غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2797 - 2009 / 10 / 12 - 00:17
المحور:
الادب والفن
رواية زمن الانتباه - حسني
- 1 -
عادة لازمته, يتحسس جيوبه قبــــل أن يغــــادر البيت، وقبل أن يرفع قدمه ليصعد إلى الشاحنـــة, يطمئن على الهوية، ويندس بين العمال رقـمـــاً من الأربعة آلاف عامل, تـبتلعهم بوابات مصانع بولجات للنسيج.. حسني أصبح عامل نسيج, البداية كانت صعبة, والأخطاء كثيرة متلاحقة، والتوتر يلفه، يتحول إلى غضب في نهاية الأسبوع عندما تفرز ماكينة الفرز عيوب عمله، وتتحول العيوب إلى أرقام, والأرقام إلى نقود تخصم من الأجرة, قانون العمل بالقطعة غير مسئول عن أخطاء العامل, والماكينة لا تخطئ, الإنسان هو المخطئ في كل مرة, وفي نهاية الأسبوع يلعن ذهنه المشتت بين الآلة والقضايا الأخرى.. يتألم, حتى عقله يساهم في استغلال جهده ويوقعه في الأخطاء, والخطأ غير مبرر في المصنع, وجهاز الفرز تحت الرقعة الصوفية يظهر النتوءات والفجوات وأماكن الخيوط الضائعة, ويتحرك القلم الأحمر ويخطط, ويخصم من الأجرة.. وفي نهاية الأسبوع يكاد ييأس من قدرته على استيعاب العمل, وتبدأ محاكمة من نوع آخر تدور في رأسه المتعب. الآلات حديثة ومعقدة, تكنولوجيا, ميكنة وجهل.. العامل الذاتي, والعامل الموضوعي, والتكنولوجيا كلمة لينة ولذيذة على الألسن, تتحول إلى قوانين ونظريات, وتسري على الألسنة تهويمات وأحلام وردية, وملكية وسائل الإنتاج حلم الأحلام.. الآلة عالم جديد, ودورة الإنتاج في مصانع بولجات شيء آخر, الصراع مع الزمن, المهارة, الدقة, اليقظة, ذوبان الأعصاب, عوامل ترفع أو تخفض من الأجرة في نهاية الأسبوع, وقانون العمل بالقطعة مزاوجة الوحدات بالزمن, ولو على حساب قدرات الإنسان البيولوجية, والمهارة كلمة معلقة على لسان حسني، لم تتسرب بعد إلى أطرافه التي لم تتعود ربط الخيوط فور قطعها, عقله المشغول ينتبه إلى ضوء التحذير في الماكينة بعد فوات الأوان, وتمضي الرقعة الصوفية مع عيوبها, ويجن, ثم ينسى, وتتراكم العيوب, والعمال من حوله يتوحدون مع الآلات, تروس آدمية تكمل حركة تروس الصلب, قوتهم بالأحصنة الآدمية توازي قوة الموتورات بالأحصنة الميكانيكية.. والأحصنة الآدمية تعمل تحت سياط لقمة الصغار, الظهور تقوست, والعيون انسحبت من محاجرها, تقفز مع المكوك تلحم خيوط السداة القادمة من مصانع "ولز" ومغازل هضاب "الانجوراه " ويذوب اللحم الآدمي لتنمو الرقعة الصوفية ملساء ناعمة, تصدر إلى بيوت الأزياء, وتتكامل هندسة التكنولوجيا على أجساد عارضات الأزياء ترسم أحدث تشكيلات الموضة, والأجساد التي فقدت انسجام أعضائها تقف في نهاية الأسبوع تلهث خلف الأجرة .. هل تصبح هذه الأجساد موضة.. ويلهث حسني مع العمال, وتتبخر الأجرة على ماكينة الفرز,.. ويتمتم مقهوراً :
- العقل المنظم يأتي عملاً منظما, لابد من محاولة أخرى...
ويضرب جبهته السمراء, ويصحو على آلام الناس من حوله, وبولجات جمعت العمال من كل المناطق, حشد يتلاشى ويتجمع, والوردية قانون التلاشي والتجمع, والمصنع يدور بلا توقف, ثلاث دوريات في اليوم.. كفاءة تشغيل رأس المال قانون اقتصادي يتضح جيداً في المصنع, وامتصاص قوة العمال من المناطق المحتلة أمر واضح أيضاً والشاحنات تذرع البلاد طولاً وعرضاً, والبوابة تبتلع العمال في بداية الوردية وتقذفهم في نهايتها ذبالات رجال.. المصنع فم أسطوري لا يشبع, وأنت يا حسني رقم من الأربعة آلاف عامل, تكبر الأمور في عقله، ومن حوله الرجال, زعيق العمال, السعال وثرثرة الرفاق على الأرائك الوتيرة, أمور وأمور.. ويصعد حسني في نهاية الوردية, ينهد على أرض الشاحنة, قليل من النوم يمتص عذاباته ...
