أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية زمن الانتباه - الاستاذ ناجي















المزيد.....

رواية زمن الانتباه - الاستاذ ناجي


غريب عسقلاني

الحوار المتمدن-العدد: 2796 - 2009 / 10 / 11 - 06:03
المحور: الادب والفن
    


رواية زمن الانتباه - الاستاذ ناجي

- 1 -

يتدور قرص الشمس في بطن الشرق, ينشر الوهج, يحبو الصباح دافئ طفليُ يداعب الأجنة التي تململت في مكامنها, انتصبت تعدوا في الأزقة, تصعد الشمس إلى صدر السماء وتصبح الأجنة أطفالاً وصبياناً يركضون, وعلى الإسفلت يزرعون الإطارات.. يشتعل المطاط سواداً كثيفا تعلو ألسنة اللهب وترتدي الأمكنة السواد, وتفرقع الحناجر الصغيرة, يصعد الغناء, فالمخيم نثر الصبيات حول بوابات المدارس, ووصل المد إلى المدينة.. العرس حداد..
بالروح بالدم نفديكَ يا شهيد..
شعبيه.. شعبيه.. ثوره.. ثوره شعبيه..
على بوابات المدارس يقف المعلمون صامتون, محظور عليهم رياضة اللسان, فاللسان إذا تحرك يحرض, قانون الوظيفة والزمن احتلال, والأستاذ ناجي يلف ذراعيه حول صدره يعبره الهتاف يكبر في صدره يود لو يهتف معهم, لكن لسانه تكوم في فمه وصدره لوح ثلج.. آه يا ناجي..اللغة لهم والهتاف منهم والفرجة لكَ.. رفعت الستارة والناس صنعت أدوارها, الأطفال يرفضون لعبة المكياج والديكور, وطفلكً اليوم رضيع على صدر أمه, غداً يحبو وينتصب واقفاً, هل ستتركه يهتف مع الصغار, وتسمع صوته يفرقع مع الصبح, هل سترى الأرق على قسمات وجهه الصغير؟.. تابع ناجي القلق في عيون الصغار, هاله المنظر, العذاب على الوجوه الطفلة أمر مريع.. كيف يزاولون الغناء!! قرصته الأيام وتذكر يوماً مشحوناً كهذا اليوم.. عند طرف الزقاق كانت تنتظره, ود لو يقبلها ولكنه خشي من ردة فعل مفاجئ, ومن مرور عابر سبيل بالصدفة, وقفت أمامه ممتثلة صدرها عامر بالمنشورات وأشواق أنثوية مثيرة, ضغط على كفها وداعب أناملها وهمس:
- قرأتِ الكتاب؟
أومأت وسطع بريق العين الجفلانة, واتسعت تستوعب كل المساحات, ورأى كم واسعة مساحته فيها.. تبخرت حواسه ولهثت رغبات حلوة في شراينه, أسبلت رموشها ومضت خفيفة وبقي في طرف الزقاق يعيش مسارات عذبة وشرشت في القلب صبية.. آه يا ناجي كان يوماً متوترا مثل اليوم, واليوم صدرك لوح ثلج, ويداك مكبلتان والعين شاردة مع الأطفال.. خيل له أن الأطفال يقذفونه بالحجارة.. لعنة الطفل عذاب ولعنة الوظيفة عذاب, وطفلكَ ما زال رضيعاً والزمن احتلال.. عض على شفتيه فانبثقت في رأسه صورة طفل محروم في يوم بعيد.. ذلك اليوم يحضر بكل تفاصيله.. نهض مع الفجر واخذ ورقة الهتافات من معلمه الشاعر, ومع الشمس خرج رجلا صغيراً صوته يدب على عتبات الرجولة قبل الأوان, خرج مع الناس من المخيم إلى المدينة حافي القدمين.. حملوه وكان صوته رفيعاً يشق الفضاء, يبرق مع الشمس, وفي الزحام سقطت منه ورقة الهتافات.. وتحرك لسانه عفوياً.. صبي خرج من تحت القرميد يهتف ويكبر الهتاف:
- لا شرقية ولا غربية إلا إدارة عربية.. غزه.. هزه عربيه..
وسقط مشروع تدويل القطاع بعد العدوان الثلاثي, ورجعت الإدارة المصرية محمولة على الأكتاف, وعاد القطاع عربياً, وسجل التاريخ أياماً وتواريخ.. ورجع يومها إلى المخيم جائعاً منتصراً, وسمع رجلا من الناس يشير إليه:
- هذا الولد من صبيان الشاعر.
رد عليه رجل آخر:
- يمكن شيوعي مثل معلمه..
ورغم عشقه لمعلمه, وعدم معرفته إذا ما كانت الصفة استحسانا أم استهزاءً, صرخ فيهم بقوة:
- أنا لاجئ..
ومضى يدب في أزقة المخيم ويزداد حباً لمعلمه, واليوم الشاعر في بلاد العرب, والطفل صار معلما يقف ون حوله الإطارات المشتعلة, والأطفال يعلنون الحداد, والرجال في السجون مضربون عن الطعام.. ولأن البيوت في المخيم تهدم, والأحوال في الاحتلال قهر ومعاناة وهتافات.. بالدم بالروح تفديك يا سجين.. طفل يقفز أمامه يصرخ في وجهه يسرسع صوته الحاد يخترق أذنيه, صوت أكبر من طفل, الحرقة تكسو بياض عينيه.. يحضن الطفل يداعب خصلات شعره:
- ما أسمك يا شاطر؟
تتحرك الريبة في عين الطفل, وسرعان ما تتحول إلى تحدٍ, يخرج الرد شموصاً واضحاً:
- اسمي نضال علي منصور.
وانفلت يهزج.. كبا.. تعثر.. مشى على أربع عدة خطوات ونفض التراب عن ركبتيه, وغاب وسط غابة الأطفال.. ونز العرق بارداً من كل ناجي, رجفة هزته, علي منصور يخرج عليه فجأة, يصرخ فيه.. اللعنة.. وانهزم رأسه على صدره, تقلصت مساحات الدنيا, تداخلت الصور, وشعر بخطواته أقصر من حبو الأطفال على الأرض..

