|
حكايات ذاكرة.. قصة قصيرة
أحمد الجنديل
الحوار المتمدن-العدد: 2816 - 2009 / 10 / 31 - 20:24
المحور:
الادب والفن
في تمام الساعة السادسة صباحا، بدأتْ لعلعة الرصاص في أكثر المناطق المحيطة بدار الشيخ خميس المهران ــ هذا ما قاله أبي ــ . كانت الأصوات عنيفة عندما نهضتُ من فراشي خائفا ، وما أن وقعَ نظري على أبي وصديقه ( نديم العودة ) حتى هدأ روعي وبدأ الخوفُ يتلاشى شيئا فشيئا ، مثلما يهربُ الضباب عندما تهاجمه أشعة الشمس . كنـّا في تلك الليلة ضيوفا على صديق أبي ، فبعدما أخـَذنا عصر اليوم الفائت في رحلة قصيرة لبستانه الكبير ، شاهدتُ من خلالها بيت الأبقار ، والمرأة العجوز وهي تحلب إحداهن بمهارة فائقة ، وقد جلست وبين أ رجلها واضعة إناء كبيرا تجمع فيه الحليب المتدفق من ثدي البقرة الواقفة باستسلام وخضوع ، وسمعتُ نباح الكلاب الغاضبة التي يملكها صديق أبي ، وقد تملكني الخوف عندما نظرتُ إلى الكلب الأسود الضخم وهو يطلق نباحه ، ويصّوب نظراته نحونا ، ممّا جعلَ صديق أبي يضعُ يدَه الخشنة الناشفة على رأسي الصغير ، وهو يضحكُ قائلا : ــــ لا تخف ، إنها كلاب لا تعتدي على أحد . ابتسمتُ رغما عني بعدما استجمتُ شجاعتي لكي لا أسبب لوالدي حرجا ، وعند العودة إلى غرفة الضيوف ، كنتُ سعيدا لأني لم أكن خائفا إلى الحد الذي يخجلني أمام صديق أبي . أصوات الرصاص تزدادُ اقترابا منـّا ، وهناك صراخ متنافر لـ ( هوسات ) احتدمَ فيها الغضب دون أن أفهم معنى لها ، أحسستُ أنّ الأرض التي كنتُ راقدا عليها تهتزّ بفعل ضربات الأقدام عليها . سمعتُ نداء أبي : انهضْ يا رعد ، فقد تأخرنا قليلا . أزحتُ الغطاءَ ، ونهضتُ متثاقلا بفعل بقايا النعاس اللاصق في جفوني ، وفي الخارج شاهدتُ عشرات الرجال المدججين بالسلاح ، بعضهم يستر وجهه بكوفية ، والبعض الآخر لا يبالي بتأثير البرد عليه ، كانت صدورهم ووجوههم مكشوفة في وجه الريح . كانت الغرفة التي قضينا ليلتنا فيها مخصصة للضيوف ، وقد بُنيت لوحدها ، تفصلها عن بقية الدار التي تسكنها عائلة ( نديم العودة ) عدة أمتار ، وقد وضع بابها باتجاه البستان المليء بهامات النخيل الباسقة ، وهناك بعض الأشواك والأدغال المتناثرة هنا وهناك ، تحتلّ حواشي السواقي الجافة ، وعندما ترمي نظرك بعيدا ، تبدو لك أحراش البردي وهي تتمايل ذات اليمين وذات الشمال ، تحركـّها النسمات الباردة التي حملها هذا الصباح . بعد الانتهاء من غسل يدي ووجهي بقطعة من الصابون الرخيص ، التقطتُ منشفة صغيرة جففتُ بها يديّ دون وجهي لفرط اتساخها . تأملتُ البستان ، كانت أشجارُ النخيل تصّطف بانتظام مرفوعة الرؤوس ، كحشد من الجنود وزّع على فصائل منتظمة في خطوط متوازية ، وعبر الدروب الترابية الضيّقة المتعرجة ، شاهدتُ الرجال يصوّبون بنادقهم إلى الأعلى ، ويرمون الفضاء ، وهم مسرعون . عند دخولي إلى غرفة الضيوف ، وجدتُ الفطور جاهزا ، صينية كبيرة رتـّب عليها ، إبريق الشاي ، وصحن مليء بكرات من الزبد