هيبت بافي حلبجة
الحوار المتمدن-العدد: 2821 - 2009 / 11 / 6 - 21:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
من أقوى العوامل التي تعارض التوازن البيئي والتوازن الجسمي هي ، أولاً : تغير بنية الطبيعة ذاتها والجسم الإنساني ذاته ، فلاأحد يرتاب من المناطقة والعلماء ، وحسب الديانات السماوية ، إن الأرض الحالية تتباين إلى درجة كبيرة ، في ظروفها ، في عواملها ، في محيطها ، في تفاعلاتها ، في حالاتها ، في كيميائيتها ، عن تلك الأرض الأولية التي كانت المياه والضباب ، من أهم عناصرها ، من أعظم مكوناتها ، وتغطيها من كل حدب وصوب ، والكائنات والمخلوقات تسبح في لججها ، في ثناياها ، كما نسبح اليوم في الهواء الطلق دون أن نختنق ، أو أن ينتابنا الوجف والرجف . بل أعظم من ذلك ، لقد أنجبت تلك الوضعانية الكائنات البسيطة والدقيقة والمتعضدة واليخضورية التي ساهمت بدورها في تحديد أهم مقومات التوازن والحفاظ عليها ، وأحدثت كيفية ونوعية الديمومة فيما بينها ، كوحدة في الجوهر وليس إتحاد مابين المكونات . ثانياً : مفهوم تطور الكون . من أهم الإشكاليات لدى العلماء والفلاسفة هو إعتقادهم براهنية الكون والأرض ، وكأن قوانينها البدائية هي ذاتها الحالية ، وكأن المكون الأولي هو ذاته الحالي ، وكأن الموضوعي والذاتي الأوليان هما نفسهما الحاليان ، لذا غمطوا حق أكتشاف التفارق ما بين مراحل القديم والجديد في التوازن البيئي ، وفي التوازن الجسمي الإنساني . من هنا تحديداً ، نؤمن إيماناُ متكاملاً بفرضية نشوء وتطور الكون ، بنشوء وتطور القوانين الموضوعية ، دون أن نجرح ونعطب حقيقة أخرى ألا وهي ، في كل زمكان أنطولوجي يسعى التوازن البيئي والتوازن الجسمي إلى تحقيق الحد الأمثل والأقوى الممكن في الواقعي ، وهذا هو أحد أهم أسرار مفهوم البيئة والجسم ، الذي ينكشف ويكشف مفهوم الصحة في كليهما ، أي البيئة والجسم ، لإن صحة الجسم تابع رياضي لصحة البيئة والكون ، ولإن الجسم مكون عضوي من الكون . أي إذا كان الكون باتولوجياً ، فلامناص من باتولوجية الأرض والبيئة ، ولامندوحة من باتولوجية الجسم ، وبالتالي ينجم إختلال في توازن الكل والأجزاء والعناصر . ولكي نتمكن من وعي مصدر هذا الترابط ، أكدنا ونؤكد إن الكون في نشوئه وتطوره يؤوب إلى جثمانية الطاقة ، وإلى القوانين التي حكمت النشوء ، ثم القوانين الجديدة التي حكمت التطور ، وأخيراً القوانين التي مازالت . ثالثاً : سيطرة وتسلط وإستبدادية الإنسان على الطبيعة . من أعتى وأقسى العوامل التي ترهق الطبيعة ، ثم البيئة ، ثم الكون فالجسم ، وتذلها ، وتمتهنها ، وتمنعها من بلوغ المرحلة الفعلية للتوازن ، وبالتالي إضفاء المحتوى الأصلي له هو إستبداد الإنسان على الطبيعة . فبعد أن كان هذا المخلوق ، المكون إحدى أهم تجليات العلاقة في عملية وفحوى التوازن ، أمسى بحكم إنتصابه العمودي ، ومحتوى ماسمي