أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس حيروقة - الشعر و أزمنة الماء















المزيد.....


الشعر و أزمنة الماء


عباس حيروقة

الحوار المتمدن-العدد: 2817 - 2009 / 11 / 1 - 20:22
المحور: الادب والفن
    


إذا كان ابن سينا يعتبر أن الشعر ليس للتفهيم بل للإدهاش فإن جلَّ ما شاهدناه في رحلتنا النهرية التي دعتنا إليها جمعية ماري للثقافة و الفنون و جمعية أصدقاء الفرات
.. هو شعر بامتياز ..انطلاقاً من الامتدادات اللامتناهية من الزرقة الأبدية , زرقة المياه المتعشقة مع سموات الله الرحبة مروراً بـ ..
- ضفتين تناثر حولهما ما يعجز كل فنان و مبدع على الإتيان بشيء من تفاصيل جمالياته.
- بأسراب من النورس و البط و البوخشاب و القطا والبلشون و طيور خصّ الله بها الفرات كما خصّ أهل الفرات به ليكوّنوا ويشكّلوا حضارات أفاضت على العالم أنواعاً شتّى من العلوم و المعارف التي مازالت ملامحها ماثلة أمام بصائرنا .
- بالحوايج المتناثرة كخالٍ على صحن خدِّ الفرات , الحوايج التي يحار المرء بطرق تشكّلها وما تحتويه من أشجار غريبة الحجم و الشكل و التشكل , فجاءت على صورة منحوتاتٍ تمثّل مخلوقاتٍ عدّة .. الأشجار بخضرتها المبهرة والتي يهجع إليها الطائر التعب , إذ ألفها كبيتٍ حنونٍ يزدادُ اتساعاً واشتياقاً يوماً بعدَ يوم , الأشجار التي رقدت قبالة الفرات طويلاً كأم لتؤنس وحشة أبنائها الممعنين في الفقد وفي الاغتراب , إنها أشجار الغَرَب – الصفصاف – الطرفة – الذل ..هذه الأشجار التي نسجت علاقاتها الخاصة مع الماء , فحبت على وجهه كطفلٍ تدرّب طويلاً على الحبو, أو كعشاقٍ ألفتهم تلك الدروب المطلّة على ديار السابحات في خيالهن الخصب .
- بالغروب الذي كنا ننتظره كما الشروق بلهفة لنتأمله طويلاً.. طويلاً فيعود بنا إلى التشكّل البدئي للخليقة إلى حالات السكون والخشوع والتقديس .. إلى التشكّل الأسطوري أو كما أوردته أو صورته الأساطير مجتمعةً..اله الشمس .. اله القمر.. اله العالم السفلي .. اله الماء العذب ..وآلهة صغار تلهو وتعبث فتقلق كبير الآلهة الذي كان يغفو على وجه الماء .
الغروب اليشابه حوجلة من سائلٍ برتقالي مائل للحمرة دلقها طفل شقيّ بحوض ماء عذب