- 2 –

في ذاكرة الأيام بدايات الأشياء.. ومعلمه الشاعر كان بداية, وكان علي وناجي والرفاق امتداد وحلم ينمو في الصدور والقلوب, وكان الكابوس مرارة, تحركوا وكان الانجاز عظيماً, عادوا إلى الشارع بعد أن أبعدوا عنه طويلاً, ماجت حركتهم وسط ذهول الناس.. وكانت النكسة ألطف كلمة خرجت من بطن اللغة العربية تخفف من وطأة الهزيمة التي فاجأت الجميع, لم تلجمهم الدهشة, امتصوا مشاكلهم وخلافاتهم وعادوا إلى الشارع بين الناس, والتف من حولهم الناس, وبدا مجد الخمسينات يلوح في الأفق.. سقوط التدويل.. سقوط الاحتلال وهتافات قديمة, سقوط مشروع التوطين.. ومشروع التدويل.. مظاهرات ورصاص عربي والشهيد حسني بلال, والرفاق فصلوا من بطانية الإعاشة علم لفوا فيه وأرقدوه مقبرة الشهداء عند بوابة غزة, كبرت مقبرة الشهداء وما زالت تخضر وتنمو.. تمضي الأيام والمعلم الشاعر يتنقل من سجن لسجن, والطفل يكبر صبيا رجلاً يسهر الليالي, يقرأ, يسمع, يناقش, يلتزم.. يعمل معلما, تدركه النكسة, تسقط غزة والضفة وسيناء والجولان, والهزيمة كلمة نافرة سمجة, أخذت بعض الرفاق إلى الصمت, ومنهم من غادر, ومنهم امتصوا الصدمة وبقوا وانتشروا وبدت غزة أكبر من بقعة معزولة, اتسعت في الوعي اتساعا فاق الجغرافيا, والمواجهة قدر مفروض, والعمل يختمر حلقة حلقة, والحياة حلقات وطلقات.. يصحو الناس على أصوات الطلقات, يعتادون عليها, الطلقة ظاهرة يومية.. وما أكثر الظواهر في زمن الاحتلال..

