أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - مصطفى لمودن - من ذكريات المسيرة الخضراء(المغرب)















المزيد.....

من ذكريات المسيرة الخضراء(المغرب)


مصطفى لمودن

الحوار المتمدن-العدد: 2822 - 2009 / 11 / 7 - 15:17
المحور: الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني
    


تعود الأحداث إلى 34 سنة خلت، كأنها البارحة لمن عايشها، وكأنها تاريخ سحيق لمن سمع بها.
أحكي عن تجربة عشتها مفعمة بالأمل والخوف والحنين والقلق، كنت في المدرسة الابتدائية ذات زمن خريفي غير مضطرب عندما فاجأنا الأب مساء بقوله أنه سيذهب إلى المسيرة، لم أستوعب معنى قوله بما يكفي، قال أن مكتبا فتح بمقر إحدى إدارات السلطة، فهرع المئات للتسجيل بتلقائية، لكن السلطات قيدت العدد التي تريد وأغلقت بعدها، رغم تزايد الطلبات من أجل ذلك، حتى النساء سيشاركن، سيمثلن 10% من كل مجموعة! وقع هذا في منتصف السبعينيات، كنا نصغي باهتمام نحن الصغار لأحاديث الكبار وقد تفتحت أذهاننا إلى مزيد من المعلومات، عندما كان شغل الناس اليومي هو الحديث عن أخبار المسيرة؛ مما كان يقال أن رقم 350 ألف مشارك ومشاركة في المسيرة لم يختر اعتباطا، فحتى لو تعرض المشاركون جميعا للهلاك عن طريق تدخل متهور للجيش الإسباني المحتل للصحراء، فهذا الرقم في نفس الوقت هو العدد الذي كان يضاف كل سنة من الولادات الجديدة! ما يصطلح عليه في الديموغرافية بالزيادة السكانية السنوية حينذاك... لم أتصور أن يكون المشاركون والمشاركات في المسيرة هم فقط رقم اعتباطي أو له معنى معين ومن ضمنهم والدي معيل أسرة متواضعة، ذهب إلى الصحراء على بعد مئات الكيلومترات وكله حماس، غير أنه لم يترك لأسرته غير قوت أيام معدودات.
لم نكن نحن الأطفال الصغار غفلا غير مكترثين، كان لنا إلمام ببعض شؤون السياسة وأخبار الوطن وحتى العلاقات الدولية ونحن في أقسام الابتدائي، كان أساس تناقل المعلومة والخبر هو المذياع، لم يكن دائما الاعتماد على إذاعة الرباط هو المعول عليه، بل إذاعات أخرى يختلي البعض إليها ليستمع وبعدها يحكي للآخرين، طبعا همسا وبعد التأكد من هوية الحاضرين، كانت أذني تلتقط باستمرار وعبر مختلف أحاديث الناس كلاما عن الوطن ومشاكله، وعن فلسطين وحروب أمريكا ووصول الإنسان إلى القمر، وتسابق العظماء لامتلاك أفتك الأسلحة (النووي منها وغيره)، وقمم دول العالم العربي والدول الإسلامية التي لا ينتج عنها شيء مفيد، باختصار كان المجتمع مهتما بمختلف القضايا رغم انتشار الأمية والفقر، لكن لم يتم تحويل شحناتهم إلى تشكيل تنظيمات أو مطالب، لأنه ببساطة كانت المراقبة قوية وفي كل مكان، وأدنى تحرك تتم معاقبته، ولو تأخر بسيط عن أداء ديون القرض الفلاحي الذي كان يثقل كاهل الفلاحين الفقراء (ربما عمدا) يتطلب تحرك قوة عمومية لإلقاء القبض على المقترضين أو أحد أقاربهم.
في هذه الأجواء المشحونة أعلن عن خبر فاجأ الجميع، وهو أن الملك الحسن الثاني يخطب في العاشر من أكتوبر عن تنظيم المسيرة نحو الصحراء لإحياء الرحم واسترجاع جزء من الوطن، الحسن الثاني بقوته التي لا تقهر يطلب من شعبه المشاركة في أمر جلل! هذا معطى جديد، وفعلا لقد كان كذلك، المسيرة الخضراء تؤرخ لنهاية مرحلة اتسمت بالتوتر مع من تبقى من الحركة الوطنية التي شاركت في مسيرة التحرر الصعبة والطويلة ومع الحسن الثاني من جهة ثانية، وهو الذي كان قد ضم إليه كل السلطات والصلاحيات رغم بعض الفترات القصيرة التي كان يشكل فيها برلمان، لكن غالبا ما يغلق بعد ذلك، ومع استمرار جرائد تعبر عن وجهة نظر المعارضة وهي تذكر باستمرار عن تواجدها ورفعها مطالب التحديث والديمقراطية، ظهر أنه ليس هناك غالب أو مغلوب في لعبة الصراع من اجل السلطة، رغم كل الأساليب التي انتهجت من كلا الطرفين من أجل اجتثاث الخصم ولو بالقوة.
غادرنا أبي كما كان يغادرنا دائما لشهور من أجل العمل في بقعة من بقاع الوطن نحن لا نعرفها وربما نسمع عنها لمرة واحدة ثم ننساها، لكن مغادرته هذه المرة ليست كسابقاتها، إنها نحو المجهول، لكن تحت رعاية المخزن الذي كنا نعتقد أن قوته لا حدود لها.