الأصفر ، وآخر من البيض المقلي ، مع دورق يتصاعدُ من فوهته الواسعة البخار ، كنتُ جائعا ، لكني لا أستطيع المباشرة بالأكل ، منتظرا الإشارة من أبي ، وعندما جلس قبالتنا ( نديم العودة ) شرعنا جميعا في تناول الفطور . كان صديق أبي ، طويل القامة كرمح مستقيم لولا انحناءة واضحة في كتفيه ، يملكُ أنفا طويلا ينسجمُ مع طول وجهه البرونزي ، فمه كفم سمكة خارجة لتوّها من الماء ، جبينه واضح العلو ، ما يثيرك فيه عيناه الواسعتان الشرستان ، كان يتناول فطوره بدماثة تبعث على الوقار . ــــ وأين ذهبَت جثة سعيد ؟ ( قال أبي بتثاؤب ) . ــــ أعتقدُ أنهم أحرقوها ، بعد أن سكبوا عليها صفيحة من النفط .( أجاب بنبرة جافة ) . ــــ يا للمسكين !! ( قال أبي ببرود ) . ــــ من كان يظنّ أن سعيد يجرأ على قتل الشيخ خميس المهران ؟ ( تساءل أبي بعد صمت ) ــــ كنـّا نظن ّذلك . ( أجاب صديق أبي بصوت خفيض ، بعد أن رشف من الكوب الذي بيده ) وتابع يقول : ــــ كان عمله مشينا ، لا يليق به وهو بهذا العمر ، وهذا الموقع .( جاء صوته رخوا ) ــــ هذا صحيح .( هزّ أبي رأسه موافقا ) ــــ لقد استباح أخته ( ساجدة ) في جنح الظلام ، واغتصبها بعلم الجميع ، ولمـّا أنهى وطره منها ، أرسلها إلى بيت أبيها ، بعد أن وضع لرجوعها حكاية يعرفها الجميع أنه كاذب فيها .( كان صوته حزينا ) . ـــــ إنه عمل سافل . ( قال أبي مقاطعا ، وبدأ يصغي طالبا إكمال الحديث ) . ــــ لم يكتف بذلك ، أرسل إلى أبيها أحد أزلامه ، ليحرضه على قتلها غسلا للعار ، وبعد يوم ، أرسل شخصا آخر يخبر والدها على وقوف الشيخ إلى جانبه ، وعندما قام الأب بقتل ابنته بثلاث رصاصات من بندقية قديمة في ليلة من ليالي محرم من العام الفائت ، لم يحرّك الشيخ ساكنا ، وعند مجيء الشرطة ، اقتيد الأب المسكين إلى السجن وسط تجمع أفراد العشيرة في يوم الحادث . ــــ يا لحقارة الرجال . ( قال أبي بأسف ) . ــــ لقد حكم عليه بالسجن عشر سنوات ( رفع الإبريق وملأ كوبي بالحليب ) ثمّ تابع : ــــ لكنه لم يبق أكثر من ستة أشهر ، أصيب بمرض خطير مات على أثره ، ولم يبق سوى سعيد . ــــ أيّ فعل دنيء هذا ؟ ( قال أبي بغضب ) ــــ انه لم يكتف بكلّ ما عمله ، بل امتدت يده إلى سعيد ! ( قال نديم العودة بمرارة ) ــــ كيف ؟ ( سأل أبي بتعجب ) ــــ عندما بقي وحيدا ، استباحه كما فعل بأخته ساجدة ، ثمّ تركه للذئاب . ( قالها بأسف وضيق بالغين ) ــــ ياله من خنزير قذر . ( قال أبي بحقد ) ساد صمت ثقيل ، قطعه صديق أبي : بدأ يرسله إلى حفلات الأعراس التي تقام ، حتى أصبح معروفا لدى الجميع ، وأطلقوا عليه اسم زنانة بدلا من سعيد . ــــ يا للوغد النذل . ( قال أبي حانقا ) أطبق صمت آخر أكثر ثقلا من سابقه ، بدت من خلاله رغبة أبي بالمغادرة ، لولا دخول رجل غريب علينا ، أسرعَ في مصافحة نديم العودة ، ثمّ انتقل إلى أبي فحيّاه بحرارة دون أن يعرفه ( هكذا كانت ملامح وجهه تقول ) واقترب منـّي تسبقه رائحتة العفنة