- 2 –
غطس حسني في الكرسي, واعتمد على كوعه حتى لا يغوص في إسفنجة الكرسي.. ثرثرة الرفـاق والأصدقاء من حوله تطنّ في رأسه لغة غريبة تصله من عالم آخر, والسيــجارة بين أصابعه تذوب, فيما راح يتأمل الدخان الثعباني, يتلاشى قبل أن يصل إلى سقـف الغرفة وانتبه على الدكتور غسان يقهقه مشيراً إليه:
- إيش أخبار كوادرنا العمالية ...؟
ومصَّ الدكتور غسان سيجارة"الروثمان" ثم دعكها في المطفأة, وغاص مع إسفنجة الكرسي وطقطق أصابعه فلمع جلده الأبيض، ولمعت شعيرات شقراء نبتت على جلد الأصابع بحياء, زمّ حسني شفتيه وبلع ريقه, لم يدرِ لماذا حضرت إلى ذهنه أغنية طفلية ينشدها أطفال المخيم.. أهي أصابع غسان؟.. أم هي نقرات الأصابع التي راحت تدندن على الطاولة؟ لكن إيقاع الأغنية ألح عليـــه
أصابع البوبو يا خيــــار
أمو بتحـــبه يا خيــــــار
وأصابع غسان الطرية ما زالت تدندن على الطاولة، وبهدوء سحلت الكلمات من فمه الوردي تسأل, والكوادر العمالية تعتمد على كوعها حتى لا تغوص مع الكرسي في بيت المضيف.. هل رأيت يا دكتور أطفال المخيم الذين يحلمون بأصابع البوبو, وأجنة الخيار التي نمت بأصابع أطفال المخيم, وأصبحت شيئاً يأتيك إلى سوق المدينة, تحولت فيك إلى بشرة بيضاء وشعر أشقر وأصابع تدندن, وصمت حسني, ماذا يقول.. هل يحدثهم عن عذاباته في مصنع بولجات ؟.. هل يحملون همومه في صدورهم ؟ لا, هو متأكد من ذلك, وراح يتأمل المطفأة المحمولة على تمثال من الأبنوس الأسود اللامع, تحفة بديعة لامرأة عارية, افريقية حسناء ترفع ثدييها النافرين إلى أعلى, ويخرج دخان الأعقاب من قمة رأسها, أحضرها صديقهم المضيف من أوروبا لتزين غرفة الجلوس, والدكتور غسان يسأل عن الكوادر العمالية.. وساد صمت وبعد فترة عدل الدكتور ربطة عنقه ووزع ابتساماته ونظر في ساعته, ترقص عيناه في وجهه, وأصابعه مزمومة في جيب بنطاله:
- عن إذنكم ..
- بدري.. مقعدناش يا دكتور..
- معلش, اليوم معزومين على الغداء, قلت أقعد معكم أتسلى, تكون هالة استعدت..
وتناهت إليهم ضحكاته مع المضيف:
- يا سيدي الواحدة منهم تقعد تلبس ساعتين ...
ومضى الدكتور وعادوا للثرثرة, وغسان شاب لطيف والحضور يشهدون, وها هو يتركهم بلطف, لم يعرف أخبار الكوادر العمالية, وهالة تمضي نصف نهارها أمام المرآة, تضع الماكياج بالقطعة, والدكتور يدفع بكل سرور, ولا يستخدم جهازاً لفرز العيوب, فكيف يكتشف العيوب, وهالة تحفة المجالس, وضيفة الموائد, يستحلب الجميع ريقه لمرآها, وحسني تنتظره زوجته يوم السبت, يغادرها ويأتي لمجالس الثرثرة, ويعود لها مع نهايات النهار, ويحتويها في الليل, ويرتعشان نشوة، يقتله ضمور صدرها, ويقهره بطنها الذي لم يتكور بعد رغم تناسق الأنثى في حضنه، وبطنها تـكور مرة ولم يكتمل, وبقيت الدمعة معلقة على أهدابها، لم تجف، ولم تسقط.. وها هو غاطس في المقعد، وزوجته يدق قلبها مع كل خيال يقترب من طرف الزقاق, والدكتور يسأل عن الكوادر العمالية, ويمضي ليمتشق هالة, وتساءل حسني هل تتعرى هالة مثل زوجته, أم أن لها أساليبها الخاصة, وهل تستطيع أصابع البوبو مداعبة رغباتها المشبوبة, وخجل من تصوراته, ولسعت السيجارة أصابعه, فأشعل سيجارة جديدة من العقب المحتضر, ومصَّ الدخان بغير تلذذ، والثرثرة من حوله, والعمال الموضوع الأزلي.. صاحب العمل, التغريب, وسائل الإنتاج, والأيام حبلى بالأحداث, وتشعبت مواضيع الثرثرة, مشروع المملكة المتحدة محادثات, الكيلو 101, الثغرة في الدفرسوار.. والحسناء الأفريقية صامتة تحمل نفايات المثقفين,.. وخطر بباله, ماذا لو اشتعلت الحسناء وسط الغرفة فجأة؟ كم يكون الذعر على المقاعد والإسفنجات, نظر في بعض الوجوه من حوله, ... واستحضرهم في زمن سابق, في الزنازين وعنابر السجون, سنوات المحاورة, والمناظرات وملخصات الكتب والإضرابات, واستحضر رجالاً ما زالوا هناك.. علي منصور,أبو العطا, أبو الفهد, اللداوي والتركيز على البداية, والحذر المطلوب, والقسم للرجال الذين ما زالوا, وخرج زملاء قبله ولم يبدءوا.. وها هو يخرج ويلتئم الشمل ثانية, على المقاعد والثرثرة, وحكايات الذكريات, ويكـتشف أن البداية من مجالس الثرثرة مستحيلة, البداية من الشوارع, من جيران المخيم, من ساحات العمل, ومقاهي العمال,.. وتذكر حواره الأول مع جاره محمود الذي تركه حانقاً, وتساءل حسني, لماذا كان محمود حانقا؟ .هل الحوار معه كان امتداداً للثرثرة, ولكنه أحس بمحمود يتعذب, يريد شيئا ملموساً, يريد عملا, كانت البداية مهزوزة, لكنه لم يفقد الصلة به, واستمر اللقاء, واكتشف أن محمود طاقة تفاجئه كل يوم .
- 3 -
كان يوم سبت، وكانت المقابلة بالصدفة, يومها وجد لديه الرغبة في الجلوس على مقهى المخيم بدلاً من عذابات الأرائك, فاكتشفت أن المقهى يعذب أكثر, ولكن عذابات من نوع مميز, يومها التقى بجاره محمود, وبعيداً عن صخب الشارع وزعيق الباعة, جلسا في ركن المقهى تصلهم جلبة السوق، وضحكات الرجال، وصوت اصطفاف الحجارة على طاولات الزهر.. انشد نحو محمود الذي يجلس وحيداً ساهماً يراقب الناس، فانضم إلى جاره الذي لم تتعد علاقتهما أبعد من السلام كلما التقيا, لا يدري يومها كيف بدأ الحوار؟ كان الشاب أنيساً واندفع الحديث ليناً على لسان حسني، إذ شعر أن جاره يحاول أن يستوعب ما يقول, وسرعان ما اندمج محمود وأصبح محاوراً:
- زي ما أنت شايف يا محمود, الرأسمالية مهما أعطوها من أسماء, لا تهدف إلاّ لاستغلال الناس وتحويلهم إلى عبيد, شوف العمال, بقايا رجال:
- والحل يا حسني..
- الحل توعية الناس.. الفائدة للناس اللي بتقدم جهدها وعرقها مثل العمال, لازم ما حدا يشاركهم في عملهم, لازم تبدأ الأمور من التوعية.
- يا حسني أنتَ من الناس اللي ضحوا, ودفعوا من عمرهم سنين, أنا شايف أن وضعنا صعب, لازم صدام.. حياة أو موت..
- ما هي التوعية جزء من المعركة ..لكن..
وصمت محمود وشرد بعيدا, نفس الحديث، وتذكر أستاذه ناجي.. توعية.. ثورة.. إضراب, وعندما بدأ الضرب، لبس أستاذه البدلة وشدَّ ربطة عنقه وغادر المخيم, وذهبت ساق والده وتوزع الرجال والنساء, وأستاذه يطالب بالتوعية, وعندما اتضحت الأمور أمام الناس، شطب الأستاذ حساباته، وراح يمشي في شوارع المدينة, وعندما سأله عن الأخبار مط بوزه وارتبك وكأن الأمر لا يعنيه, هل حسني يلحق الأستاذ ناجي, ولكن حسني عامل مثله, وزوجته لا تعرف بوابات المدينة, ولا رباطة العنق, وسأل حسني:
- قوة العمل, وملكية وسائل الإنتاج, تُطبق بعد الاشتراكية ولا قبلها؟
- التطبيق بعد طبعاً.. لكن لازم العمال تفهم المطلوب منها.
- يعني لازم تغيير الأوضاع.. لازم صدام وبعدين كل شيء سهل بعدها تنحل الأمور.. المهم الاحتلال يا حسني.
