|
سماء تنذر بشتاء قاسٍ
محاسن الحمصي
الحوار المتمدن-العدد: 2806 - 2009 / 10 / 21 - 11:09
المحور:
الادب والفن
"إن أجمل البحار هو ذلك الذى لم نذهب إليه بعد وأجمل أيامنا لم نعشها بعد وأجمل ما أود أن أقوله لك لم أقله بعد"
(ناظم حكمت)
يسلمني القلق إلى الأرق، فيغدو جسدي نهبا للسعات الفكر المتحفز وقرصات الألم، وأهم بدخول المنطقة المحظورة في ذاكرتي، فتدخل أمي بكوب من عصير، تتبعها أختي بصحن من الفاكهة وأخي بكيس ورقي، يبسطه أمامي وهو يضحك: "أحضرت لك تشكيلة من كل الأصناف، الشامي، اللبناني، الأمريكي، اليوناني". وتبدأ عروض الترغيب في قضم لقمة من كل لون.. التفاح يزيل الشحوب ويعيد النضارة إلى البشرة.. منشط للدورة الدموية، يبعد شبح الجلطات، يقوّي الدم، رائحته تنعش القلب، الاستحمام بشامبو بنكهة التفاح يمنح الجسد نشاطا وحيوية.. حبة منه في الصباح يعطي......
أفكر بصوت عالٍ : "حين تستعبد المشاعر القلب، و تلغي حرية التفكير ولغة العقل تشعر بالضيق و بأنك مسجون داخل قبو مظلم لا ترى به ضوء.. إلا ضوء عينيك المتعبتين، ولا تملك أن تهاجر إلا إلى نفسك لتحررها من الرّق، الذي بعت إليه أحاسيسك المرهفة، فتصطدم بجدار مرفوع على أساس أنت اخترت بناءه،وأنا استعبدتني تلك الرابطة، وحولتني إلى آلة رقمية.. تضغط على أزرارها، فتتحرك شمالا و جنوبا، شرقا وغربا، وتسير نحو هاوية التلاشي، وتلك الرسائل القصيرة تؤنس وحدتي، تربطني بحبال الأمل.. أستعيد حروفها تحت سماء تنذر بشتاء قاس، وهطول أمطار مبكرة، فيرتعش جسدي، وتهطل دموعي !". - كفى... من قال إني أحب التفاح.. لاأحبه. بشرتي صافية، دمي يتدفق في شرايني، قلبي ينبض حــــــد الوجع. يكفي أن يكون سببا في وجودي على أرض الشقاء بدلا من أرض الجنة..!.
أترك الشرح المستفيض عن منافع وفوائد تلك الفاكهة، لأتنفس برائحة أخرى.. تستوقفني صورة الشاعر الراحل محمود درويش على شاشة التلفزيون. تأبين شعري بمرور سنة على رحيله.. يااااااااه ..! سنة طويت من عمرنا، عام انقضى.. تلتهب الذاكرة وتشتعل، بذلك الصوت الرخيم يسألني بحدة: - أين "أثر الفراشة" ؟ - استعارته أختي. أستعيده غدا.. أعلم أنه يحبه ومعجب به. أراه شاعر النخبة بعد أن كان شاعر الجميع، وهو يراه الأفضل والأنضج. يجلس بجانبي يبدأ في إلقاء الأبيات، ككل مساءٍ، وأصبحُ الفراشة التي تحّوم حول الحروف، والكلمات وطريقة الإلقاء الساحرة..
أتجه نحو الحديقة حافية القدمين، والحشائش الخضراء من شلال عيني تحت خطواتي ندية .. في ليلة ينام فيها البدر في حضن السماء ، للشهر الثالث، وأنا أبحث عن حضن غائب، للشهر الـــ...!. تــقبل وجنتي الخيوط الفضية وتربت على شعري.. فتلسعني كلمات تعنيف: - كيف قصصت شعرك الطويل، ولم تستأذني؟.. - وهل أحتاج إلى إذن في شأن خاص! ؟ ليستمر التوبيخ أياما.
عظيم هو في كل شيء، لكنه ليس بكامل. الأمر والنهي، النظام والترتيب، الدقة في المواعيد والتحركات، كأنني معه في ثكنة عسكرية واستنفار دائم، لكنه عاشق بارع ورفيق درب حنون.
أيقظني فجرا بعد ليلة صاخبة من الدموع والنقاش والإقناع: هيا الطائرة لن تنتظر الكسالى !.
"أنا أعشق السفر، يخرجني من الدائرة المغلقة، دائرة العادي والمألوف، قبل السفر، لابد من التعب حتى لا ننسى شيئا قد يغيظنا إن نسيناه، وبعده لابد من العودة للعادي والمألوف مجددا، هذا يتطلب جهدا وجدانيّا إن كانت الرحلة ممتعة، المهم قلبي معك، وأنت تستعدين لرؤية الأحباب، اتعبي قليلا وغدا تستمتعين، أيتها القطة التي أشتاق إليها من الآن..!".
الخوف يحلق في أجواء نفسي، أخاف الرحيل إلى مكان بلا ذاكرة، يرعبني البعاد، و ترهبني أيام أنت لست فيها، يقلقني انتقالك في غيابي إلى عالم مجهول يقلب حياتك، ويعيدك إلى نقطة البداية في التأقلم والعمل والوحدة والمدة الزمنية التي ستأخذك مني..!.