التي يبعثها جسده رغم برودة الطقس . كان غليظ البنية ، ذا رأس كبير ، وجهه مزدحم بالندب ، وإحدى عينيه تبدو منطفئة ، وينتعل حذاء من المطاط ، وأثناء رفع يده ووضعها على ظهري ، لاحظتُ أنّ ثوبه ممزق بشكل فاضح ، استطعتُ معه أن أشاهد شعر إبطه وأشمّ عفونته . جلس في الجانب المقابل لأبي ، بينما أسرع ( نديم العودة ) إلى رفع ما تبقى من الفطور وخرج به ، ثمّ عاد مسرعا يحمل إبريقا من الشاي الساخن ، وهو يرحب بالرجل بتثاقل ، جعل أبي يبتسم عندما التقت عيناه بعيني صديقه ، تناول الزائر قدح الشاي ، كان يشربه بصوت مسموع ، وعند الانتهاء منه ، وضعه جانبا وجلس القرفصاء . ــــ هل كنتَ معهم في الليلة الماضية ؟ ( قال نديم العودة بغير اكتراث ) ــــ يا ليتني لم أكن ، كانت حادثة مروّعة . ( ردّ الزائر بصوت مخذول ) بعدها استطرد : ــــ لقد قتل هذا الزنيم شهامة القرية وشرفها .( قالها بصوت متهدج ، وانخرط بالبكاء ) ــــ ساجت ، حدثنا كيف حصل الحادث دون بكاء ؟ ( قالها بلهجة الآمر ) رفع ساجت رأسه ، لم يكن أثر للبكاء في عينيه ، لكنّ أنفه بدأ يرشح من البرد ، راح ينقل نظره بين أبي وصديقه ، لم يجد ما يثيرهما ، قرأ في وجهيهما غير ما أبداه من مشاعر ،. ــــ لقد كان حادثا فظيعا ، البعض يرمي باللوم على الشيخ الفقيد ، والبعض الآخر يتهم زنانة بهذا الفعل الشنيع . ( قالها بصوت مهزوم ) . ــــ أردنا أن نعرف ما الذي حدث ؟ فلا تكن ثرثارا . ( قالها نديم العودة بنبرة خشنة وعميقة ) ساجت أدرك ما يعني صديق أبي بالضبط ، اعتدل في جلسته ، وطاف بعينيه في الوجوه ، بعدها بدأ بالحديث : ــــ أقيمت حفلة الليلة الماضية بمناسبة زواج عمران بن الحاج فهد ، وقد حضرها الجميع ، وامتلأ المكان بالشباب ، وصعدت بعض النسوة فوق سطوح المنازل المطلّة على السرادق المنصوب لهذه المناسبة ، وهنّ يزغردن بين الحين والآخر ، وكان زنانة يرتدي بذلة الرقص الحمراء ، وقد تكحلت عيناه ، وبدت شفتاه بلون عصير الطماطم الناضجة ، وبدأ أصحاب الدفوف والطبول بالنقر عليها ، بينما راح زنانة يرقص ، والجميع يصفق ويردد ألاغاني ، في حين انغمس بعض الشباب في شرب الخمر ، فكانت الكؤوس تدار عليهم ، ورائحة الخمر بدأت تشبع أجواء السرادق الكبير ممزوجة برائحة الدخان . وفي غمرة البهجة التي كانت تلفّ الجميع ، وصل الشيخ خميس المهران ، أفردوا له مكانا على الجانب الأيمن من وسط السرادق ، وجلبوا له الوسائد ، وضعوها على جانبيه وخلفه ، واستمرت الدفوف بالنقر والطبول بالقرع ، وزنانة يرقص بحماس ، كان جسده يتحرك بمرونة عجيبة وهو يدور حول الجميع ، وعندما يصل إلى الشيخ يزداد حماسا ، تحول إلى لعبة ميكانيكية أثارت الدهشة في نفوس الحاضرين ، بدأ كلّ ما فيه يرتعش ، رأسه ، رقبته ، صدره ، بطنه ، ساقاه ، وصل الارتعاش إلى أصابعه ، اختطف كأسا من أحد الحاضرين ، أتى عليه بحركة مذهلة ، رفع أحد الجالسين كأسا آخر ، التقطه كما يفعل البهلوان ، بدأ الضرب على الدفوف