محمود يقذف عذاباته, لم يتوقع حسني أن الشاب يتعذب, وراح يبحث عن مدخل بسيط للحوار, القضية أكبر من جلسة مقهى, هل عادة الثرثرة التي مارسها على المقاعد غلبت عليه, ونظر في وجه محمود, آثار السهر بادية على بياض عينيه,.. حمرة خفيفة تحيط البؤبؤ, والبؤبؤ حسير في العين المجهدة, الشاب ذابل, وأحس برغبة طاغية في اكتشاف هموم عامل شاب, وخرج محمود عن شروده:
- اسمع يا حسني، الأرض ضاعت، رأس المال مع اليهود، والإدارة مع اليهود، والفائدة لليهود، والشغل علينا، والجوع ورانا.
.يتمتم حسني, الجوع ورانا.. الاحتلال والتجويع والتغريب وقهر الإرادة فينا ويواصل محمود:
- يا حسني العلة فينا إحنا, الناس مش حاسة إن احنا عرب, قاعدين نبني لليهود ونزرع لليهود .. يا راجل شغلني عند عربي عرص أهون, على الأقل يستغلني صحيح لكن ما يشتري بالأرباح دبابة تبرطع في المخيم، وتصلبني في نص الليل..
عربي.. رأسمال عربي.. مشاريع عربية.. رأسمالية وطنية تحت الاحتلال.. مشاريع تستوعب القوة العاملة العربية.. العربي ليست أمامه فرصة عمل.. الاقتصاد في المناطق المحتلة ملحق تابع.. لا بد من مشاريع وطنية,.. وتجلت له تجربته في مصنع الخياطة عند سرحان.. الواقع متشابك والتناقضات كبيرة وكثيرة.. وعيون الشاب تزداد حمرة.. والبؤبؤ يتوارى.. واستأذن محمود, مضى متثاقلاً, وجزم حسني أن الشاب يبحث عن ساعة نوم.. محمود يقذف الأمور في وجهه ويمضي, لكن الإصرار بدا واضحاً في عيني الشاب بدون مقدمات وسجائر مشتعلة, وأخذ حسني يحدق في الناس بين أزقة المخيم, وسرت الراحة في أوصاله, واستبشر, رغم أن تساؤلات البسطاء بدأت تحاكمه بحـدة..
- 4 –
العمل باعد بينه وبينهم,وعطلات السبت تجذبه نحو محمود، فيحبه أكثر, يقترب منه أكثر, ولكن الحنين يشده للأصدقاء الرفاق, يتصل بهم, ويتصل بأخبار المدينة وغالباً ما يتردد في الذهاب إليهم.. لكنه الحنين, رفاق أيام ورحلة عذاب.. وبدايات قد تتجدد, وعلى أمل الفعل لا بد من التواصل والحوار, قد يتضح شيئاً, قد تشدهم الولاءات, والخروج من القوقعة أمل يعذبه، ولابد يعذبهم أيضاً لكن للمقعد الوثير سحره.. وسحابات الدخان الرمادية تتكاثف في سقف الغرفة, والسجائر تصبح أعقاب, وعروس الأبنوس الأفريقية ترفع وعاء الأعقاب إلى الشمس تُشهدها على اللعبة, وخيل إليه أن بشرة الأبنوسة تتبدل من الأسود ِإلى الأبيض, ويتكور ثديها, ينز حليباً أبيض, وبدايات جنين يتشكل في سرتها,.. ورأى زوجه تجدل شعرها المنتوف حبل نجاة للطفل.. تخلصه من أسره, وخيل إليه أن الرفاق يحاصرونها, يسرقون جديلتها ويصنعون منها وعاء نفايات, وخيل إليه أنها استغاثت به منهم, فصرخ:
- اتركوها.. أنها..
كان يتعذب, ونظروا نحوه باستغراب, وكانت عروس الأبنوس تزين غرفة الجلوس كالعادة، استند على كوعه, وواصل الأصدقاء حديثهم,.. حاول أن يستعيد حلمه، فشل, فاستعاد حالاته مع زوجته في المخيم,.. عذاباتها وشوقها لطفل..
