تأسست طبقاً لقوانين الشواش Laws of Chaos.
وللشواش استخدامات وفوائد أخرى خارج نطاق العلم. فالفنون الإلكترونية المطبّقة عن طريق الحاسوب باتت أكثر واقعية وجمالاً من خلال استخدامات الشواش والبنى الكسرية. والآن، يمكن للحاسوب أن يخلق نموذجاً للشجرة بالغة الواقعية والجمال باستخدام صيغ كسرية بسيطة. فبدلاً من استخدام نموذج عادي، يمكن أن يكون لحاء الشجرة أكثر واقعية باستخدام تشكيلة معينة تعمل على تكرار ذاتها في حلقة مستمرة.
وللموسيقى أيضاً حصة في علم الشواش، حيث أنه يمكن خلق بنى العديد من الأنغام الموسيقية باستخدام البنى الكسرية، وجواذب لورينتز.
ديانا دابي Diana S Dabby طالبة خرّيجة من معهد ماساتشوستس للهندسة الكهربائية، كانت قد توصّلت إلى أنواع متغيرات عديدة من الألحان الموسيقية.وقد دوّت أصداء هذا الاكتشاف في مجلة "أخبار العلم Science News" ضمن مقالة تحت عنوان: "من باخ إلى الشواش: متغيرات شواشية تطبّق على الموسيقى الكلاسيكية" [Bach to Chaos: Chaotic variations on a classical themes", Science news magazine, Dec. 24,1994]. فمن خلال دمج أنماط موسيقية معينة مأخوذة من سيمفونية مثل (مقدمة باخ) ثمّ ربطها بمعاملات ومتغيرات شواشية وصيغ رياضية لجواذب لورينتز، ثم تشغيل البرنامج الإلكتروني، فقد خلقت ذات الأنغام والألحان الأصلية لهذه الأغنية. وقد أكّد العديد من الموسيقيين الذين سمعوا هذه الألحان الجديدة بأنها نغمات موسيقية جميلة وخلاّقة. ولا يجب أن ننسى أنّ من استخدامات الشواش والمتغيرات وجواذب لورينتز في مجال الموسيقي ولدت موسيقي التكنو الجميلة التي تستخدم أنغام كهربائية شواشية دمجت مع الأغنية.
..............................
أخيراً، سرعان ما صار للشواش تأثير كبير ودائم على كافة مجالات العلم، وقد بقي هناك العديد من الاكتشافات التي ما زالت تنتظر أحداً ليكتشفها. ويعتقد الكثير من العلماء أن العلم في القرن الحادي والعشرين سيعرف ثلاث نظريات عظمى فقط: النظرية النسبية، الميكانيك الكمومي، ونظرية الشواش.
كما أن مظاهر وأشكال الشواش تظهر حولنا في جميع قطاعات عالمنا الذي نشكل جزءاً لا يتجزأ منه... من حركة تيارات المحيطات وجريان الدم في عروقنا المتشعبة بشكل عشوائي في أجسادنا، إلى فروع الأشجار وتأثيرات الاضطراب والهيجان.
بات الشواش الآن جزءاً مهمّاً من العلم الحديث. وبتطور الشواش من نظرية علمية صغيرة لم يكد يعرفها أحد، إلى علم كامل وقائم بذاته، فقد قوبل بإقبال عام وكبير. وقد غيّرت نظرية الشواش شكل ومسار العلم بشكل حادّ.
وبات من المعروف الآن أن الفيزياء لم تعد هي دراسة الجسيمات تحت الذرية في المسرّعات الجريئية التي تبلغ قيمتها المليارات الدولارات، بل هي أيضاً دراسة النماذج الشواشية وكيفية عملها.

انتهت...



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سيكولوجية الخضوع 2
- سيكولوجية الخضوع والطاعة (1/2)


المزيد.....




- -عليّ التوقف للحظة-.. شاهد مذيع أرصاد جوية يتعرض لنوبة هلع ب ...
- الكويت.. تداول فيديو لمواطن مصري يجمع تبرعات دون إذن ووزارة ...
- 28 شخصًا تركوا دون مأوى.. الجرافات الإسرائيلية تواصل هدم الم ...
- الصحة المصرية تكشف حقيقة تأجير 50 مستشفى حكوميا لشركة قطرية ...
- روسيا تطور مركبة جديدة لإطلاق وحدات محطة (ROS) المدارية
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي لجنوب غزة
- نجم هندي خلف القضبان بسبب -وجبة محرمة- (فيديو)
- فرنسا: مقتل طياريْن إثر اصطدام مقاتلتين من طراز -رافال- شرق ...
- كيف بدأ اليأس يتسلل إلى اللوبي المؤيد لإسرائيل في أميركا؟
- حان الوقت لإسكات البنادق.. انطلاق محادثات جنيف بشأن السودان ...


المزيد.....

- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - إبراهيم جركس - الشواش: العلم الجديد