أما الشروق فيولّد فينا شعوراً مدججاً بالدهشة والصمت , ويترك في دمنا تهاليل القبائل البدائية
وقرع طبولها وحلقات الرقص والنار والزغردات .
وصولاً ..وصولاً إلى كل حالات الخشوع والقداسة المتبادلة بين قمر الفرات الـ كان كبيراً و قريباً إلينا.. ووجه الماء الممعن في التراتيل .. بين حصى الضفاف و شغب ولهو أطفال القرى القريبة , بين دروب الفرات الطويلة و الحنونة وآهات تلك الصبايا الصاعدة عند كل عبور لهنّ بجانب طوافة تمعن في الغياب.. فيطيرن مناديلهن ويطلقن هديلاً كالحمام .
إنها الرحلة النهرية من توتول إلى ماري , والتي درّبتنا طويلاً طويلا على احتضان والتقاط كل الأماكن و الزوايا التي مثّلت وتمثل ما هو جميل , الجمال الذي اكتنزناه طويلا في قلوبنا وخيالاتنا و ذهنيتنا ..دربتنا على تمارين جد هامة لنعمّر طويلا فنحن بين الخضرة و المياه الجارية والوجه الحسن
كل هذا قادنا إلى التأمل الذي وصفه أرسطو بأنه أسمى أشكال النشاط العقلي ..
تأمل الأمداء و الأنداء يشعل فتيلاً من الخيال و التخييل , فنعلن القصائد طيوراً خضراء وامتداداتٍ من ظلال قمر هدهدته المياه على وجهها .. نعلن القصائد شموعاً كبيرةً تحركها تراتيل الدهشة لنساء تلفعن بسواد الفقد و الغربة في مساءاتٍ أتعبها الغياب فباتت تصفق للقناديل الممعنة بالحضور .
نعلن القصائد دروب ماء تمشيها رؤانا, أرصفتها ضبابٌ من تلك الفصول وبوح ريحٍ لغاباتِ القصب, وقنديلٌ بعيدٌ بأنامل ريفيةٍ تدلل عن عشقٍ تكور وأمعنَ في الارتفاع, فتحوم حوله الفراشات.. وتبدأ أو نبدأ بالاحتراق .
هكذا كل القصائد كانت .. وكنا بطوافةٍ تتسع لاشتعال القلوب على موال فراتي تطلقه حناجرَ من ذاك الزمان , فتموج بنا الأحزان ولأقمار وسقسقة الموج على حصى الأغنيات , نتوسد موجةً سابحةً تجاه المغيب ونطلق آهاتنا بين أعواد القصب .
من توتول إلى ماري قطعناها على طوافةٍ ولأيام طوال بحسنها وجمال المكان وأهل المكان.. على طوافة من حنين بدأنا الرحيل فكنا نغني ونمعن .. مأخوذين بنورانية المشهود فيورثنا الرهبة و الدهشة و الشعر .. هذه المكونات الكلية لهذا الوجود تضعنا بحالات تأمل , التأمل الذي كان له الحضور الطويل , التأمل الذي قاد و يقود إلى المكاشفة ورفع الحجب عن نورانية ذاكَ ,لتدور الذوات في فلكِ الحقيقة حين بنور الفراتِ نفور .. سنبقى ندور .
من توتول إلى ماري مضينا .. وكانت عتمة المساءات مع مياه الفرات وقمر الفرات ونسيم الفرات .. وتلك السماء الرهيبة وهول جمال الحوايج تشكل لوحة كونية تتحوى في جزئياتها قسمات عالم آخر ليس دنيوياً بل عالماً مرسومةً ملامحه في كتب مقدسة وفي خيالات القديسين , اللوحة التي أبعدتنا عن عالم ممعن في الخراب ليس إلا , اللوحة التي نسجت حولنا الغلاف الذي يصنع منّا آلهة ذاك الزمان .
نعلن أن القصائد التي تطل على العالم من وسط الفرات وفي أبهى المواقيت تكون مكللة بالبياض الكثيف .. غير القصائد التي تطل على الفرات من على رصيف أو جسر أو ضفة , فالأولى تعمل المياه على تنقيتها من شوائب وأدران الأيام .. تلّفها بالغمام وترشّها بنجوم وقمر مختلف , وشمس تهيئ نفسها للصهيل .
تمايز القصائد كتمايز شعور المرء وهو يتأمل الفرات من وسط الفرات وفي كل المواقيت وخصوصاً أبهاها , تمايزه عن شعوره وهو يتأمل الفرات من فوق جسر أو من على رصيف أو حتى وهو يتوسد الضفة , فالشعور الأول مفعم بنور قادم من أزمنة القديسين يعرش ويشرش فوق رؤاه .. شعور المرء مختلف وهو يعوم على طوافة تهدهدها أمواج أُختصّت بغسيل الأقمار , تهدهدها كأم حنون تطلق أبهى المواويل عند الغروب وتعلن تحليق أسراب الضفاف .. شعور مختلف وأنت تتوسد الماء تجاه الماء , فتتماه معه كنبي ألف الألوهة و الوحي والكتاب .
رحلة نهرية أنقذنا بها ذاتَنا المطلة على سيل من المياه الآسنة .. خلصنا بها روحنا من الوهن , وحررناها من الاكتئاب المكدّس فوق جباهنا جرّاء الانهيارات والانهدامات الأخلاقية التي دكت البنى الاجتماعية .. رحلة علقتنا غمامات فوق سلسبيل , ووجوهنا مشدودة نحو شمس تستعد لتزفّ المكان صلصالاً و النهر روحاً نفخها فيه الإله.
أنقذنا ذاتنا بهذا الكم الهائل من الجمال , من الشعر الذي رأى فيه أرسطو " يطهر الإنسان من القيم الرديئة " .. رحلة نهرية فتحت العديد من الأبواب الموصدة في دواخلنا , فأيقظت فينا الكثير , وأحيت فينا الكثير , ودربتنا على اختزان وارتياد بواطن كل المواضع الماتعة ..
رحلة كانت باتجاه الجمال الذي " سينقذ العالم "كما قال يوماً ديستويفسكي .
من توتول إلى ماري برفقة كوكبة من الأدباء و الفنانين التشكيلين الذين تركوا طيّب الأثر في نفوسنا نعم .. برفقة الشاعر طالب همّاش " القرمطي " شاعر المتة, والمتسلق أعالي الأشجار.. برفقة الأديبة فوزية المرعي صاحبة الصوت الجميل و التي أفاضت و أضفت على الرحلة إيقاعاً خاصاً .. والباحث علي السويحة النقي جداً والذي لايتسع الفرات العظيم وحده لمحبته وطيبته .. و الفنان التشكيلي موفق الزين , والنحات أسعد عبود و الفنان التشكيلي و الشاعر أيضاً هاشم الألوسي المدهش بحيويته , رئيس جمعية ماري الثقافية , و لأستاذ حسن المصطفى رئيس الرحلة .. إضافة لشخصيات ممعنة بابدعاتها الخاصة مثل أحمد جبرائيل المكنيكي المخترع وسلمو سلمو المصور و المنقذ مع وقف التنفيذ و الذي يمثل حالة لاتشبه سواه ,.. اللماح و الطيب والمصور عبود حمام ..الخ
من توتول إلى ماري فتحت بوابات لعوالم مرسومة بألوان وإيقاع الزمن البدئي , زمن الهيولى و التشكّل , زمن الماء , المتكور في رحمه كل شيء حيّ .