كان المذياع مخبرنا الوحيد بما يقع، تفرّغ راديو الرباط للمسيرة، كل برامجه عن السيرة، كل العاملين بالإذاعة الوطنية والإذاعات الجهوية تفرقوا في ربوع المغرب، ربورتاجات تقدم من مختلف الأقاليم عن تحركات الحشود، أمام قوة المخزن/السلطة الكل أصبح في خدمة المسيرة، فالقضية تهم الوطن، كل الشاحنات رهن الإشارة، لقد تنقل أغلب المشاركين عبر شاحنات مكشوفة، وبعضهم في القطارات، حتى عربات نقل السلع استخدمت، هذا عرفناه بعد ذلك من أحاديث المشاركين، ومن تسجيلات التلفزة في السنوات اللاحقة، كان الأمر خرافيا وعظيما وله حمولة قوية لن يقدّرها إلا من عاش اللحظة، إلى درجة أن هناك من سمى وليدا له مسير أو مسيرة! ممثلو شعب بكامله من مختلف المناطق يقومون برحلة إلى الصحراء المستعمرة، لا أحد يعرف ما سيقع، هل سيقصفهم الجيش الاسباني؟ هل ستشتتهم إلى أشلاء قنابل مدفونة في الرمل؟ لا أحد كان يعرف جوابا، ربما وحده الحسن الثاني وقلة من مساعديه من رتب بعض الأمور، فهناك بداية انتقال للسلطة في اسبانيا في ظروف صعبة ورحيل رجل قوي اسمه فرانكو وسم تاريخا بكامله عبر عنفه وجبروته، هناك حكم في صالح المغرب صادر عن محكمة لاهاي يقول بوجود رابطة بين المغرب والصحراء، وهناك دعم للحلفاء منه الظاهر ومنه الخفي الذي لا تعلمه غير كواليس السياسة والعلاقات الدولية التي كان الحسن الثاني يعرف كيف يحرك خيوطها مستغلا تضارب المصالح في زمن الحرب الباردة، وهناك جيش مغربي كان يراقب عن قرب لكن لا يتم الحديث عن ذلك... إنها سابقة لا يشبهها غير مسيرة ماوتسي تونغ مع رفاقه في الصين، ومن حيث الفكرة والتمثيلية الشعبية مع ما وقع أثناء بناء طريق الوحدة غداة الاستقلال، فالشعوب على أهبة التضحية، لكنها تنتظر محركا من أجل قضية سامية.
وكما كان الإعلان عن المسيرة مفاجئا، كان الأمر بتوقفها بعدما قطعت الحدود قرب طرفاية لتعود أدراجها، لقد حققت أهدافها يقول الحسن الثاني في خطاب له من أكادير هذه المرة، سمعت الخطاب مباشرة على الراديو، فعرفت أن أبي سيعود إلينا من جديد، الأمر ما فيه شك، فكم من مرة سافر وعاد بعد ذلك.
علمنا بالوقت الذي ستعود فيه المجموعة التي ضمنها الوالد، وبينما الشاحنات تعود بعد سفر طويل محملة بالمتطوعين وهي التسمية التي أطلقت على من شارك في المسيرة، أمرني مدرسي في الابتدائي بأن أغادر حجرة الدرس كي أستقبل أبي، نسمع عبر النوافذ الأهازيج التلقائية التي ترددها النسوة احتفاء بعودة المشاركين/المتطوعين... هرولت بسرعة إلى جانب الطريق حيث هناك تجمع من المرحبين والمستقبلين، هناك من لا ينتظر أي أحد من أفراد أسرته، ولكنه متواجد هناك، كأنه لا يريد تضييع هذه اللحظة التاريخية.
عن بعد أرى الشاحنة تنزل بعض العائدين، ومن المفترض أن يكون ضمنها أبي، أقترب بسرعة وأنا أجري، لكن غادرت الشاحنة المكان لتستمر في رحلتها إلى قرى أخرى. لم أعرف ما وقع، لم يحدثني أحد ولم استفسر أحدا، أكملت مشيي على مهل ومحفظتي على ظهري، رأسي متدل بين كتفي الصغيرين، قلت لأمي أبي لم يصل، لم ترد، ربما هي أدرى بكل الاحتمالات التي دارت بسرعة في رأسها، لكنها لم تشأ إخباري بها.
خرجت أنظر إلى الأفق وإلى السماء وإذا بي أرى الوالد قادما بين حقول مقلوبة تنتظر استقبال بذور جديدة ونزول أمطار تأخرت قليلا، رأيت الوالد يسير بخطى حديثة، لم أره مستعجلا كهذه المرة، يحمل على كتفه حقيبة مملوءة، تساءلت عما يكون فيها؟ هل هناك هدايا لنا؟ هل بها ملابس؟ ونحن كنا نعد قطعنا القليلة مما يتوفر لنا منها طول العام.
حل أعمامي وأبناؤهم لتحية أبي الذي كان يكبرهم جميعا، لم انتظر كثيرا لمعرفة ما في الحقيبة، قطع مكسرة من السكر، حبات تمر... في الصباح لم استسغ الشاي الذي أعدته الوالدة قبل ذهابي إلى المدرسة، ولما عدت مساء فتشت في الأمر، فوجدت أن حبات السكر مختلطة بأجزاء يابسة من الخبز يطلق خميرته في الماء الساخن فيجعل الشاي غير مستساغ، نسيت إضافة أخرى، لقد حمل أبي معه بعد عودته من المسيرة مصحفا أخضر من ستة أحزاب، وقنينة بلاستيكية تسع للترين من الماء لها علاقة كي توضع على الكتف... وبعد سنوات من ذلك رحل الوالد في ظروف غامضة ليخلف لنا وساما نحاسيا نعتز به، وليترك وراءه أطفالا صغارا ذاقوا مرارة التشرد.





