|
كيف نقدم الإسلام للآخر؟
محمد عادل التريكي
الحوار المتمدن-العدد: 2812 - 2009 / 10 / 27 - 12:43
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ما هو التقديم؟ التقديم يعني "التعريف"؛ أي معرفة المفهوم أو المصطلح من حيث أبعاده وسماته الظاهرة ومضمونه وأعماقه الباطنة، وتجسداته في الواقع. وقد تخضع المتجسدات لسنن التغير وأحوال وظروف التطبيق. ما هو الإسلام؟ الإسلام هو شِرعة هذه الأمة، ومنهاجها كما أوحاه الله إلى رسوله المبعوث إليهم رحمة منه وفضلاً، يأخذون ما آتاهم، وينتهون كما نهاهم، يتخذون وحيه المجموع في كتابهم إماماً لا يأتمون بسواه، ولا تطمح أبصارهم إلى غيره، ولا تنزع قلوبهم إلى ما عداه، عرفوا وجه الحكمة فيما يأخذون وما يدَّعون أو لم يعرفوه، إيماناً وتسليماً، وأنَّ هَذا صراطي مُستقيما فاتبعُوهُ، و لا تتبعوا السٌبلَ فتفرق بكُم عن سبيلي . والإسلام -كما أُنزل- له أبعاده العبادية في أركانه الخمسة، ومضمونه التشريعي في استخلاف الإنسان لإعمار الأرض وإدارة شؤون الحياة بكل مقوماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، وأعماقه الروحية التي تهذب النفس وتشحذ العقل والفكر. ويؤول ذلك كله إلى منظومة حضارية تجعل لنوعية الحياة وأسلوبها سمتًا خاصًّا يؤكد التواصل بين حياة الدنيا وأبدية الآخرة. ومن هو الآخر؟ الآخر هو الغرب..نعني به ممارسات حضارية حديثة لها جذورها في حضارتي اليونان والرومان القديمتين، وتراثًا مسيحيًّا كهنوتيًّا وحروبًا صليبية، ونهضة علمية وتقنية متقدمة، وتوسعًا استعماريًّا قديمًا ونظامًا عالميًّا للهيمنة حديثًا، يعتمد على الاستغلال الرأسمالي وأوهام عنصرية، وإفراز مغلوط لمسيحية صهيونية، وأحلام باستمرار الرفاهية على حساب الشعوب الأخرى وثرواتها. وإعلاء قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بين ذويه، وإهدارها عند الآخرين طبقا لمصالحه الاقتصادية والسياسية. فهو إذن، اصطلاح حديث، جَرَيْناَ فيه على ما اصْطَلَح عليه الأوربيون في عصور الاستعمارِ، من تقسيم العالَم إلى » شرق « و » غرب « … يعنون بالغرب أنفسهم، ويعنون بالشرق أهل آسيا وإفريقيا الذين كانوا موضع استعبادِهم واستغلالِهم… وجرينا نحن من بعد على هذا الاستعمال. والكلمة إن كانت حديثةٌ اصطلاحا واستعمالاً، فهي قديمةٌ في مفهومِها ودلالَتِها، فقد كان في العالَم من زمن قديم… قُوَّتانِ تصْطَرِعاَنِ و تَتَنازعانِ السيادة، إحداهما في الشرق، والأخرى في الغرب، تَمَثَّلَ ذلك في الصراعِ بين الفُرسِ و الروم، ثم في الصراع بين المسلمين والروم ، ثم في الصراع بين المسلمين والروم، ثم في الصراع بين المسلمين و الصليبيينَ، ثم في الصراع بين العثمانيينَ والأوروبيينَ مَدًّا و جزرًا، ثم كان آخر فصول هذه الملحمة، الصلاتُ بين الشرق مُمَثَّلاً في آسيا و إفريقيا، وبين الغرب مُمَثَّلاً في أوربا وأمريكا. وهي صلاتٌ متنوعة، بعضُها ثقافي، وبعضها اقتصادي، و بعضُها سياسي. كما أن الغرب يعني التميز بأسلوب حياة يجمع بين النقيضين؛ الالتزام في ممارسات العمل والانضباط القانوني، والتحرر المفرط في أخلاقيات السلوك الاجتماعي؛ وهو ما أدى إلى مزيد من الفوضى الاجتماعية، والانحلال الأخلاقي، وارتفاع مقلق لمعدلات الجريمة والانتحار، والتخريب في أنماط الحياة الأسرية؛ بدعوى التحرر والانطلاق من قيود الفطرة الإنسانية للعلاقة بين الجنسين. وماذا يعني الشرق؟ الشرق الإسلامي المعاصر: ونعني به كافة المجتمعات الإسلامية الواقعة في المشرق الآسيوي الأفريقي الذي يحتوي على ثلث سكان العالم تقريبًا، وانتشر فيهم الإسلام منطلقًا من المشرق العربي الذي تمتع بظلال الحضارة الإسلامية منذ نشأتها حتى أوج اعتلائها قمة الحضارات الإنسانية بعد تعميق ثوابت العقيدة الإسلامية، والأخذ بأسباب المعارف والعلوم وتأصيل قواعد المنهج العلمي التجريبي الذي تأسست عليه فيما بعد أسس النهضة الأوروبية في العلوم وكثير من المعارف الإنسانية؛ إلا أن التناقضات لم يفلت منه أهل الحضارة الإسلامية منذ أن أساء أغلب التابعين من الخلفاء والحكام مفاهيم الحرية والعدالة والثورة؛ وذلك بعدا عن الالتزام بمضمون الشريعة وروح الإسلام في كفالة حرية الكلمة السياسية وعدم احتكار وتوارث السلطة والتفريط في الممارسة الحقيقية للشورى الملزمة؛ وهو ما أدى إلى التفريط في مبادئ وثوابت العقيدة التي تعزز مستلزمات التوحيد لله سبحانه وتعالى. وكان ذلك من عوامل الوهن الحضاري، وتسرب التخلف في الفقه السياسي، وعدم تواصل المسيرة العلمية في شئون الطبيعة والحياة، والاستخفاف بالتعليم والتعلم بين جمهور الناس وشيوع الأمية، وعدم تطوير الحِرَف والصناعات، وجمود نظام الوقف الذي كان خير معين في شئون الحياة الاجتماعية من تعليم وتكافل وتقديم كافة الخدمات للتخفيف من غائلة الفقر والمرض ورعاية أبناء السبيل. كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى اتجاهات سلبية في الاستمرار الحضاري، وبتعبير آخر أخذ التخلف يضرب جذوره في الأرض الإسلامية والعربية حتى أضحت لقمة سائغة لاستعمار الحضارة الأوربية الحديثة، وبالرغم من الزعم أن حركة التحرر من الاستعمار التقليدي كانت على أسس قومية بحتة فإننا لا نغفل عن أن إطارها العام كان يدور في فلك الهمة الإسلامية التي فرضت القداسة وروح الجهاد في سبيل الله؛ فهي التي ردت المغول والتتار على أعقابهم، وحررت الأمة من الاستيطان الصليبي، وهي الشعلة التي أضرمت روح المقاومة ضد الإنجليز والفرنسيين في المشرق والمغرب العربي، وهي النار التي تلهب الصهاينة بعمليات الاستشهاد الفدائية في فلسطين بشكل لم يكن له مثيل بنفس الدرجة في تاريخ الجهاد العربي والإسلامي؛ إذ إن القضية أضحت بين اختيارين: نكون أو لا نكون بأرضنا وأهلنا وعقيدتنا. بين حضارتين.. ما موقفنا؟ على هدي ما سبق نجد أننا إزاء عالميْن وحضارتيْن فيهما سمات مشتركة بحكم انتماء كل من فيهما إلى الإنسانية؛ فطرتها ومصادر الحياة الكونية والمعرفية وبعض المصالح الاقتصادية، وأخرى سمات متباينة بحكم الاختلافات التاريخية والبيئية الجغرافية والسياسية والثقافية والدينية ومستويات التنمية المتقدمة والأخرى المتخلفة، ويبلور ذلك كله المفارقات الكائنة في نوعية وأساليب الحياة. وغني عن البيان أن نوعية الحياة في الغرب قد ارتبطت أساليبها بوحشية النظام الإنتاجي الرأسمالي، وضرورة ضمان أسواق له في شتى بقاع العالم، وابتداع نظام الشركات المتعددة الجنسية وحمايتها بكل السبل، إلى درجة تبرير التدخل العسكري السافر. وأخيرًا قهر الدول للانضمام إلى اتفاقية الكات التي ستؤول فوائدها بشكل جوهري إلى الدول الأكثر تقدمًا على حساب الأخرى المتخلفة والأقل نموا. أهم من ذلك بكثير أن الغرب يتصور واهمًا أن حضارته ومدنيته أسبق وأفضل الحضارات والمدنيات، ولها الحق في قيادة غيرهم من سائر البشر، يساعدهم على ذلك تمكنهم بسيطرة القوة والإرهاب بالتهديد والوعيد لمن لا يكون معهم أو في صفهم كما حدث مؤخرا في تداعيات الحادي عشر من سبتمبر 2001 والأزمة الأفغانية، والسكوت والصمت القاتل عن جرائم الحرب الإسرائيلية في فلسطين. والسؤال الذي يفرض نفسه بالضرورة: كيف يمكن تقديم الإسلام للغرب في ظل ما سبق عليه القول؟ والشقة بين الحضارتين بعيدة، وأسباب ابتعادها تكمن في تضارب المصالح أولا، وفي الصورة الذهنية المشوهة عن الإسلام بفعل كثير من المفكرين والمستشرقين ثانيًا، وخبرات الشعور بالعداوة التاريخية الصليبية ثالثا، وسلوكيات مخالفة للإسلام وروحه بين المجتمعات الإسلامية ودولها وحكامها رابعًا، وأخيرًا –وليس آخرًا- الفتنة الصهيونية الكبرى حاليا بما تحمله من تدابير وموجات هجوم إعلامية مستمرة لا تهدأ، ولا يقابلها بالمثل على الأقل تيارات إعلامية عربية إسلامية مضادة تكشف زيف المسيحية الصهيونية، وتصحح مفاهيم الغرب عن الإسلام. هنا تبرز بالضرورة أهمية تصحيح الصورة الذهنية لدى الغرب عن الإسلام. ولكن يسبق ذلك -في رأيي- تصحيح المفاهيم الأساسية في العالم العربي الإسلامي، وتنقية التراث من شوائب البدع والغلو، والاتجاه نحو الوسطية والاعتدال وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ، والسير قُدما نحو تحقيق دعائم الاستخلاف وتنمية المجتمعات العربية الإسلامية، والأخذ بأسباب القوة بالتقدم المعرفي والعلمي والتقني، وتطوير المنظومة التربوية والتعليمية في إطارها الإيماني. خلاصة القول أن الإسلام بقيمه الإنسانية في العدل والحرية والمساواة يجب أن ينعكس في ضروب السلوك الاجتماعية والسياسية لدى الشعوب والحكام. وهذا هو السبيل الموضوعي لقناعة الآخر بإنسانية وعالمية الإسلام وجدوى حضارته. وحتى يتحقق ذلك فلا يخلو الأمر من أهمية الدراسة والبحث والتخطيط المحكم لتنشيط حركة الدبلوماسية الاجتماعية والشعبية ومنظمات المجتمع المدني على المستويات الإقليمية والدولية، وتوثيق الروابط والخبرات بين الشخصيات والمنظمات الثقافية والجامعية في الغرب والشرق. وهذا كله وغيره لا يغني عن جهود مستمرة لتطوير السياسة الإعلامية الفضائية، ووضع منهجية ملائمة للخطاب الإسلامي الموجَّه للشعوب الغربية والآسيوية والأفريقية وغيرها، وإن كان الأمر المُلِحّ في الوقت الراهن هو التركيز بهذه الجهود في العالم الغربي الذي احتدَّت فيه نغمة التخوف من الإسلام وأهله، وتحامل فيه منظروه ومفكروه على كل ما ينبثق من العالم العربي الإسلامي من تيارات فكرية وحركات إسلامية تبغي تثبيت الهوية الإسلامية، وتسعى للتحرر الوطني والتنمية المتواصلة نحو الحياة الطيبة التي تجمع بين حسنات الدنيا والآخرة.
#محمد_عادل_التريكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلام وحوار الأديان
-
الإسلام والأديان الأخرى
-
إشكالية الإجهاض من الناحية القانونية
-
الإسلام السياسي مغالطة علمانية
-
الإسلام والغرب
-
ابن رشد ومستقبل الثقافة العربية
-
تأصيل الحداثة وعصرنة التراث
-
المرأة في المجتمع الإسلامي
-
أي منظور لمستقبل الهوية في مواجهة تحديات العولمة؟
المزيد.....
-
“فرح أطفالك طول اليوم” استقبل حالا تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|