فيما بعد بالتاريخ البشري ، إحدى أهم الإشكاليات التهديمية لجوهر التوازن ليغرس فيه مفهومه القسري اللامتجانس الغريب ، إذ أستباح حرمة بكارة التوازن ، ومزق رحم الطبيعة ، فهدم التأصيل الديناميكي والديالكتيكي لأبعاده . فنحت مجريات الحيثيات منحى إستلابياً ، إذ بدأت بإنحسار المياه بصورة سريعة للغاية ، ثم الشح في إنهمار الأمطار ، ثم تقلصت مجالات الأشجار والنباتات والاعشاب ، وانقرضت ( أو كادت أو أوشكت ) فصائل عدة من الحيوانات والطيور ، ثم إجتاح التصحر المناطق التي باتت معروفة ، وبرزت معضلة الإحتباس الحراري وإنكشاف طبقات الأوزون للأختراق ، وسيأتي مستقبل تشكو فيه أوربا من ضحالة هطول الأمطار وشح المياه ، ومن غزو التصحر ومن الأغذية اللاصحية . رابعاً : العلاقة ما بين الرأسمالية والطبيعة والجسم الإنساني . تحتسب الرأسمالية من أقذر مراحل التاريخ قاطبة ، بل هي القذارة نفسها على كافة الصعد ، لإنها لاتكترث وبحكم الضرورة في طبيعتها الشرسة اللاإنسانية وركضها وراء الربح السريع إلا بإرضاء نرجسيتها ، وكوجيتو الرأسمال ، لتسرطن جسد المجتمع ، جسد المرأة ، جسد البيئة ، جسد الطبيعة . فالرأسمال هو السيد المستبد ، القانون المطلق ، الحالة المقدسة ( نهاية التاريخ ونهاية الرجل الأخير ، فرانسيس فوكوياما ) ، لكنه ، في الفعل ، أساس أزمة مفهوم التاريخي ، لإنه ، مثلاُ ، وفي الوقت الذي يدعي فيه إنه يحمي المرأة من خلال مفهوم الليبرالية الديمقراطية ، يسترخص جسدها في البغاء والدعارة وتجارة الجنس ، وكذلك يقتل فينا النفس والجسد ، ويتاجر بكل ما هو في خانة المحرمات إنسانياً ، ومنطقياً ، وإجتماعياً ، وسماوياً ، بل أمست المخدرات جوهر القاعدة ، والقانون يسعى إلى الحفاظ على الحد الأدنى منه . خامساً : سيطرة الدخان على الجسم الإنساني والتوازن البيئي . من أهم الحيثيات في هذا المجال هو ، من جانب ، إن طبيعة الخلايا الجثمانية تمقت مادة الملح ، ومادة السكر ( رغم إن الغيلكولوز هو الناتج الأساسي في عملية ميتابوليسمية معقدة ) ، وتحبذ المادة المرة التي تنشط مقاومتها وتحافظ على توازنها الداخلي . ومن جانب آخر ، إن الكربون وثاني أوكسيده ، المادة الأساسية والنهائية في عملية الإحتراق( على حد قول العلامة مصطفى محمود الذي أرتحم في المدة الأخيرة ) ، هما من الزاوية الفلسفية ، ناهيك عن المفهوم العلمي ، يمثلان العامل السلبي التام لفاعليات الخلايا التي لاتفقد توازنها الداخلي فقط ، إنما ، وكإنما تخضع لإرادة لا تنفي وتلغي وظيفتها فقط ، إنما تحتم عليها وظيفة أو دوراً يميت إستمرارية الحياة في الجسم ، وهذا يكشف عمق الإشكالية في الطبلوجيا ، والفكر الطبي ، اللذان يركزان على الناحية الباتولوجية ، وعلى العلاقة مابين الحالة السوية والحالة اللاسوية ، في حين أنبغى إدراك جوهر مفهوم الديمومة في الخلايا ، وليس فقط البحث عن حالة التوازن