- 3 –

يوم دراسي متوتر والمدرسة بركان قد ينفجر في أي لحظة, والملمون تحفظ مهزوم.. الشارع يغلي, والأستاذ ناجي في غرفة الإدارة تصله همهمات الطرب.. صباح غاضب حزين, الأخبار وصلت الناس, ولم تعلنها نشرة الأخبار.. الشارع وكالة أنباء.. السجناء مضربون عن الطعام, بدأ الإضراب في سجن المجدل "عسقلان" ومارست إدارة السجن كل وسائلها وفشلت في كسر الإضراب.. سجناء ماتوا, وجثة أبو الفحم وصلت في الليل ولم يسمحوا للناس بالخروج خلف النعش, لكن الناس توافدوا على بيت الشهيد للعزاء, والناس عادوا من السبع والمجدل وغزة, لم يزوروا أولادهم, والإضراب يدخل أسبوعه الثاني, وناجي ينزوي بعيداً عن الطلاب, خطواته ثقيلة, شيء يشد قدميه.. أين خطواتك الرشيقة في أزقة المخيم, اليوم يأسرك الحذاء اللامع, وتشد رقبتك ربطة العنق هكذا تريد المدام وتصر, علمتك كيف تكون ربطة العنق من اختصاص الزوجة.. درس سمعه وحفظه, الحذاء والجورب وربطة العنق طقم متجانس ينسجم مع البدلة ويتوافق مع القوام النحيف الرشيق.. هكذا تريد المدام.. وها أنتَ تنقل خطواتك منكس الرأس تتحاشى طلابك, والحذاء اللامع يعكس صورتك هذا الصباح, تملك أشياء وتفقد كل الأشياء, تركت طعم الأماني وسيرة الأحباب في المخيم, ضاعت منك في المدينة, والمدينة حاصرتك بالشقة الأنيقة والزوجة ابنة العائلة الأنيقة مدت حبالها, جذبتك وسحبت خطواتك من المخيم, أعنت الإضراب عن الأزقة والحواري, وتمر الأيام, ودع علي منصور الحواري إلى السجن مصاباً, وفي السجن أعلن الإضراب, وسميرة شوق الأيام سبقته ولا شك أنها أعلنت الإضراب أيضاً.. صاموا عن الطعام في السجن وانطلقت لغتهم في الشوارع.. وأنت يا ناجي فقدت لغتك وفقدت سميرة وعلي وحمود الذي أعلن الإضراب عن الدروس مرغما ومضى إلى سوق العمل يعرض قوته الجسدية سلعة نحت قانون العرض والطلب, واليوم يغادر محمود المخيم إلى العمل, وينطلق الأطفال يشعلون الإطارات ويعلنون الإضراب..
أصابته رجفة, وتذكر الرجفة التي هزت علي منصور يوما, قال علي:
- أنا لا أخطط لحرمان طفلي من المدرسة يا ناجي!!
وحرم علي من الحركة ومن ممارسة أبوته, وحرم ابنه من طفولته, ولكنه لم يُحرم من مدرسته, وها هي المدارس براكين تنفجر في كل لحظة, وها هو علي منصور حي في القلوب والصدور, هل كان علي يتصور مثل هذا اليوم؟ عندما ارتجف بدنه يوم احتد النقاش, وكان تحليل الرفاق أن الاحتلال لن يطول, والبعض تخوف من تهويد المدارس أذا طالت فترة الاحتلال, ورفعوا شعار لا تعليم في ظل الاحتلال أسلوبا من أساليب المقاومة السلبية, ذعر علي وانبرى أكثر من رفيق لإقناعه, ولم يقتنع والتزم برأي الأغلبية..والتزمت يا ناجي كما علمك علي بقرارات الأغلبية, وأخذت على عاتقك توزيع المنشورات في المخيم, في المساء ينتظرك محمود, وفي المساء تتهيأ لمقابلة سميرة.. آه يا ناجي كم كانت دقات القلب تتسارع, والآمال حب يتبرعم, والحلم صبية تكتشف فيها المرآة التي تريد, صديقة أخته, يبادلها أطراف الحديث, تربكه حمرة خفيفة نصعد على الخدين, لم يكن يدري أن الصبية ستصبح رفيقة نضاله, تكبر معه ويكبر معها, ويملأ صدرها برزمة أوراق المنشورات, وفي العتمة توزع الأوراق على البيوت, تكاملت الأمور, وأصبح اللقاء مهمة بعد أن كان مراوغة لأعراف الناس, وأصبحت خطواتها أكثر جرأة وثباتاًَ, يتحدثان فيتسع بؤبؤ العين على مداه, تصبح العيون بحراً بسبح في مياهه الهادئة وهو على يقين من الوصول, ويحلم.. وفي الحلم يداعب طفلاً, وفي الصحو يتمنى لو يبذرها الطفل.. ودق الجرس.. هدير الطلاب يعلو يتصاعد, والشمس ترسل أشعتها باهتة.. المدرسة بركان, وصدره يكاد يتفجر.. لماذا هبت عليه الذكريات, ولماذا تطن في رأسه الضربات؟ افترق عن علي منصور بعد البداية, ولم يعد يعرف شيئا من أخبار محمود, وسميرة ضربة في القلب وشاهد على الهزيمة, تركته في العتمة لم تلتفت إليه.. هدير الطلاب يصم أذنبه. تجاوزته الهتافات, عمره انفصل عنهم, بهت العمر يا ناجي.. وابتعد يجرجر قدميه بإعياء

