|
الإنسان المعرفي .. إنسان التنوير
محمود كرم
الحوار المتمدن-العدد: 2810 - 2009 / 10 / 25 - 00:37
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كانت ولا تزال صناعة المعرفة بمختلف حقولها وتفريعاتها وأنماطها وتشكيلاتها ، طريقة الإنسان الذاتية في ميادين اختراع الحياة النابضة بدفق التطور والعطاء والفن والسعادة والجمال ، ولذلك كان الإنسان هو ذلك الكائن الذي يبرهن بالمعرفة وصناعتها على وجوده وكينونته وماهيته وتأثيره ، وعلى تفلسفاته وأدبياته وإبداعاته ، بل وعلى تفرده وجنوحه ونزوعه أيضاً ، وما كان من فلاسفة التنوير إلا أن أطلقوا على هذا الكائن ( إنسان المعرفة ) ، من حيث إنه قد أصبحَ شغوفاً بالمعرفة ومتلذذاً بصناعة فنونها وحقولها ومساحاتها الفسيحة ، وقد ذهبَ الفيلسوف نيتشه إلى تعريف هذا الإنسان بالكائن ( المقوّم ) وفقاً لتعبيره ، أي أنه هو الذي يمنح الأشياء المعاني ويقومها ويزنها ، ويهب الحياة حضوره المعرفي الإبداعي والخلاق والمتجدد ..
هذا الإنسان الذي أخذَ يعي وجوده وكينونته وذاته عبر تحولات وتوثبات فكرية ومعرفية وتاريخية ، أصبحَ في مقابل ذلك يعي أن صناعة المعرفيات الإنسانية من مهماته العقلية والذهنية بدءاً وأصلاً في خلق الوقائع والتصورات والمفاهيم والأساليب والمستويات ، ولذلك كان أن اتسمت الذات الإنسانية بالذات المفكرة والذات الناطقة والذات المسؤولة والذات الواعية والذات الإرادية ، وما انتجته الحداثة الفكرية في عصر النهضة والتنوير في أوروبا من فتوحات معرفية خلاقة في حقول الفلسفة والاجتماع والعلم والأدب والفن وغيرها ، انطلقت في الأصل من وعي الإنسان العميق بوجوده وكينونته وإرادته عبر التأسيس الفكري والثقافي والواقعي المكثف لقيم ومفاهيم الحرية والعقلانية والذاتية ..
يتضح من ذلك أن المعرفة التي أسسَ لها هذا الإنسان الشغوف بصناعتها ، ادراكاً خلاقاً وحراً لوجوده الإرادي والعقلاني والذاتي ، هي المعرفة التي تبدأ بالسؤال ، ولا تنتهي عند ذلك ، بل تستمر بالسؤال مجدداً ، وتبقى هكذا تتخلق تجدداً مستمراً في منابت السؤال ( أي معرفةٍ لا تؤدي إلى أسئلة ، تموت ) كما تقول الشاعرة البولندية فيسوافا ، إنها المعرفة التي أخذت تستوعب نزوع الإنسان العقلي الحر نحو استثارة السؤال ، تأكيداً على طريقته الذاتية الموضوعية في اشباع حاجته المستمرة للسؤال ، فالسؤال في أبجديات الإنسان المعرفي انعكاس جلي لطريقة ذاته المفكرة في البرهنة على تجربتها المعرفية في مجال الخلق والتفكير والاستنتاج والتطور ..
وعليهِ وجبَ أن نقول ونتساءل : مَن يقدر على طرح السؤال ، وتوليد الأسئلة تلو الأسئلة .؟ إنه ذلك الإنسان اللايقيني ، بمعنى ذلك الكائن القادر على توليد السؤال وطرحه واستثارته معرفياً ، لأنه من غير أن يبقى متساءلاً يجد نفسه وقد تلاشى في فراغات الحطام والعدم ، أو يجد نفسه سادراً في خدَر العبودية والاستلاب ، إنه لا يقدر إلا أن يبقى في مدارات السؤال حاضراً ومشككاً وقاهراً ومفكراً وناقداً ومجرباً ومستنتجاً ومخطئاً ومتعلماً ، بل وجاهلاً أيضاً ، ( علينا بشكل دائم أن نكون مستعدين لإكتشاف إننا قد أخطأنا ) كما يقول الفيلسوف كارل بوبر ، فهذا الإنسان المعرفي أصبحَ يعي أن اليقيني والحتمي والمطلق والنهائي اغتيال مبرمج للمعرفة الإنسانية ، ولذلك كان عليه أن يتخلق معرفياً في هجير الشك والقلق والنقد والتفكير ، ومن هنا يكون السؤال حضوراً فعلياً وتفاعلياً في حضرة المعرفة ، إنه بمعنى أدق يستوجب تفعيل حضوره الإنطولوجي الذي يتعالق فكرياً مع رحابة اللايقين واحتمالاته وتفسيراته ومنطوقاته ، ويتعالق انفتاحاً وتصالحاً وتوافقاً مع ذاته المفكرة والمتساءلة والناقدة ..