فيها ، وهذا التمايز ، الذي من المفروض أن يكون وظيفة فلسفة الطب ، هو ما ندركه في التفاضل مابين الوقوع في المصيدة ثم الخروج منها ، وبين عدم الوقوع في المصيدة أصلاُ . وهنا تحديداً ، إذا أدركنا العلاقة ما بين الدخان والرأسمالية وأستبداد الإنسان على الطبيعة ، لأنكشف مدى توغل الرأسمالية في الخلية الإنسانية ، وسيطرتها على مقاومتها ، وهذا ما يوضح معضلة فقدان الفحولة نسبياً ودور الفياغرا الإيجابي ( كحالة مشخصة فردية ولمدة محدودة ) والسلبي ( كحالة التشكيلة الإقتصادية الرأسمالية ) . سادساً : مفهوم الجسم ( العلاقة مابين الجسد والنفس ) . بغض الطرف عن مفهوم الروح ( ويسألونك عن الروح .. الآية الكريمة ) فإن الجسم الإنساني هو توازن إستثنائي مابين الجسد والنفس ، وكما يتأثر الجسد بالظروف التي أمست معروفة هنا وهناك ، فإن النفس ، ومن خلال علاقتها بإشكالية مفهوم الوعي ، تعقل الجسد وتعقل ذاتها ، كما يعقلها الجسد ، لكن هذان العقالان يتجاوزان مفهوم المرئي الجامد ، فثمت الحب ، العشق ، العاطفة ، الحقد ، العقدة الدونية ، عقدة الغبن ، المصادرة الإنطولوجية ، مستوى الوعي ، أولويات الذهن ، فرضيات الواقع ، إشكالية الأعصاب ، أنواع الهرمونات ، دور المورثات ، فكل هذه المقولات ، وغيرها ، في مرحلة معينة من تاريخ البشرية والتشكيلة الإقتصادية ، تخضع لحيثيات تلك المرحلة ، لأنه تنتفي المقولات خارج التاريخ ، فما هو خارجه ، هو خارج التحليل ، يتساوى مع الإنعدام ، هكذا نرسم الخطوط البيانية للنفس ولدورها في وعي مفهوم التوازن ، لأننا نتحدث عن أنطولوجية النفس في كل مرحلة معينة ، ولانتحدث عن باتولوجية النفس بصورة مستقلة، لإن هذه الأخيرة لايمكن أن توجد بصورة مستقلة ، ولأنها لاتنفك عن تعقيدات التاريخ البشري في كل مرحلة من مراحل تطوره . سابعاً : مفهوم التسارع الخلوي . من أهم أسرار الطبيعة هو مفهوم النضج ، والذي أسميه بالنضج الإنطولوجي ، لإن كل موجودات الكون والجسم إن لم تبلغ درجة معينة من النضج ستولد نتائج غير محمودة ، وأي تدخل قسري ، كيميائي ، ستزيد من وخم تلك العواقب . فالدماغ البشري ، على سبيل المثال ، بحاجة إلى عمق نومي تام كي ينضد أرشيفه ، وكذلك أعضاؤنا الداخلية . والدجاجة لابد أن ترقد ثلاثة أسابيع على بيوضها كي تتحول من قيمة غذائية إلى قيمة إنطولوجية . وحتى الأطباخ العادية البسيطة إن طهت على نار هادئة تكون ألذ واشهى . وكأن ثمة علاقة حميمية مابين ، توازن الخلية ، وتوازن الجسم ، وتوازن الطبيعة ، وتوازن الكون ، ليكون التوازن العام في صورته المثلى . وهذا مايسمح لنا ، ربما ، إدراك قوة القنبلة الذرية ضمن العملية العكسية للتوازن ، اللاتوازن التام .... إلى ذلك ، إذا كان هذا التصور هو الجانب الموضوعي لمشكلة الصحة ( صحة الجسم ، صحة الكون ) وعلاقتها بتوازن عناصرها ، فإن الجانب الإجرائي المقابل لايقل أهمية