يأخذ إيقاعا سريعا ينسجم مع الحركات السريعة ، وبدأ زنانة يدور حول الجميع ، يقف أمام الشيخ ثمّ يواصل الرقص ، قدماه تنتقلان بسرعة ، لم تستطع أن تعرف أي منها تسبق الأخرى ، وبدأ العرق ينضح من وجهه وينزل إلى الأسفل بلون أسود ، جارفا كحل عينيه ، لعابه سال من زاوية فمه ، وبدأ يضرب الأرض بقوّة ، والجميع يصرخ ( زنانة ... زنانة ) . التقط خنجرا من أحد الجالسين ، قذفه في الهواء وسحبه بطريقة لم يعرفها أحد ، أطبق بأسنانه على الخنجر ، التهبت الأكف بالتصفيق ، وكلمّا ارتفعت أصوات الإعجاب به ، ازدادت قدمه ضربا بالأرض ، أحد الدفوف انبعج من شدّة الضرب عليه ، دار سريعا ، كان مثل طائر جريح ، تحول الرقص إلى طقوس سحرية ، لم يكن هناك وعيا منفردا ، الجميع تعرضوا لاستلاب المشاعر ، بدأ يسطو على إحساسهم ، سرق وعيهم المباشر ، وضربات قدميه تزداد عنفا ، والأصوات تتصاعد بحماس : ( زنانة ... زنانة ...زنانة ) وفي غمرة ما هم فيه ، اقترب من الشيخ ، دار دورة كاملة ، تبعتها دورات أخرى ، لم نستطع مشاهدة وجهه فيها ، وبسرعة أكبر من رؤيتنا لها هجم على الشيخ ، طعنه في رقبته طعنة أخرجت نصل الخنجر الذي يحمله إلى الجهة المقابلة ، ثمّ أعقبها بضربة أخرى في صدره ، وثالثة في بطنه ، ومع صرخة ارتجّت لها أجواء السرادق سددّ ضربة أخيرة إلى رقبة الشيخ ، جعلت رأسه يتهاوى إلى الخلف ، لم يتحرك أحد ، فلحظات الهجوم الأولى سلبت القدرة من الجميع ، لكنّ الاستمرار في الطعن ، جعل أحد الجالسين بقرب الشيخ أن يبادره بضربة على رأسه ، بعدها جاء الفعل من أحد أزلام الشيخ ، أسرع إلى إفراغ ثلاث رصاصات من مسدسه في رأسه ، انتفض لها جسد زنانة ، كانت رجفة حادة وسريعة ، وسقط رأس زنانة على رقبة الشيخ القتيل . الفوضى عمّت المكان ، بعضهم ركض إلى بيته خائفا ، وفريق تجمع حول الجثتين ، أحدهم رفع جثة زنانة ورماها بعيدا ، وآخر نزع رشاشة الكلاشنكوف المركونة على كتفه ، وتحت تأثير المشاركة في الحدث ، أفرغ ثلاثين طلقة في جسد زنانة ، بينما أسرع البعض إلى نقل جثة الشيخ إلى بيته والدماء تسيل من جروحه كخروف مذبوح . تفرق الحشد الكبير الذي كان يغمره الفرح ، ومن بقي منهم واجهوا الحاج فهد وهو يصرخ فيهم : ــــ اخرجوا أيها الأوغاد ، فلم يعد فرح بعد الآن ، لقد ألغي موعد الزواج . وعند خروجهم جميعا ، لم يبق في السرادق غير دم الشيخ خميس المهران يعانق دم زنانة ، وجثته الملقاة جانبا ، وغير رائحة الموت التي سيطرت على السرادق الموحش . بعد ساعة من الحادث ، عاد ثلاثة من أزلام الشيخ ، دخلوا السرادق ، وسحبوا جثة زنانة إلى الخارج ، سكبوا عليها صفيحة من النفط وأحرقوها ، ثمّ عادوا إلى بيت الشيخ ، تسبقهم أصوات الرصاص التي كانت تطلقها بنادقهم وهي تمزّق سكون الليل . انتبه ساجت إلى علبة السجائر التي أمامه ، أخذ واحدة منها ، وبعد أن أوقدها ، راح يخرج دخانها من منخريه ، معلنا خاتمة ما وقع في الليلة الماضية . ــــ ومتى يتّم تشييع المرحوم ؟ ( سأل صديق أبي بفتور ) ــــ لم يتم التشييع ما لم تحضر جميع وفود القبائل ، سيكون تشييع مهيب ( أجاب بشيء من المباهاة ) . واستدرك بعدها متسائلا : ـــــ ألم تذهب للمشاركة في التشييع ؟ ( صوته وصل إلينا خبيثا ) ــــ لديّ ضيوف ، ولا أستطيع المشاركة . ( أجاب نديم العودة ببرود ) ــــ عندما يسألني أحد عنك ، سأخبره أنك مريض . ( قالها بنبرة متملقة ) . ــــ لا تكن منافقا ، من يسألك عني ، قل له لا أستطيع الحضور . ( أجاب صديق أبي بغضب أخافني ) . ــــ لا أحد يسأل عنك في هذه الفوضى العارمة . ( قال ساجت بخضوع ) . ــــ هذا ما أعرفه . ( قال نديم العودة بتثاقل ) . اختطف ساجت علبة السجائر التي أمامه ، وضعها في جيب سترته ، وعيناه تتلصصان علينا ، ثمّ نهض مودّعا أبي ونديم العودة ، وخرج . أبي يقول لي بعينيه أن أنهض ، بعد أن تهيأ هو الآخر للنهوض ، لكنّ صديقه طلب منه البقاء بعض الوقت . ــــ أعتقد إننا تأخرنا كثيرا ، كانت ليلة رائعة معك ، لا يسعني إلا أن أشكرك على ضيافتك .( قالها أبي بنغمة ودودة مزدانة بالعرفان ) . تقدم نحو الباب الخارجي ، تبعه نديم العودة وكنتُ آخرهم ، ولمّا استقبلتنا هامات النخيل في البستان الكبير ، كنتُ أسير في الوسط ، حتى وصلنا إلى الطريق الترابي المقابل لنهر الفرات عانق أبي صديقه ، وتصافحا بقوّة ، طبع نديم العودة قبلة على خدي ، أحسستُ بخشونتها ، وبقي واقفا ، بينما سار أبي بخطوات عريضة ماسكا بيدي ، وملامحه لا أستطيع أن أقرأ فيها سوى مسحة من الحزن . الطريق الترابي يقع بين منخفضين ، تحتل جانبه الأيمن ، البساتين المكتظة بأشجار النخيل وبعض أشجار الفاكهة ، بينما تنبسط على الجانب الأيسر ، الحقول المزروعة بأنواع الخضروات ، إضافة إلى مساحات مزروعة بالبرسيم ، وهذا الجانب ينحصر بين حافات النهر ، حيث أشجار الصفصاف والحور وشجيرات الدفلى ونباتات صغيرة تمتد عروقها عبر الأرض الطينية المغمورة بالمياه ، وبين منحدر الطريق التي تنتشر على أديمه الأشواك المتشابكة والأدغال الكثيفة . كان أبي سالكا أطراف الطريق ، عندما تعترضنا مجاميع من الرجال ، هرعوا للمشاركة في تشييع الشيخ خميس المهران ، مخلفين وراءهم زوبعة من الغبار الخانق ، وعندما يفرغ الطريق ، يسحبني أبي إلى وسطه ، ونستمر في المشي بخطوات سريعة ، لكي لا نواجه مجموعة أخرى من الرجال . ــــ هل يدخلُ الشيخ خميس المهران الجنّة يا أبي ؟ ( نطقتُ متلعثما ) . ــــ لا أدري . ( أجاب أبي دون اكتراث ) . ــــ وهل الخنازير تدخل الجنّة ؟ ( سألتُ أبي عن قصد ) . ــــ لا أعتقدُ ذلك . ( أجاب أبي ضاحكا ) . ــــ ولكنّ الشيخ الذي قتلوه البارحة خنزير قذر . ( سألت متشجعا ) . ــــ أظنّ ذلك . ( أجاب أبي وقد ضغط على يدي ) . ــــ ولماذا كلّ هذا الاهتمام لمقتل خنزير قذر ؟ ( سالتُ متوجسا وأنا أرمي ببصري نحو وجه أبي ) . ضحك أبي ، وأراد أن يتحدث لولا وصول مجموعة من الرجال تهرول على إيقاع أهزوجة ،وبعد أن انقشعت سحابة الغبار التي خلفوها ، سحبني أبي إلى منتصف الطريق . ــــ أنتَ صغير يا رعد ، وعندما تكبر ، سوف تعرف الكثير من أسرار الحياة . ( قالها أبي بحنان ، بعد أن تحررت يدي من يده ) . ــــ ولكن يا أبي لماذا أحرقوا زنانة ؟ ( قلتها بخوف من إثارة أبي ) . ــــ كفْ عن هذه الأسئلة يا رعد . ( كان الغضب واضحا في صوته ) . ــــ نعم يا أبي . ( قلتها باستسلام ) . اقتربنا من الجسر الحديدي الضيّق الذي يربط شطري المدينة ، اجتزناه بخطوات حذرة ، بعدما أصبحت يدي أسيرة بين يد أبي . ــــ أبي ... ... ــــ قلتُ لك أن تكفّ عن هذه الأسئلة . ( قال أبي بصوت زاجر ) . ــــ نعم يا أبي .( قلتها بصوت مرتجف ) . ازداد الضغط على يدي ، عندما بدأنا ننحدر إلى الجهة الأخرى من الجسر ، وعند وصولنا إلى الشارع الإسفلتي العريض ، بدا لنا الحمّام الوحيد في المدينة ، من خلال البخار المتصاعد من سطحه ، والذي لا يفصله عن بيتنا سوى زقاق ضيّق . انتصب في ذاكرتي زنانة الذي اعتاد على دخول الحمّام صباح كلّ يوم ، حاملا معه صرّة صغيرة تحتوي على مرآته وملقطه الذي يستخدمه في تشذيب شعر حاجبيه ، ومكحلة نحاسية ، وكمية من قشور الجوز التي يمضغها باستمرار لتمنح شفتيه الاحمرار . في داخلي لهفة كبيرة لمعرفة مصير زنانة ، في الجنّة أو في النار ، أصبحنا عند مفترق الطريق المؤدي إلى بيتنا ، تحفزت شجاعتي ، واستنهضت إرادتي : ــــ أبي هل ....؟ ــــ ماذا تريد ؟ أما قلتُ لك .. ( صوت أبي جاء غاضبا قوّيا متوعدا ، جعلني أقاطعه دون تفكير . ــــ أريدُ شوكولاته يا أبي . سحبني إلى الدكان المجاور لبيتنا ، ابتاع لي أنواعا من الشكولاته ، فضّ غلاف واحدة منها ، وأمرني بالذهاب إلى البيت ، وبقي واقفا يراقبني ، وقبل أن أدلف إلى الزقاق المؤدي إلى بيتنا ، ودّعته بإشارة من يدي ، قابلني بإشارة من يده ، أدخلني فيها الزقاق ، ولم يعد بوسعي أن أراه .
#أحمد_الجنديل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأقلام والخيول
-
الوصيّة ... قصة قصيرة
-
السفينة .. قصة قصيرة
-
الجناة ومزبلة التاريخ
-
أمريكا وحقوق الانسان
-
بلد العجائب والغرائب
-
بلا وطنية ولا حياء
-
أنا وفكتور هيجو وجبار أبو الكبة
-
الانتهازي الخطير .. قصة قصيرة
-
ايقاعات راقصة لعازف حزين
-
الهجرة الى مواسم الرعب .... قصص قصيرة
-
كم أنت رائعة ياناهده 0000!!!؟
-
الثلوج تلتهم النيران ... قصص قصيرة
-
الدفاع عن حقوق المرأة ...... ( بلقيس حسن انموذجا )
-
العراق بين شرعية الاحتلال واحتلال الشرعية
-
التنوع في الكتابة ( جاسم عاصي انموذجا )
-
أنهار الخوف .. قصص قصيرة
-
تداعيات البعد الواحد ... قصة قصيرة
-
العلاقات العربية الأمريكية مسارات الرفض والقبول
-
ليلة الزفاف الدامي
المزيد.....
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
-
رشيد مشهراوي: السينما وطن لا يستطيع أحد احتلاله بالنسبة للفل
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|