- 4 -

كانوا يمتلئون نشوة, وكان علي منصور صامتاً في معظم الأحيان, وفي بعض المرات يحاصره قلقة فيقذف همومه دفعة واحدة, يبهرهم صدقه وصراحته, كان بسيطا حتى في لغته, وفي يوم احتد النقاش واحتد علي بعناد:
- يا جماعه أنا خائف اللعبة تستهلكنا..
كانوا قد وزعوا المنشورات وأخذ كل واحد حصته, ورد عليه أكثر من صوت:
- إحنا لا نلعب يا أبا نضال!
ولوح ناجي بالأوراق التي لم يجف حبرها بعد:
- هذا لعب؟!
- إذا كانت هذه الأوراق أول وآخر الخطوات تصبح لعبة, ولعبة مملة, البداية أخذت أبعادها, أنا أسألكم, ثم ماذا بعد؟
لم يكن الأمر مفاجئاً, ولكنه أخذ في تلك الجلسة طابع الجدية, طرح علي منصور القضية وطالب بأخذ قراراً, ليل الاحتلال طويل, والجماعات الأخرى على الساحة حددت أساليبها, وفجرت سكون الليل, وامتدت تفرقع في وضح النهار, ولهث الناس وراء الأخبار, وتحدثت الأزقة عن رجال وعمليات, وها هو علي منصور يضع النقاط على الحروف, ببساطة ووضوح:
- ما الموقف من العمل المسلح؟
وتشعب الحوار وامتد, أيد البعض, وعارض البعض, والتزم البعض الصمت وكان ناجي من الصامتين تلك الليلة.. وأخذ يحاكم الأمر.. الوظيفة, السجن, الموت, الاستقرار, الزواج وسميرة, وحتمية الصراع يا ناجي وحسابات الربح والخسارة.. أمور تعلمها واستوعبها.. ومرت الأيام, وجابت المظاهرات الأمكنة, وخرجت الجنازات تزف الرجال على مرأى وسمع الجنود,.. وفي يوم صارحه علي وهما يغذان الخطى في المخيم, والمساء يزحف على الأمكنة:
- جهز نفسك يا رفيق ناجي لأمور جديدة.
- بدري عليها يا رفيق علي.
- كل شيء في ميعاده, إيش رأيك في سميرة؟
- نشيطة وجريئة..
ومشيا صامتين, وعندما قابل سميرة نسي توتره, وعندما دست المنشورات في صدرها لم يكتم ضحكته.. سألته:
- لماذا الضحك؟
- أضحك على منظر صدرك وهو منفوخ بالورق.
وسرت نشوة في أعضائه ظهرت على ملامحه.. تطلعت في وجهه واحمرت وجنتاها.. همست:
- نفسي أخبئ في صدري أشياء جديدة.
- مثل إيش؟
- أشياء تكمل المشوار وتهز سكون الليل.
ارتعد.. سميرة قنبلة, هل وصلتها دعوة علي منصور, قبل لحظات يسألني عنها وها هي تواصل أحلامه, هل نضجت الظروف, سألها:
- تعرفي علي منصور يا سميرة.
- أنت تحدثني عنه, وهو جار خالي في الشجاعية.
وسارت الأيام, وتدربت الحواس على تمييز دبيب الخطوات, خطوات حبيبه خفيفة, وخطوات ثقيلة بغيضة, والاحتلال بغيض, والحقد ممارسة يومية, والتحريض أعطى ثماره وتحول إلى أعمال, وتوالت الأحداث, وتنصت ناجي على الأخبار, وتعذب, وجمد نشاطه, وأقنع نفسه أنه صاحب رأي.. وظاهرة الاحتلال تتلاشى ليلاً, وتعود في النهار, واشتاق لسميرة التي لم يعد يراها بعد أن التحقت بمعهد المعلمات وتوزعت خطواتها بين المخيم والمدينة, تحرى أخبارها دون جدوى, قابلها صدفة في الشارع فكان الحديث قصيرا مقتضبا, قرأ في عينيها الحيرة.. ومرت الأيام ووصلته أخبار علي المطارد,..

