|
قصة قصيرة
صالح البدري
الحوار المتمدن-العدد: 2799 - 2009 / 10 / 14 - 10:18
المحور:
الادب والفن
قصة قصيرة :
( محيسن .. مازال يبكي ) ؟؟
تكوَّم - متنهداً - بجانب إبنه الصغير البكر والوحيد ( محيسن ) ، والذي ظل يبكي طوال يومين متتاليين لأنه يريد ثوباً وبنطلوناً جديدين . ثوباً يخفي ماظهر من جسده ، ويحلم معه ( ببنطلون ) بنصف عمر على الأقل ، كي يتحاشى نظرات أقرانه في المدرسة أو في المحلة ذات البيوت العالية الحديثة على طريق بيتهم القديم ، والذي تآكلت جدرانه بفعل عوامل الفقر والعوز والحاجة !! نظر بأنكسار طويلاً بأتجاه إبنه المُحمّر العينين ، وحيث عجزعن ترضيته على الرغم مما يبذله من تدليله إياه ، وحيث يراه الأبن مشجعاً لبكائه ، ولأنه يشعر بطعمه لأول مرة منذ أن بدأ يعي حياته ووجوده ، وفشل الأب عن إيقاف تشنجه المستمر ولأنه يدرك جيداً مايريده إبنه ، ويدرك أيضاً بأنه عاجز الآن عن شراء الثوب والبنطلون ، خاصة وأن على ذمته للخياط (أبو عباس) ديناراً واحداً ، هو أجرة خياطة ثوب كان قد لبسه بعد أن ترك سلك الشرطة ، حينذاك تصدّر مقهى (الطرف ) فأنهالت عليه التهاني والتبريكات كالبرق بمناسبة إرتدائه ثوباً جديداً وبمناسبة تركه لسلك الشرطة أيضاً . وكانت أصواتهم تتبادرالى سمعه صادقة ودودة : - تقطعه بستين عافية .. - بالعافية أبو محيسن .. تهانينا بالتسريح .. شعر لأول مرّة بأنه إنسان ، وبأن هناك من يسلم عليه ويقدره ويشغل باله به ويبتسم بوجهه ، بعد سنوات طويلة من القطيعة واللامبالاة والنسيان !! حتى أنهم دفعوا عنه ثمن (إستكانأً) من الشاي ، تقديراً له . نهض مودعاً جلاسه ، ولكنه وعند قيامه ، كان هناك مسماراً ظاهراً على الكرسي الخشبي الذي جلس عليه لم ينتبه له ، كان قد أحدث الطعنة الأولى في إنشراحه ومسرته معهم . ولم يشعر إلا وثوبه قد تمزق من الخلف . نظر الى مكان (الطعنة) طويلاً ، ثم بصق على الكرسي وعلى هذا المسمار المتطفل اللعين ! زفر زفرة طويلة ومشى حزيناً ، متألماً ، مستغفراً ربه . ومنذ تلك اللحظة ، إفتقد لذة لبس الأشياء الجديدة ! قطع عليه بكاءُ إبنهِ تذكارات تلك الأيام، وقاد عربة بيع النفط التي يجرها حمار هزيل، لكنه صاح بكل قوته وكأنه لم يأبه لصراخ ولده : - نفط .. نفط .. نفط ... تطلع إليه جاره الجنوبي البشرة مواسياً ومتسائلاً : - محيسن يبكي ؟ شنو مشكلته اليوم ؟؟ لم يجبه . وأستمر ينادي على بضاعته وتعالت صيحاته . نظر الى عربته المحملة بالنفط ، والى حماره الهزيل الذي بالكاد يستطيع أن يجرها في هذا الصباح ، ثم عض على شفته السفلى وقال مخاطباً برميل النفط : - إشوكت راح تخلص ؟ سمعه جاره وشاركه : - الله كريم أبو محيسن .. إنتظر .. يخلص . - ماجايب همه يا أبو فيصل ! بكاء إبنه على الثوب والبنطلون أخذ يقطع نياط قلبه ، والثوب والبنطلون الجديدان سيكلفانه الكثير وهو رب أسرة كبيرة تضم جوقة من الأطفال وجدة مقعدة وأم مريضة لاتقوى على غسل ملابس البيوت المجاورة العالية ، حتى ولا تستطيع أن تبيع كما النساء الأخريات السمك أوالخضار أو الملابس العتيقة ، كما في أيام شبابها يوم كانت تعيل أباً وأماً وأخوات قبل زواجها . أوقف العربة ومدّ يده ملا طفاً إبنه المنتحب : - ولا يهمك إبني .. راح أشتري لك الثوب والبنطلون ، بس خليني أبيع هالغضب هذا! وأومأ بيده الى برميل النفط الممدد فوق العربة كالقتيل . إلاّ أن ( محيسن ) لم يقتنع وهو يرى أطفال الطرف ببنطلوناتهم الزاهية والحديثة وثيابهم الأنيقة الملونة ، مما أدى كل هذا الى جره لنحيب مستمر ، أثار أبيه الذي لم يستطع الصبر أو التحمل . سحب عربته مقهوراً ، يتبعه إبنه الى مدخل السوق الكبير بأتجاه محلات بيع الملابس القديمة وأختارله ثوباً وبنطلوناً جاهزين من دكان الحاج ( عودة ) لبيع الملابس المستعملة (اللنكات) ، وقال له : نهاية النهار ياحاج ، سأدفع لك . وغادر السوق مع ولده . وهز الحاج رأسه ببطئ معلقاً : لا يالمسكين يا أبو محيسن !! الله يرزقك . علق جاره ضاحكا بشماته وهو يفتل شاربه : هذا إذا رجع مثل ما قال ؟ رد الحاج : لا لا .. أبو محيسن خوش آدمي .. يرجع .. الرجل معروف بالمحلة . فجأة ظهر الفرح والأستبشار على وجه ( محيسن ) وهو يحتضن ثوبه بكلتا يديه كمن يحتضن عصفوراً يخاف عليه ألايطير منه ! أثارت هيئة ( محيسن ) الجديدة أولاد (الطرف) و لفتت إنتباههم له . تقدم نحوه أحد الصبيان ونظر إليه غير مصدق ، ثم ضحك ضحكة ساخرة منادياً على أصحابه الذين إلتفوا بدورهم على ( محيسن ) مبتسمين بخبث . قال أحدهم : - ثوب جديد ..؟ قال آخر : - وبنطلون ..؟ قال ثالث : لنكات !! ردد وراءه الآخرون : ( لنكات ) .. ودوت ضحكاتهم الساخرة .. وأخذوا بالصفير والتعليقات والترديد . تكور ( محيسن ) في مكانه خائفاً ، وتدخل أبوه راجياً الأولاد الأبتعاد عنه . لكن كبيرهم قال مخاطباً ( محيسن ) : تعال وإلعب معنا ؟ أحاطوا به من كل جانب ، وهم يجذبونه الى وسط الشارع مرددين : ثوبك حلو .. حلو ..! حتى إتخذ الترديد شكل أغنية ، إستمتع بها بعض المارة ، وضحك البعض الآخر.. مرددين معهم الأغنية وهم يطلون برؤوسهم من شرفات البيوت المطلة على الشارع . حاول ( محيسن ) التخلص من قبضاتهم والعودة الى أبيه الذي تصلب بجانب عربة النفط ، لايقوى على الكلام من الخجل والخوف ، كي لا يجرح مشاعر أبائهم وإمهاتهم فيمتنعون عن الشراء ، أو يجبرونه على مغادرة محلتهم بتهمة الأساءة الى أطفالهم . حاول ( محيسن ) التخلص منهم ، إلا أن الأطفال يحيطونه بقوة ككلاب مسعورة منفلتة ، فضاع بينهم باكياً مستنجداً ، وأبوه حائراً مكتفياً بالتوسل فقط ومن بعيد . وظل هكذا فترة مابين ترديدهم وصراخهم وتكالبهم على إبنه الذي كان ينادي على أبيه صارخاً وبدون فائدة ، حتى تركوه كالفريسة التي إنقضّت عليها نسور جائعة نهمة ! ظهر ( محيسن ) بعد أن إنفضوا من حوله بثوب وببنطال ممزقين وهو يبكي مولولاً مكسور الخاطر . حتى أن ما كان خافياً من جسده النحيل قد ظهر مرة أخرى . وإزداد بكاؤه أكثر من السابق وهو يقترب من أبيه الذي سحب حمار العربة بقوة ، رافعاً رأسه الى أعلى ، مواصلاً سيره ومنادياً : - نفط .. نفط ... نفط .....
************************************* [email protected] النرويج 2009
#صالح_البدري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
وعود انتخابية للبيع!
-
لماذ القائمة المغلقة؟
-
مطلب وطني لا خيار انتخابي
-
انتخابات جديدة.. عهد جديد
-
كلمة أخرى لشهقة القلق(قراءة في قصيدة - مثل ليل - للشاعرة ظبي
...
-
مدائح أخرى لقامة البحر
-
في حقول الريح إلتقيت صراط عينيها
-
الاشتباك مع دانتيل النص
-
غيمة أخرى وتكتمل سماء فراري: بحث عن رصيف
-
شعب محكوم بالأعدام :إن عاجلاً أم آجلاً ؟؟
-
الأفق .. والربيع ؟؟
-
الأفق ..والدمع
-
مونودراما
-
صوت منها وبها
-
معاينة في بلورة الجسد: مواجهةقراءة في قصيدة (نورس البلور) لل
...
-
اذ يتعلق وجع الاسم بأهداب البحر: مساءلة (قراءة في نص - وجيعة
...
-
ملف الأنتخابات والدولة المدنية والديمقراطية في العراق
-
حجر في مهب التساؤلات:إغتراف(قراءة في قصيدة-الى محمود درويش ا
...
-
صلاة في قيظ مهجور
-
التواضع كلمة لا تناسبني*
المزيد.....
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
-
مركز أبوظبي للغة العربية يكرّم الفائزين بالدورة الرابعة لمسا
...
-
هل أصلح صناع فيلم -بضع ساعات في يوم ما- أخطاء الرواية؟
-
الشيخ أمين إبرو: هرر مركز تاريخي للعلم وتعايش الأديان في إثي
...
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
-
فيلم -الهواء- للمخرج أليكسي غيرمان يظفر بجائزة -النسر الذهبي
...
-
من المسرح للهجمات المسلحة ضد الإسرائيليين، من هو زكريا الزبي
...
-
اصدارات مركز مندلي لعام 2025م
-
مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|