عباس حيروقة



#عباس_حيروقة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- زنازين الديار/ شعر
- شذرات الرستناوي بين الذهنية... والشعرية
- على شرفات قبلتكِ
- من قال...؟! شعر
- صدامية الغراب الأعصم. للروائي عبد العزيز الموسى ...و أسئلة ا ...
- بين الدين و العقل, و الأسئلة الأهم ؟؟


المزيد.....




- وصف مصر: كنز نابليون العلمي الذي كشف أسرار الفراعنة
- سوريا.. انتفاضة طلابية و-جلسة سرية- في المعهد العالي للفنون ...
- العراق.. نقابة الفنانين تتخذ عدة إجراءات ضد فنانة شهيرة بينه ...
- إعلان القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية 2025 ...
- بينالي الفنون الإسلامية : مخطوطات نادرة في منتدى المدار
- ذكريات عمّان على الجدران.. أكثر من ألف -آرمة- تؤرخ نشأة مجتم ...
- سباق سيارات بين صخور العلا بالسعودية؟ فنانة تتخيل كيف سيبدو ...
- معرض 1-54 في مراكش: منصة عالمية للفنانين الأفارقة
- الكويتية نجمة إدريس تفوز بجائزة الملتقى للقصة القصيرة العربي ...
- -نيويورك تايمز-: تغير موقف الولايات المتحدة تجاه أوروبا يشبه ...


المزيد.....

- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير
- مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب- / جلال نعيم
- التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ / عبد الكريم برشيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عباس حيروقة - الشعر و أزمنة الماء