#مصطفى_لمودن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هدر مدرسي يساوي خسارة أمة(المغرب)
- حركية دولية للتضامن مع بنصميم(المغرب)
- الخادمات بالقناة الثانية المغربية
- تجمع المدونين المغاربة يعقد ندوة ويصدر بيانا
- المخيمات الصيفية بالمغرب: ضعف التأطير وقلة الإمكانيات.
- تجمع المدونين المغاربة من أجل ترسيخ تدوين فاعل
- أي دور للصحافة المغربية؟؟
- أطفال لا يخيمون بالمغرب
- إصدار الحكم في حق المتابعين في قضية بنصميم بالمغرب
- رهانات الانتخابات الجماعية ل 12 يونيو 2009 في المغرب
- حزب الهمة يتحول إلى المعارضة، انتفاضة أم زوبعة في فنجان؟(الم ...
- رسالة إلى مترشح(ة) في الانتخابات المحلية بالمغرب
- الأزمة المالية العالمية وتأثيراتها على الاقتصاد المغربي من خ ...
- صحفي يهزأ من مدرس الفلسفة(المغرب)
- -المساء- تفتي بالتعزيز والضرب الشديد والحبس في حق من لا يصوم ...
- المغرب والفرص الضائعة.
- كتابة الهمزة المتوسطة، الصعوبات والبدائل الممكنة(المغرب)
- الشعر في يومه العالمي حل بسيدي سليمان وقد حط رحاله لدى -زينب ...
- الكوارث بالمغرب تذكير بمخاطر تهدده
- نكبة الفيضانات بغرب المغرب:قافلة حقوقية تقف على حجم المأساة


المزيد.....




- -عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
- خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
- الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
- 71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل ...
- 20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ ...
- الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على ...
- الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية ...
- روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر ...
- هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
- عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز ...


المزيد.....

- علاقة السيد - التابع مع الغرب / مازن كم الماز
- روايات ما بعد الاستعمار وشتات جزر الكاريبي/ جزر الهند الغربي ... / أشرف إبراهيم زيدان
- روايات المهاجرين من جنوب آسيا إلي انجلترا في زمن ما بعد الاس ... / أشرف إبراهيم زيدان
- انتفاضة أفريل 1938 في تونس ضدّ الاحتلال الفرنسي / فاروق الصيّاحي
- بين التحرر من الاستعمار والتحرر من الاستبداد. بحث في المصطلح / محمد علي مقلد
- حرب التحرير في البانيا / محمد شيخو
- التدخل الأوربي بإفريقيا جنوب الصحراء / خالد الكزولي
- عن حدتو واليسار والحركة الوطنية بمصر / أحمد القصير
- الأممية الثانية و المستعمرات .هنري لوزراي ترجمة معز الراجحي / معز الراجحي
- البلشفية وقضايا الثورة الصينية / ستالين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الإستعمار وتجارب التحرّر الوطني - مصطفى لمودن - من ذكريات المسيرة الخضراء(المغرب)