- 5 -

تغوص في الذاكرة أشياء يُخيل للإنسان أنها ضاعت في زحمة الحياة وتاهت, وفي لحظه تظهر ويكون ظهورها قويا يضرب قشرة اليافوخ, كذلك كان حضور محمود فجأة في السوق, والسوق يعرض بضائعه يوم السبت, وناجي أمام فاتيرينة متجر في شارع عمر المختار, يتأمل قميص نوم شفاف, هدية لزوجته في عيد زواجهما.. يسبح مع فرحتها ويتخيل ليلة عشق وردية دافئة ومثيرة, ومحمود خارج من المتجر يزوم وقد هزمته الأسعار, التقت العيون, وزحف الشوق في صدر التلميذ واندفع يسلم بحرارة:
- أهلاً محمود.. إيش عامل في الدنيا؟
- الحمد لله مثل الناس, عامل في إسرائيل.. كيف الأحوال معك يا أستاذ؟
- ماشيه..
محمود يتأمل الأستاذ بقده الممشوق وربطة العنق البديعة.. الأستاذ مصبوب في قالب, دق صدر الشاب:
- كيف النشاط.. وكيف الطلاب معك؟
تلفت ناجي, محمود يقذف الأسئلة بعفوية.. لم يتغير هل يخبره أنه الآن في واد ونشاط أيام زمان في واد آخر, وان ما يعنيه اليوم أن يستعد لطقوس عيد زواجه, وجد نفسه يهرب من جديد:
- خلينا نشوفك يا محمود..
ومضى محمود لحال سبيله, وشعر بربطة العنق تخنقه, أهي حالة تلبس وفي السوق؟.. يحلم بليلة وردية وتلميذه عصرته الأيام وامتصت عافيته, وما زال يشتاق ويسأل يريد الاطمئنان على الدنيا.. لماذا لم يقل له: أستاذك يا محمود جمد خطواته بعد البداية ولم يتقدم خطوة,.. تبدلت الأحلام, وتوهم أنه نسي, وأن الناس نسيت, واليوم يقرعك محمود الذي ما زال يملك الحلم ويسأل عنه, محمود يستجوبك ويمضي, وسميرة سألتك يوما وكانت تتعذب:
- صحيح ما يقل أنك جمدت نشاطك؟
- أنا لي وجهة نظر, أنا صاحب موقف.
- أنت من علمتنا أن العمل فوق الخلافات.
ناقش, ولا تبتعد.. احتفظ برأيك والتزم برأي الأغلبية, ماذا يقول لها:
- تعرفي فيما بعد..
- أنا سميرة يا ناجي ليش تخبي عليَّ؟!
وتأرجحت الدمعة في عينيها, وبقى مسمرا في مكانه..عذبته, خاف عليها..استقصى أخبارها بين المخيم والشجاعية, وتسرب إليه الإحساس بفقدها وكاد يجن, وعادت وقد خبأته في صدرها معلماً وحبيباً وفارساً, وضعته أمام الاختبار الصعب, وضعته أمام موقفه وجها لوجه.. كم مضى من العمر على هزيمة الفارس أمام الحورية, سميرة انتصرت ومضت خلف الجدران السوداء, هل مضت حاقدة عليه؟ مهل تكرهه سميرة, أم هي خيبة الأمل.. مرت سنتان وكأن الأمر حدث من لحظات..
كان المساء قد توغل, وهرول الناس إلى البيوت مبكرين, ومنع التجول يبدأ مع الليل, وينتهي معه, والناس لا زالت تتناقل جراح أيلول عمان أحزانا وبيوت عزاء, خطوات الشباب ازدادت حذراً, ودوريات الجنود زادت كثافة, ومداهمة البيوت أمر متوقع كل لحظة, وهو يرقد في فراشه يغربل الأصوات, ويميز الخطوات, فجأة يسمع طرق خفيف على شباك غرفته:
- من؟
- أنا سميرة يا ناجي..
سميرة والليل وجفاء القلب, هل خدعته حواسه.. يعود الصوت:
- افتح يا ناجي..
وتسللت إلى الغرفة, لونها مخطوف, أخرجت الأشياء من عبها, ووضعتها أمامه.. بهت ملجوماً, قالت:
- يمكن يدهموا دارنا يا ناجي في كل لحظة, قبضوا على واحد من الشباب, والوقت صعب..
ارتعدت أطرافه, أشار إلى الأشياء, أصابعه الواجفة فضحت خوفه, والتوى لسانه:
- يا سميرة..
دست الأشياء في صدرها وتسللت.. لحق بها, جاءه صوتها في العتمة صارماً جازماً:
- ارجع لسريرك
خبأتها عتمة المخيم, وبعد أيام اعتقلوها ولم يعثروا في بيتها على شيء.. ومرن الأيام وبهتت الحكايات, حتى المخيم بهت, وطارد غزالته فطردته من المخيم إلى المدينة, والمدينة لها سحرها وبناتها وعلاقاتها, وغزالتك ابنة ناس لهم أموالهم وتقاليدهم ولغتهم وملابسهم وربطات أعناقهم.. ولهم نساؤهم يتأبطن أذرعهم.. وها أنت يا ناجي تتسكع على الفاترينات, تحوم حول قميص نوم هدية لزوجتك, والسوق مزدحم والمعروضات كثيرة ومتنوعة, قانون العرض والطلب, والناس بضائع في المدينة, والكثير من البضائع يخدعك منظرها.. واصطدم بأحد المارة.. سقطت نظارته فداس عليها أحد المارة أيضاً, وسمع تعليقات ساخرة.. واكتشف أنه اصطدم بفتاة تصف عارية من فتيات الكيبوتسات اللواتي بردن سوق المدينة أيام السبت.. لملم حطام نظارته, وسمع أحدهم يقول:
- فنح عينك يا أستاذ.
ورد آخر:
- هي اليهودية تركت فيه عقل!
وشعر أن السوق, كل السوق يسخر منه..