تعلقت أنفاسه بالقرميدة المكسورة في السقف وأصبحت طاقة إجبارية لريح الشتاء, وتمزق كيس النايلون الذي وضعه مكان القـرميدة.. كانا تحت البطانية واللحاف اليتيمين, ورغم البرد تعرى وتعرت له, خبأت جسدها الممصوص المرتعش في حضنه,.. لسانها يعبث بشعيرات صدره.. وتلهث.. تعذبه ويعذبها.. برغم الحياة المستعصية يستعذبان الأرق, يحس فيها أكثر من أنثى.. هي واثقة أن بطنها لا بد يتكور يوماً.. ولكنها مشتاقة لذلك, لقد ارتفع يوما, ويوم داهموا البيت رفسوها، أجهضت, وغاب في السجن سنوات, عاشرت الجوع والخوف والأيام العجاف, وخرج ليجدها قطته الأليفة كما تركها، عروس طفلة شحت عليها الموارد.. عصرت حبة ليمون ودعكت جسدها, ورطبته بأوراق البرتقال، يلمع جلدها أملساً ناعما فواحاً في الليل, يشتاق لها، تزعنف بقدميها تحت اللحاف تهمس:
- حسني..
صدره يدق, تصمت, ترتد حالاته مع دقات صدره.. سألها:
- راجعت الدكتور؟
- اليوم طمأنني, كل الفحوصات كويسة..
التفت نحوها مشدوداً:
- ايش قال؟
همست بدلال:
- ما فيش عندي حاجة, وأنت كمان ما فيش عندك حاجة, المسألة مسألة وقت, وصبر..
وأشاحت بوجهها بعيداً عنه ودارت دمعة, نهنهت.. غطى رأسيهما باللحاف.. أكل شفتيها, احتواها وكان فحلاً..؟ هل يتشكل الطفل في أحشائها يوما..ً وتناهى إليه صوت أحد الجلوس الأصدقاء:
- حسني مر بالتجربة ..
واستفسر حسني عن الموضوع.. لاحظوا سهومه..
- مالك يا راجل قاعد معنا ... وأنت مش معانا ...
- وين أنت سارح؟
- أبداً.. سرحت شوية .. ايش الموضوع؟...
- موضوع ضرب العمال .
- آه.. موضوع ضرب القنابل على باصات العمال,.. أيام ما كان في الدنيا قـنابل, فهمت..
وصمتوا لسماع حسني.. وبقي ساهماً لم يعلق.. هم يعرفون أن قناعاته قد تغيرت في السجن, وهم الذين ساهموا في تغيير هذه القناعات, بهرته يومها تحليلاتهم العميقة, وعاش على ثقافتهم وسعة إطلاعهم.. وخرج على أمل اللقاء بهم خارج الأسوار والبدء من جديد, ينفذ حلمه على القناعات الجديدة.. هل يعترف لهم للمرة الألف, أنا حسني, أقر وأعترف أنني ساهمت بضرب باصات العمال, واكتشفت الخطأ بعد الاعتقال, وعدت عـنه، وبهرني علي منصور بتحليلاته .. هل أقول لهم من جديد أنا الذي سببت بتر ساق جارنا " أبو محمود " وأن محمود ترك المدرسة وطارد لقمة العيش بدلاً من أبيه.. وأنني اليوم واحد من طابور العمال.. ولا أرضى أن يضربني أحد.. هل أقول لهم أن محمود قريب إليّ.. وهو جاري ورفيقي.. يستوعبني وأستوعبه.. ومحمود لو حضر إلى هنا واستمع إلى حديثكم, سوف يصرخ فيكم, ربما يكسر هذه المقاعد على رؤوسكم, انتصب وغادر المكان صامتاً.. لم يرد على نظراتهم، وفي الطريق, لفحته ريح باردة وسرت قشعريرة سرعان ما تبددت.. ومضى يحث الخطى نحو المخيم, واشتاق لزوجته ولمحمود, وتمنى لو يزور أبا يوسف, يستأنس بحكاياته. يروعه الحزن العميق الذي يراه في وجهه محمود، وينقبض صدره, يتذكر ذلك الفجر, هل محمود ضحيته؟ وهل يعرف ذلك؟ كان ذلك في بداية احتكاكه بالشاب, ومع مرور الأيام رآه أكثر حيوية وحزماً, ومع ذلك لم يتخلص من عناء الإحساس بالخطأ الفاجع الذي ارتكبه..
