|
طلال مداح آخر فحول الأغنية الطربية
عادل بشير الصاري
الحوار المتمدن-العدد: 2806 - 2009 / 10 / 21 - 16:05
المحور:
الادب والفن
كان سقوط الفنان الكبير طلال مداح على مسرح المفتاحة بأبها ووفاته صبيحة الحادي عشر من أغسطس من عام 2000 م إيذانا بنهاية عصر ريادة الأغنية العربية المعاصرة ، وقد مضت الآن على ذلك الحادث المؤلم الذي شاهده الملايين أكثر من تسع سنوات ، ومن المؤسف حقا أن ذكرى وفاة طلال مداح هذه السنة قد مرت مرور الكرام كغيرها من السنوات الخوالي، إذ لم يتكرم سوى عدد محدود من الإذاعات والمحطات الفضائية بالوقوف عند هذه الذكرى ، حيث قامت بإذاعة أشهر أغاني الفنان والإشادة بصوته وألحانه . هذا الفنان الكبير لم ينل ما يستحقه من الاهتمام والتنويه بخدماته وإضافاته للموسيقى والغناء العربي ، ففي حياته لم يسعَ كما يبدو إلى الشهرة والإثارة الإعلامية كما سعى إليها غيره من معاصريه الذين كانوا يلهثون وراء المسؤلين لأجل إذاعة أغانيهم ، وبعد مماته ازداد إهمال وظلم ذوي القربى له ، إذ إن أكثر المحطات الفضائية التي تمولها أموال سعودية تبث أغانٍ لكثير من مطربي الخليج، وقليلا ما تبثُّ أغاني لطلال مداح ، ولو علم المسؤلون عن هذه المحطات ، وكذلك المهتمون بشؤون الإبداع الفني في السعودية قدر هذا الفنان العظيم ، ومكانته وما قدمه للأغنية العربية لشيدوا له في إحدى ساحات العاصمة الرياض تمثالا ، أو سموا شارعا كبيرا باسمه ، لكن حظ هذا الرجل أنه عاش في بيئة كُتِب عليها أن تقع رهينة في قبضة عتاة شيوخ الفقه البدوي الوهابي الذين يحرِّمون الغناء وسائر الفنون ، لأن عقولهم الساذجة والمغيبة في الدهاليز المظلمة أوهمتهم بأن الفنون مفسدة للأخلاق ، وتشغل المسلم عن ذكر الله . وإزاء هذا التجاهل المتعمد لفن طلال مداح فإنه لا عجب أن تجد قطاعا كبيرا من محبي الغناء الخليجي والمهتمين بتاريخ الغناء العربي عموما في القرن الماضي يجهلون معظم أغانيه ، ولو سألت عددا من هؤلاء عن أغاني طلال لأجابك بأنه يعرف أغنية أو أغنيتين مثل مقادير وسويعات الأصيل . لكن مع هذا فإن عددا كبيرا من عشاق فن طلال مداح وأصدقائه قد نهضوا بمهمة نبيلة لا يقوم بها عادة إلا المخلصون الأوفياء من ذوي الهمم العالية ، حيث افتتحوا بعد وفاة الفنان موقعا يهتم بجمع أعماله ، وفي هذا الموقع لا تزال تنشر بين الحين والآخر تسجيلات لأغانٍِ وحفلات وجلسات لم تكن معروفة من قبل ، وتعد من نفائس تراث الغناء العربي . إلى جانب هذا تقدم منذ بضع سنين الملحن السعودي الدكتور عدنان خوج ببحث عن الفن السعودي ممثلا في صوت الفنان الراحل طلال مداح نال به درجة الدكتواره من جامعة السوربون الفرنسية . والحق أن طلال مداح يستحق بجدارة هذا الوفاء من قبل محبيه وعشاق فنه ، فهو وكما أشاع عنه بعد وفاته معاصروه وزملاؤه من الفنانين والأصدقاء أنه كان إنسانا متواضعا عزيز النفس عفيف اللسان محبا للبساطة والأريحية في التعامل، صاحب نكتة بامتياز، وأن الرجل كان سمح التعامل مع الكبير والصغير، وتروى عنه روايات عن كرمه وحبه لفعل الخير ومساعدة المحتاجين تشي بحسن خلقه وجميل سجاياه ، وأظن أن طلال مداح ما كان له أن يحتفظ لنفسه بهذه السجايا لولا اجتنابه الدخول في معامع الوسط الفني، فالمعروف عنه أنه كان بعيدا كل البعد عن سلوكيات هذا الوسط الموبوء عادة بالمكائد والفضائح والفساد الخلقي . قضَّى طلال أكثر سني حياته راهبا يتعبد في محراب الطرب والتلحين ، حيث بدأ بتعلم العود والغناء في الحفلات الخاصة في منتصف القرن الفائت ، وفي أواخر الخمسنيات قرأ كلاما جميلا أعجبه ونصه ( وردك يا زارع الورد ... فتَّح ومال عالعود) ، حينها أخذ العود ولحَّن الكلمات ، وحين أذيع اللحن لأول مرة جُنَّ به الكثيرون ، وأخذت الطلبات تنهال على الإذاعة لأجل إذاعة الأغنية ، وهكذا ظلت تذاع في اليوم الواحد أكثر من مرة ، ولعل سبب نجاح هذه الأغنية هو جدة لحنها المكوَّن من ( كوبليهات ) متعددة ومختلفة ، فقد كانت الألحان في ذاك الزمن تعتمد على مُذهَّب واحد مكرر، ويّعد كثير من متتبعي الفن السعودي تلك الأغنية بداية انطلاقة الأغنية السعودية المعاصرة ، وهو ما أكده الدكتور عدنان خوج في بحثه المشار إليه آنفا . تعامل طلال مع الكلمة الشعرية العامية والفصيحة بذائقة