#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رواية زمن الانتياه - محمود
- رواية زمن الانتباه - ابو يوسف
- سحر التركواز والقراءة الموازية - - قراءة في رواية سحر التركو ...
- في فيافي الغربة - - قراءة في المجموعة القصصية - بيت العانس- ...
- فاتنة الغرة امرأة مشاغبة حتى التعب
- ترنيمة نادل الوقت - نص
- الذهاب إلى بئر الرغبات
- مارثون مفارقات القهر - - قراءة في المجموعة القصصية - إحراج - ...
- على جناح القبرة
- مقهى الذاكرة - نص مشترك
- حكاية الليلة الثانية بعد الألف..- نص مشترك مع هناء القاضي
- تجليات الرغبة في مدار الوردة
- كله تمام يا فندم, وغياب الحقائق
- البراءة في عالم متوحش
- مكابدات الواقع في زمن بعث المراثي
- القمر لا يدخل مدار الهامش
- في جغرافيا ما فوق السحاب
- البحر - قصة قصيرة
- يسرا الخطيب.. وعطش البحر
- شرفة الانتظار


المزيد.....




- -هواة الطوابع- الروسي يعرض في مهرجان القاهرة السينمائي
- عن فلسفة النبوغ الشعري وأسباب التردي.. كيف نعرف أصناف الشعرا ...
- -أجواء كانت مشحونة بالحيوية-.. صعود وهبوط السينما في المغرب ...
- الكوفية: حكاية قماش نسجت الهوية الفلسطينية منذ الثورة الكبرى ...
- رحيل الكوميدي المصري عادل الفار بعد صراع مع المرض
- -ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
- -قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
- مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
- فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة ...
- جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - غريب عسقلاني - رواية زمن الانتباه - الاستاذ ناجي