كان فجراً كئيباً, والنهار ينبثق من بقايا ليل شتوي بارد, والريح قارصة تسرق الندى وتذروه في أركان الدنيا حبيبات صقيع, والعمال يتوارون من بين أسيجة البيارات, يلفون وجوههم من الصقيع وخوفاً من عابر سبيل يتعرف عليهم, الخوف والترقب يشل الأنفاس المعلقة بالإسفلت تنتظر الباصات, والباصات تزحف على الإسفلت حذرة تخفف من سرعتها, وقفز العمال من بين الأسيجة.. وقفز هو أيضاً من بين الأشجار, وطوح يده بأقصى ما يستطيع وقذف حمولته.. ودوى الانفجار, ودوت صرخة, ورأى رجلاً يتكوم عند عتبة باب الباص المشتعل, وانشقت الأرض عن الأحياء, وأطلق ساقيه للريح مع العمال المفزوعين, وبقى الأنين الملقى على الإسفلت مع صمت المكان, والصمت ضيف ثقيل يزور المخيم بعد الدوي, والناس تختفي في البيوت تترقب, تتناقل الأخبار, والدوريات سرعان ما تبرطع في شوارع المخيم, تطوف باللازمة اللعينة " انتبهوا.. وانتبهو.. ممنوع التجول.. انتبهوا " ... وحسني يصل حسني إلى البيت مشدوهاً, زمن الانتباه يسربله, ينتبه لدقات قلبه يتساءل حانقاً.. لماذا تكوم الرجل, لم يكن الرجال هدفه ؟.. الباص فقط لتخويف العمال.. لماذا لم يتأخر.. لحظة بين الأنين والخوف؟.. لكنه نفذ كما هو مرسوم له "بمجرد توقف الباص.. اقذف.. لا تترك للسائق مهلة للهرب بالباص", وقذف كلمح البصر.. وتكوم الرجل, وصرخته المكتومة ما زالت تطن في أذنيه, ورأسه يكاد ينفجر..
تحاشى الحديث مع زوجته كان قلقاً ، وكانت تعرف حالاته.. وزحف المساء.. والتوتر لغة مشتركة بين الأشياء, والصمت في المخيم ضيف ثقيل, حاول أن يبدد توتره, أدار الترانزستور صدح الراديو:
لوحنا عالقواعد.. لوحنا
ونفذنا العمليه.. وروحنا
ويا هلا..
ويا هلا تصدح في البيوت الواطئة.. تصعد بالأنفاس فوق مساحات القرميد, وفوق جميع اللغات, الأهزوجة عرس الكبار وترنيمة الصغار.. ويا هلا.. ويشق الصوت الرجولي هدوء الليل يوزع الدفء على البيوت "قامت مجموعة من قواتنا.." وتهدر الأهزوجة من جديد..
يا جماهيرنا الشعبية.. ثورة.. ثورة شعبية.
ووقع حنك حسني, استبدّ به القلق, الرجل الذي تكوم, أهله, أولاده, زوجته من جماهيرنا الشعبية, وضرب الراديو يسكته, يخفف من عذاباته,.. وفي اليوم التالي تقاطر أهل الحارة إلى المستشفى لزيارة أبا محمود الذي بُترت ساقه في ضربة الباص, والحزن لغة خرساء في الحارة..
ومضت الأيام واعتقل على قضايا أخرى غير الباص, وخرج, وها هو يصعد كل يوم إلى باصات بولجات, ماذا لو انشقت الأرض عن أحدهم, وقذف الباص الذي يقله مع العمال.. ومحمود يركب الباصات.. ويرى عكازة أبيه كل يوم.. هل يعرف محمود من الذي سبب بتر هذه الساق..؟ محمود امتص عذاباته, ومضى قلقاً ولكنه صادقاً، يريد شيئاً، صراحته مؤلمة في كثير من الأحيان, ولكنه قريب إلى القلب, لا بد من الاحتفاظ به في القلب, وشعر كم هو بحاجة لمحمود, حتى يفكر بطموحاته. .
في الأسابيع الأولى فكر يترك العمل أكثر من مرة, وكان يقنع نفسه أن العمل متوفر في كل المطارح, والسوق الأسود مفتوح على مصراعيه.. ولكن مصنع بولجات مركز تجمع لأربعة آلاف عامل, والعمل منظم, والاستغلال أيضاً منظم, والاحتكاك بالعمال ميسور, والعمال شباب في غالبيتهم, وعلاقة الود بدأت تنمو معهم, والشعور بالألفة والبساطة يطفو على الوجوه ساعة الغذاء, يشعر كم هو قريب منهم, خاصة أبو يوسف, هذا الرجل الأشيب, الخبير في صناعة النسيج.. حتى المنهيل يأخذ رأيه في بعض الأحيان.. وأبو يوسف أُمي, ولكنه يحمل قلباً كبيراً وهموماً أكبر, وحسني ظلّ أسابيع موزعاً يصارع عقله المشتت مع الآلة, ويحاول أن يقبض أجرته شبه كاملة في نهاية الأسبوع, وفي يوم وبعد الظهر سأله أبو يوسف:
- كيف الشغل يا حسني ؟
- مش ولا بد .
- هذي صنعة ملعونة.. كثير ما قدروا عليها ونطوا على غير شغل .
- وأنا شايف حالي راح أنط وراهم يا أبا يوسف .
- فتح عينك.. أنت ابن مدارس والعبرة في الصبر .