من الفكر الطبي ، لذا لامناص من ، أولاً : إذا بدت إشكالية الصحة والتوازن ، فعلاً ، بهذه الخطورة ، وهي كذلك ، فإن المسألة تتجاوز في أبعادها آفاق الفرد والمجتمع ، رغم الأهمية القصوى واللامحدودة في دور الفرد ، ودور المجتمع ، في إنحسار المد المرضي ، في كيفية التعامل مع أعراضه ، لتغدو المسؤولية ، في النهاية ، مسؤولية الدولة ومؤسساتها في الجوانب الآتية . الجانب الأول : التكامل المطلق مابين صحة الفرد ، صحة المجتمع ، صحة التربة ، صحة المياه ، صحة الهواء ، صحة النفس ، صحة الكرة الأرضية ، صحة الطفل ، صحة العقل . فالتربة ، وهذا مثال للإيضاح فقط ، المحترقة سمادياً وكيميائياً ، لايمكن إلا أن تنتج خلايا غذائية مشبعة بالمرض ، مشبعة بالإختلال ، لتقتل التوازن في الجسم والبيئة . والضغط النفسي الطفولي ، لمليون سبب ( الإملاق ، خلاف الأبوين ، قساوة مخيلة المجتمع ... ) لايمكن إلا أن يؤدي إلى الأستهتار بقيمة الحياة ، إلى الجريمة ، إلى مزيد من الأدرنالين لمزيد من التوتر ، وفقدان التوازن ، والإنتحار . الجانب الثاني : تدريس مادة الصحة كعلم مستقل ، وتبيين خواصها كمفهوم منفرد ، ومقارن في المجتمعات المتباينة في المستوى الشاقولي والأفقي . الجانب الثالث : تقليص الفارق في النسبة والتناسب مابين مستوى دخل الفرد ومتوسط الناتج القومي الإجمالي . ثانياً : حماية توازن البيئي والجسمي لاتستغني ، بل ترتهن بصورة راديكالية على تصور معرفي علمي فكري فلسفي متضافر ومتنامي يعالج الجزئي والكلي ، يساهم فيه الفرد والمجتمع والمؤسسات والدولة ، لندرك المساحة الفضائية لجوهر الإشكالية ، لنزيل الضغط عن كبتنا التاريخي الأزلي ، لنحمي ذواتنا من نرجسيتنا المطلقة المقيتة ، لنخفف التناقض في ما تحت شعورنا الفرويدي والأدليري . ثالثاً : إن مفهوم الصحة ينبغي ألا يدرك ( بضم الياء ) بشكل منفرد وفقاً لإجراءات أضحت معروفة ، وكأنه مجموعة من العيادات والأطباء والأدوية والعمليات الجراحية ، كلا ، إنه يلج في المقدمات الأولية لعلم المجتمع ، في صيرورة تطورالمجتمعات ، ويحتسب من نتائجها . وهنا لاأحبذ أن أرسم صورة قاتمة بشعة لمستقبل التاريخ الإنساني ، أو إعادة هواجس وأشباح ( فرضية مالتوس المشهورة ) ، إلا إن التجربة الإنسانية ، وكابوس الرأسمالية ، وغول الرأسمال المالي البنكي والقرضي ، والتاريخ البشري لن يكون مشرفاً ضمن هذا المنطوق ، ولابد أن يذوي ، ويلوذ بالفناء والضياع ، ليبرز بصورة أجلى وأوضح دور الكائنات الدقيقة ، ليتمكن الكون ثم الطبيعة والبيئة هذه المرة ، من إعادة الإدراك إلى خاصياتها في سياق محتوى جديد للتوازن البيئي ، إلا أللهم ، إذا حدث إختلال أكيد وتام مابين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج ! وأعيد الفحوى لمنطوق التاريخي ! .....
#هيبت_بافي_حلبجة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