"تشعّب الحوار حول القلق، وأعتقد بأن الأمر لو استمرّ على هذا المنوال فإن حواراتنا ستظل تدور في دائرة مغلقة، وهذا ما لا أريده.. كنت أظن أننا عبرنا معا بحر المناقشات المتعلقة بالقلق.. فلا أنا مراهق تخشين نزواته، ولا أنت المرأة الغبية أو الجاهلة. سفرك مؤقت، وسفري سيجلب لنا الراحة إلى الأبد، إن هيأتِ لي الظروف النفسية وأفسحت المجال لاستعادة توازن حياتي الجديدة.. وهأنا اشتريت لك مجموعة من الكتب، "موبايل"، شاشة حاسوب، وكاميرا ليكون تواصلنا دائما حتى نلتقي. دعيني أستعدّ لقدومك واستقبال يليق بك، لا تستلمي للأوهام، وانفضي عنك غبار الخوف". ... ينتفض جسدي مع كل رنة "موبايل"، كل رسالة قصيرة، وأجلس أمام الحاسوب أنتظر..!.
يشغله الانتقال، يتعبه التكيف مع الناس، البيئة، الجو، العمل.. وأتعبهُ في اتصالاتي: "أرجوكِ أنا أقود السيارة في الزحمة، ويجب أن أصل سريعا لدفع فواتير إيصال النت إلى البيت… أنا في اجتماع أتصل بك لاحقا… الأثاث مكدّس، أعطني فرصة لأنتهي من الفوضى…".
تباعدت الاتصالات، اختـُصرت إلى دقائق، خفت الصوت، ثم سكت الموبايل..!.
أحاول العيش على حيز صغير من الأرض اسمه الواقع، أتناسى الغياب قبل أن يفترسني الشك اللعين، أرسم أحلاما، لكن الألوان تخرج باهتة من رأسي، وأستعيد أيام فرح تمنحني تماسكا لتحمل أيام غدت رمادية.
الصمت الطويل.. يضعه في شبهة الشك: أيعقل أن يأخذ الانتقال القسري والمفاجئ العواطف المتأججة، ويحيلها إلى برود ونسيان نصفه الآخر؟ ألا يحتاج إلى دفء الكلمات؟ ألا يحتاج لدعم عاطفي يستمد منه قوة للمتابعة؟ ألم ينس حتى عيد ميلاده.. ويتعمد إقصائي من دوامة التغيير،لأكون في أمان ولأصل إليه على بساط من حرير؟ أيّ أمان وأنا أتقلب على جمر الغياب، ونار الظنون، ونظرات القلق تحيط بي، واهتمام من حولي يدعوني للتمالك والصبر، و بأن كل هذه الأيام ستكون لصالحي، ومن أجل راحتي.
يطرق عيد الفطر أبواب الناس بالبهجة، وفرحتي كانت بحجم الحياة حين نطق أبو الهول: - كل عام وأنت حبيبتي، هانت، لا تخافي. أيام وأستقر لنعود إلى سابق عهدنا ونكون معا. أعرف أن صمتي يزعجك.. أمهليني أسبوعا آخر ، صدقيني أنا مثلك مرهق ومتعب. الحياة هنا صعبة، والتأقلم يزيد من توتر، لا أريده أن ينعكس عليك..!
- تعبت من الانتظار ، شحبت، تجمدت، أشتاق إلى النوم على وسادة صدرك، لا أريد بيتا، ترفا، حياة مخملية، مكاسب مالية، وأخسرك أنت، خذني إليك قبل أن أذوب كملح الأرض، دعني أطلق سراح أجراس روحي لتقرع معك، وإلى جانبك. وعدتني ألا تطيل الغياب، وكلمة الرجل مربوطة من لسانه..
- لن تخسريني، أنا معك قلبا وقالبا، ألا تدركين كم تعذبت بوحدتي كل تلك الشهور.. لا رفيق، لا سند في بلد أحبه وأعجز عن تصنيفه حضاريا.. أهو عريق أم بدائي الحياة؟ تمتّعي في رحلتك الجميلة، أمسكي النجوم وعدّي الأيام حتى نلتقي يا حلوتي !. أطوي الأسابيع كما يطوى كتاب ممل، لا ألقيه على الأرض، احتراما لكاتب تعب في صياغته، بل أضعه على الرف وألغيه من ذاكرتي.. وهأنا أجلس- هنا - تحت شجرة التفاح وارفة الظلال، ثمارها تناكفني، تتساقط حولي، أقضم قطعة بطعم المرارة، وعبر آلاف الأميال، في ذلك البلد المكتظ المتناقض بالقبح والجمال، يرتفع مبنى حديث، وفي الطابق السادس ينساب صوت كوكب الشرق أم كلثوم عبر الشرفة : " أغدا ألقاك ؟ يا خوف فؤادي من غد يا لشوقي واحتراقي في انتظار الموعد آه كم أخشى غدي هذا، وأرجوه اقترابا كنت أستدنيه، لكن، هبته لما أهابا " وقبالة أمواج البحر الأبيض، هناك.. على المقعد الوثير.. يجلس ظلي..!.
كاتبة من الأردن 17-10-2009
#محاسن_الحمصي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصص قصيرة ..من وحي الأخبار
-
رُدّت الروح الى ..حنا مينه
-
ساعات من العمر مع الروائي..حنا مينه
-
نهايات
-
مشاهد من عرس الدم
-
رشفة قهوة بطعم الذكريات..!
-
قصص في حجم الكف9
-
قصص في حجم الكف 8
-
قصص في حجم الكف 7
-
نصف ساعة... ونصف...!!
-
قصص في حجم الكف 6
-
قصص في حجم الكف 5
-
العروس
-
خط الأحلام
-
قصص في حجم الكف4
-
قصص في حجم الكف 3
-
ويطول الدوار ...!!
-
إشاعة موووووووووت...!!
-
حروف ربيعية ..!!
-
على سفر..!!
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|