ودقه الرجل على كتفه:
- الواحد ما صدق يتعرف عليك ويتونس معك؟
الرجل يجامله من منا يستأنس بالآخر, أنت الذي تفرض احترمك على الجميع تحتاج منى المؤانسة, لكنه أحس بصدق الرجل ...
ويوماً بعد يوم نما في صدره حنين أخذ ينمو ويكبر نحو العمال, عذاب الورديات, الوقوف في الليالي الباردة وتمتم وقد أخذ القرار, يجب البقاء معهم, لا يعقل أن اطرد نفسي هذه المرة, فراق العمال صعب, والتساؤلات في عيونهم أنهار حزن, والبعد عنهم بداية إفلاس, وشخص ببصره بعيداً إلى المجدل, سجن المجدل, إلى بئر السبع, سجن بئر السبع, الرملة, سجن الرملة, غزة, سجن غزة, وكان العهد, وكانت الوصية..
- يا حسني البداية بدونهم إفلاس .
وسعل علي يومها سعالاً شديداً, تألم حسني والشباب, هذا الرجل المصدور ينهشه المرض ومع ذلك يعلمهم, يحاورهم أياما, كم ذعر من أخطائه يوم تعرف عليه وعلي أبي العطا وأبي الفهد, وكم بكى بعيداً عن السجناء, كلما خطر في ذهنه رجل يسير في المخيم بساق واحدة, والمخيم محتاج لكل ساعد وساق, لكل إصبع مهما كانت ضعيفة, ومن عسقلان إلى بئر السبع إلى الرملة تستقبلك حكايات, وتودعك حكايات, تلتقي بالرفاق, يحدثونك عنه وتجلس إليه يحدثك عنهم.. علي بدأ مع الفقراء وكان قليل الثرثرة, لا يحب صناعة البيانات, لكنه ترك بصماته, ترك خطواته في الشجاعية وعلى ألسنة الناس, وعلم الناس كيف تتعملق الأشياء عندما يصنعها البسطاء.. وصحا على أبي يوسف يلكزه:
- هه.. وين وصلت الغزالة؟.. شايفك سارح.
- أبداً.. بس شايف الشغلة بدها طولة بال..
- طول البال لازم في كل شيء.. والنسيج مش سهل يا ولدي.. عامل النسيج أيام البلاد كان يظل مربوط في جورة النول من آذان الفجر حتى يقول المغرب الله أكبر..
وضحك أبو يوسف واشتاق حسني لمتابعة الحديث, يجد راحة مع عفوية أبي يوسف الذي قلماً يتحدث عن نفســـه:
- كان أيامها النول يدوي يا حسني, كيف علمني الوالد رحمه الله, كان يربطني جنبه طول النهار, وعندما يصلي الظهر أو العصر يبل ريقي وأشتغل ربع متر, يرجع من الصلاة يلاقيني مخربش المسدية.. يقوم بالعصا يخربش جلدي..
ويقهقه أبو يوسف حتى تدمع عيناه من الضحك, وتبدو ملامحه أكثر شباباً كما لو رجع إلى تلك الأيام ...
- ساق الله على أيام زمان يا حسني والله أتذكرها كأنها صارت اليوم يا سلام.. أيام..
وتمنى حسني لو تخربش جسده ولا خربشة الدماغ والأعصاب التي تحاصره, أمثال أبو يوسف بالفطرة وهدوء الطبع تعلموا الصنعة على النول اليدوي, واشتهروا بالأقمشة في زمانهم.. الثوب المجدلاوي وقمباز الألاجه ووجه الأطلس.. أسماء لا يعي معانيها بالضبط ولكنها حالة حب كان يحدثه عنها والده كلما ذكر أيام البلاد ومواسم الحصاد, وكسوة العيال من سوق المجدل.. والمواسم تتوالى, والأجيال تنبثق من بطون النساء, وها هو حسني مع أبي يوسف في أكبر مصنع للنسيج في إسرائيل يبدأ من جديد, هل يغادر هذه المحطة مثلما ترك محطته الأولى, لا بد من الاستمرار, لابد من بداية, ولم تغب عن عينيه نظرات العمال في مصنع الخياطة, يوم جمع أوراقه تحت إبطه, كان جامداً أو حزيناً, انسلّ من المصنع مسرعاً قبل أن تنهمر دموعه, وترك العيون تطالبه بالبقاء, خرج يومها مطروداً,وها هو اليوم بين العمال من جديد, ووصية الرجال يوم نادى ميكروفون السجن:
- حسني عبد الخالق شحرور..
تخشب على صدورهم, وانفلت يغالب دموعه, لحقه أكثر من صوت من حلف القضبان, وتميز صوت أبي العطا:
- لا تنسى الناس يا حسني.