وبما أن الإنسان المعرفي معنيٌ أصلاً بصناعة الحياة التواقة إلى الخلق والتوثب والتجدد والفعل الإبداعي ، أصبحت المعرفة لديه في تمثلاتها الواقعية وفي تعالقاتها المكانية والزمانية ، تعني التأسيس الفكري لعقلية الانفتاح على الحياة بشتى ألوانها وتنويعاتها وتشعباتها ، فهي المعرفة التي تتقصد صناعة الحياة الحرة الدافعة إلى التنوع والاختلاف ، لأنها معرفة مفعمة بالحيوية تنتفض على الاقتعاد والجمود ، ولأنها أيضاً معرفة ناطقة ، تستنطق المعاني والأعماق وما وراء الأشياء وليست خرساء تتلقى حقنات التلقين الديني والوراثي باستسلام وبلادة ، ولأنها كذلك معرفة محفزة تتوثب فكرياً في حلبة السؤال والنقد والتفكر ، ترفض الخمول والتكلس والارتداد ، ولأنها في الجوهر معرفة ترتقي إلى مدارج الاكتشاف بالمجازفة والاقدام والجرأة ( وحدهم الذين يقومون بالمجازفة يمكن أن يكتشفوا إلى أي مدى يمكنهم البلوغ ) كما يقول الشاعر الانجليزي تي إس إليوت ..
وهي قبل ذلك في الأصل معرفة تنويرية تحمي الإنسان من الجهل بذاته ، أي تجعله في عمق ذاته متوازناً معها ومتيقناً من إنها هي التي تفكر وهي التي تتعالق موضوعياً وفكرياً مع مسارات الحياة ، وليست نهباً للنزعة الجماعية أو الجمعية ، إنها الذات المقتنعة ادراكاً حراً بقدرتها التفكيرية والتساؤلية ، بها يواجه الإنسان المعرفي الحقائق وعوالم الأشياء ، رافضاً ثقافة الاستلاب والوصاية والاستعباد ..
ونستطيع حتى على سبيل التدليل أن نرى صورة الإنسان المعرفي وقد تجسّدت في الفلاسفة الإنسانيين منذ فلاسفة زمن الإغريق ، ومن ثمَّ مروراً بديكارت وكانط وهيغل ونيتشه وهايدغر وغيرهم ، لقد استطاع كل واحد منهم بفلسفاته وفتوحاته المعرفية الخلاقة أن يخلق فضاءه المعرفي الفلسفي الخاص برؤيته المعرفية إلى الحياة والإنسان والوجود والأشياء ، والذي اندرجَ في تصور ومفهوم ذاتي خاص بكل واحد منهم ، ولكنه قبلاً وفي الأصل قد تأسسَ بدءاً هذا الفضاء على معرفة كل واحد من هؤلاء بذاته المفكرة والمثابرة ، والتيقن من قدرتها على التحرك بعيداً في مجاهل الحياة والاستعداد تالياً لمواجهتها وخوض غمارها ..
من ذلك يتبيّن لنا أن الإنسان المعرفي هو ذلك الكائن الذي يبني عالمه المعرفي استحضاراً فعلياً ودائماً لتجربته الذاتية التفاعلية في اشتباكاتها الفكرية الأولى مع تموجات الشك والسؤال والقلق ، بعد أن يكون قد استوعبَ تشبعاً بوعي جمالي مختلف المعارف الإنسانية السابقة ، إنه حينها يصبح مفعماً بالاستعداد الذاتي نحو بناء عالمه المعرفي ، انطلاقاً من ذاته في تجربتها وعوالمها الخاصة ، يستلهم منها طاقة الوعي أساساً جديداً ومتجدداً للمعرفة الخلاقة ، مؤسساً بها كيانه المعرفي سبيلاً يعتمد عليه في فهم واجتراح طرائق التفاعل المعرفي مع ما يريد ومع ما يفكر فيه ، ومع لابد من التفكير فيه ، ومع ما يمور في أعماقه ، ومع ما يوجد وما لا يوجد من حوله ، إنه بذلك يحقق كينونته العقلية الساعية دوماً إلى امتلاك إرادة المعرفة أساساً يتجذر في ذاته ، معززاً بها فهمه لأهمية أن يكون إنساناً معرفياً ينهض بمهامه التنويرية الحرة في الحياة ..
#محمود_كرم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأفكار بين التأمل وموهبة الخلق
-
ما معنى أن يتمنّى الإنسان
-
وقاحة مفضوحة
-
الإنسانيون ( 4 من 4 )
-
الإنسانيون ( 3 من 4 )
-
الإنسانيون ( 2 من 4 )
-
الإنسانيون ( 1 4 )
-
القناعات وَهْم البدايات
-
تلك اللذة العليا
-
ثقافات بلا منطق
-
زرقة الغياب
-
بحث في بنية العقل الديني
-
الحوار الحر ينتصر للإنسان
-
الإنسان .. من الغيبية إلى العقلانية
-
الجمال والحرية .. فلسفتان في البياض الشفيف
-
حينما يأتي الربيع في أوبسالا
-
الأساس الفلسفي للأفكار الحرة
-
الانتماءات وهْم .. الحقيقة أنا وأنت
-
الخلق والتطور في الفكر الحر
-
الإنسان ... فراغ مطلق
المزيد.....
-
شاهد.. رئيسة المكسيك تكشف تفاصيل مكالمتها مع ترامب التي أدت
...
-
-لم يتبق لها سوى أيام معدودة للعيش-.. رضيعة نٌقلت من غزة لتل
...
-
وزير الخارجية الأمريكي يتولى إدارة وكالة التنمية الدولية، وت
...
-
شهادات مرضى تناولوا عقار باركنسون -ريكويب-: هوس جنسي وإدمان
...
-
شاهد: الرئيس السوري الإنتقالي أحمد الشرع يؤدي مناسك العمرة ف
...
-
باريس تُسلِّم آخر قاعدة عسكرية لها في تشاد.. هل ولّى عصر -إف
...
-
أول رئيس ألماني يزور السعودية: بن سلمان يستقبل شتاينماير
-
لماذا تخشى إسرائيل تسليح الجيش المصري؟
-
-فايننشال تايمز-: بريطانيا تستعد للرد على الولايات المتحدة إ
...
-
الرئيس السوري أحمد الشرع يصدر بيانا إثر مغادرته السعودية
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|