فنية مميزة ، فقد كان يختار أجود الكلمات وأمتعها وقعاً في النفوس ليغنيها أو ليلحنها ، والمستمع الجيد لألحانه لا بد أن يستنتج أنه صاحب مدرسة مميزة في التطريب وصاحب ذوق فني رفيع يتسامى عن التكرار والتقليد والاكتفاء باجترار الموروث الغنائي ، ويسعى دائما إلى التجديد ومفاجأة المستمع بكل لحن ممتع جديد . قدَّم طلال من خلال أغانيه وألحانه ألوانا مختلفة من الطرب الحجازي والخليجي والحضرمي والشرقي والمغربي ، وقدَّم الموال وبرع في أدائه بأنماط موسيقية مختلفة ، وكان يختار من عيون الشعر العربي القديم والحديث أبياتا تكون مقدمة لإحدى أغانيه ، وأحيانا كان يختار نصا شعريا فصيحا ويلحنه ، كما فعل مع المقطع الأول من قصيدة نزار قباني ( اختاري) ، التي قام فيما بعد الفنان العراقي كاظم الساهر بتلحينها وغنائها . ويعد طلال من أوائل من قدم الدويتو ، فقد اشترك مع المطربة اللبنانية نزهة يونس في ستينيات القرن الماضي في أداء أغنيتين هما كحيل الطرف وتذكرته مع النسمة ، كما وجد من بين التسجيلات التي تركها جلسات دويتو خفيفة مع عدد من الفنانين مثل محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي وعتاب وفوزي محسون . لقد أدى طلال باقتدار الأنماط الموسيقية المختلفة ، ولا غرو في هذا فقد أنعم الله عليه بصوت تميز بنعومته وصفائه وعذوبته ، كما تميز بلثغته الخفيفة المحببة إلى الأذن الموسيقية ، ولربما للمتأمل في إمكانيات هذا الصوت أن يعمد إلى مقارنة أدائه لأغنية واحدة عدة مرات ، ليكتشف إمكانية صوته وقدرته على تنويع الأداء وسلاسة الانتقال من مقام موسيقي إلى آخر، ومن المؤكد أن الفنان العظيم محمد عبد الوهاب قد انتبه مبكرا إلى إمكانات صوت طلال ، لذلك أثنى عليه في عدد من جلساته الخاصة ، وشبَّهه بزرياب المغني الأندلسي القديم ، كما أوصى من يعرفهم من السعوديين بالاهتمام بهذا الصوت الساحر، وكانت نتيجة هذا الإعجاب أغنية ( ماذا أقول ؟ ) الشهيرة . ظل طلال مداح برغم منافسة الفنان محمد عبده له وظهور أجيال جديدة من المطربين المتربعين الآن على سدة الغناء الخليجي شامخا قويا عصيا على الإزاحة والتغييب ، ومات وهو في أوج عطائه الفني، فأثبت بهذا أنه جدير بريادة الأغنية العربية في وقت رحل فيه عنها روادها الأوائل ، وريادة الفنان تُعرف بكثرة الجيد من أعماله ، ولو أن أبا عبد الله لم يُغنِِ سوى ( مقاديرـ سويعات الأصيل ـ زمان الصمت ـ مرمر زماني ـ ليلكم شمس ـ يا صاحبي ـ وعدك متى ـ سلم الطائرة ) لكان مستحقا لزعامة الأغنية الخليجية بدون منازع ، أما وأنه قد غنى مئات من الأغاني الأخرى الجيدة، فإنه في نظري جدير بأن يوضع في المكان الذي يستحقه مع نظرائه من رواد الغناء العربي في القرن العشرين ، فهو بلا شك قد ترك بأغانيه وألحانه بصمات واضحة في تاريخ الموسيقى والغناء العربي . ولئن كان بعض النقاد في مجال الشعر يعدُّ ون الشاعر محمد مهدي الجواهري آخر فحول الشعر العربي، ففي مجال الغناء والطرب أعدَّ طلال مداح آخر فحول الأغنية الطربية التي بدأ مسيرتها سيد درويش وزكريا أحمد ثم أكمل مشوارها لفيف من مطربي ما بات يُعرف الآن بالزمن الجميل مثل محمد عبد الوهاب فريد الأطرش سيد مكاوي وغيرهم .
#عادل_بشير_الصاري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصر التي لم تعد في خاطري
-
المرايا المقعرة الإلحاد والإيمان وجها لوجه
-
إسلام بلا فقهاء ولا دعاة
المزيد.....
-
-الهوية الوطنية الإماراتية: بين ثوابت الماضي ومعايير الحاضر-
...
-
بعد سقوط الأسد.. نقابة الفنانين السوريين تعيد -الزملاء المفص
...
-
عــرض مسلسل البراعم الحمراء الحلقة 31 مترجمة قصة عشق
-
بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية.. العراق يقرر
...
-
كيف غيّر التيك توك شكل السينما في العالم؟ ريتا تجيب
-
المتحف الوطني بسلطنة عمان يستضيف فعاليات ثقافية لنشر اللغة ا
...
-
الكاتب والشاعر عيسى الشيخ حسن.. الرواية لعبة انتقال ولهذا جا
...
-
“تعالوا شوفوا سوسو أم المشاكل” استقبل الآن تردد قناة كراميش
...
-
بإشارة قوية الأفلام الأجنبية والهندية الآن على تردد قناة برو
...
-
سوريا.. فنانون ومنتجون يدعون إلى وقف العمل بقوانين نقابة الف
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|