كيف أنسى, لقد اكتشفت الناس, عرفت الناس, بداية الطريق تلوح في الأفق, ومضى إلى الرجال الذين سبقوه إلى الخارج, هم يعرفون أكثر, لا بدّ أن لهم بداياتهم, فوجدهم قد قطعوا أشواطاً في الثرثرة, سأل الرجال, وعرف أنهم أغلقوا أبوابهم على أنفسهم, ومنهم من استهلكته لعبة الأيام والعيال.. هل تخرج الثرثرة بشيء, ولم تتعدى أحاديثهم رأس المطفأة المثبتة على رأس زنجية الأبنوس التي تزين غرفة الجلوس, يبنون القصور على خيوط الدخان الثعبانية..
- 5 -
كانت المناسبة احتفالية, شربوا نخب خروجه من السجن, عرفوه على رجال لم يعرفهم مـــن قبل, امتلأ نشوة, أن يحتفي به في هذا الزمن الصعب, نقر سرحان كأسه مرحباً.. وسرحان يومها اكتشاف بالنسبة له.. مناضل قديم, وكم في غزة من المناضلين القدماء.. ومضى الحديث شيقا, وعرف الرجل من أحاديث الرجال, كان سرحان خياطاً صغيراً في أطراف المدينة, خاض تجربة الخمسينات, واعتقل إبان العدوان الثلاثي, وكبر الخياط الصغير أصبح تاجر أقمشة, ثم صاحب مصنع للملابس الجاهزة.. مضت السهرة والحديث شيق, والجو حنون, وفي آخر السهرة شربوا نخب عمله في مصنع سرحان, كان فرحاً فالرفاق بحثوا له عن عمل وفي موقع ملائم.. مراقب عمل في مصنع الخياطة.. ضاجع ليلتها زوجته وكانت رغباته متفجرة فالمصنع تربة خصبة.. وشعرت زوجته بأحلامه, وتلوت في حضنه جذلانة.. ولم يستمر الحلم طويلاً, والأشياء ما زالت عالقة في الرأس.. وقف سرحان جامداً وحسم الأمر على حين غرة:
- يا حسني أنا قدرت ظروفك, وشغلتك عندي ...
- إيش يعني ؟
- المصنع مش لازمه مراقب.
مفاجأة لم يتوقعها, وان كان يقرأ في سحنته سرحان في الأيام الأخيرة عدم الرضا, بل التذمر من آماله ومشاريعه, ولكنه لم يكترث, اعتقد أن سرحان غير مستوعب للمشروع, ومضى يخطط لمشروع نقابة للعمال, وأقنع العمال, وتسرب المشروع إلى مصانع أخرى, وأخذ العمال يلحون عليه, فالرؤيا الناضجة للأمور بداية صحيحة, والبداية من مصنع سرحان أيسر وأسهل, وجاء اليوم, نقر سرحان على مكتبه بهدوء, مص غليونه, بشرته ناعمة ثلجية شفافة خيل إليه أن عروقه.. أمعاءه.. أجهزته الداخلية تطل كالثعابين من بشرته الثلجية تتحرك نحوه, تحاصره وتقذفه من المصنع! هل خاف سرحان من البداية؟ هل خشي ثورة العمال؟ هل هدده أحد من الخارج, والمشروع ما زال فكرة قد تتجسد, وقد لا تجد طريقاً ميسوراً, قناعة العمال واستجابتهم له بداية مبشرة, ماذا يقول لسرحان الذي يطرده, هل يستجديه البقاء، هل يرجع عن أفكاره وأحلامه, جمع حاجياته, وفي صالة المصنع تسمر, سحنته مقلوبة والعرق ينز منه, هل كان يستجدي اللقمة من سرحان كل هذه المدة, الرجال شربوا نخب عمل أم شربوا نخب صدقة, قدمها المناضل القديم, وأنتبه إلى صمت المكان, العمال والعاملات أوقفوا الماكينات وحدقوا فيه, ومسودات مشروع النقابة تحت إبطه, وتأرجحت أمام البؤبؤ دمعة سقطت على خده, وتعذب لأن سرحان شاهد دموعه:
- أشوفكم على خيــر..
وانطلق, وعند بوابة المصنع تناهت إليه أصوات الماكينات تدور, قذف بنفسه في زحام الشارع, ورشف دمعة انحدرت إلى فمه، وكان المذاق مالحاً, واشتاق إلى صدر المخيم, واشتاق إلى بداية جديدة, واكتشاف مدروس.. وها هو في مصنع بولجات.. وفوهة المصنع الأسطورية تقذف وتبلع, وعلاقات تنمو وتتجدد, واشتياق لأبي يوسف يتجدد كل يوم . واكتشاف الرجال في أزقة المخيم لذة, يتسع العالم, تكبر غزة في وجدانه,.. كم تحتوي هذه البلاد من حالات..
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