|
عظيمة أنت يا بلاد غاندي - الهند إذ تمنح قيادتها لسيخي من الأقليات
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 848 - 2004 / 5 / 29 - 09:35
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
ما حدث في الهند مؤخرا لم يحدث إطلاقا في أي مكان آخر. والحديث هنا ليس عن الدروس البليغة التي أعطتها الهند للعالم في الشهر الجاري يوم أن صوت شعبها ذو الأغلبية الهندوسية لصالح تحالف تقوده سيدة مسيحية من أصول أجنبية ، ولا يوم أن اعترف حزبها الحاكم بهزيمته ونقل السلطة إلى المعارضة بطريقة حضارية و دونما التخفي وراء نظريات المؤامرة واتهامات التزوير والتخوين كمبرر للبقاء في الحكم مثلما اعتاد المنهزمون في انتخابات العالم الثالث على فعله ، ولا يوم أن قررت زعيمة الحزب الفائز سونيا غاندي أن تفسح المكان لغيرها لقيادة الهند مفضلة مصلحة البلاد ووحدتها واستقرارها على طموحاتها الشخصية. إنما الحديث ينصب على ظاهرة القبول برئيس حكومة ينتمي إلى أقلية دينية لا تشكل في أفضل الأحوال أكثر من 2 بالمئة من مجموع الشعب الهندي (الأقلية السيخية) ، في الوقت الذي يجلس فيه على كرسي رئاسة الجمهورية شخصية تنتمي هي الأخرى ايضا الى الاقليات ، وتحديدا الى الاقلية المسلمة التي لا تتجاوز نسبتها 15 بالمئة.
فأي مكان بعد ذلك يمكن أن تتكرر فيه هذه الظاهرة ، دعك من دول العالم الثالث التي تجاهد فيها أقلياتها العرقية والمذهبية دون طائل من اجل منصب وزاري متواضع؟
إن اختيار السيخي مونمهان سينغ كزعيم جديد للهند كان دون أدنى شك خطوة موفقة ، لئن عكست عقيدة التسامح الهندية ، فإنها أكدت ايضا ابتعاد حزب المؤتمر عن نزعة الانتقام و أخذ الكل بجريرة البعض. فكما فعلت الراحلة انديرا غاندي في عام 1984 في خضم حربها ضد المتمردين السيخ الساعين إلى إقامة دولة منفصلة باسم خالستان، يوم أن تحاشت إقصاء السيخ من الوظائف الحساسة بما فيها مهام أمنها الشخصي فدفعت الثمن قتلا على يد احد حراسها السيخ ، لم يجد حزب المؤتمر غضاضة من دفع شخصية تنتمي إلى نفس الأقلية التي اغتالت زعيمته الكبيرة وحماة زعيمته الحالية إلى المنصب الأعلى في البلاد. وهذا في حدة ذاته أيضا من الظواهر غير المسبوقة في العالم.
و تأتي أهمية وجود سينغ على راس القيادة الهندية من حقيقة انه يتمتع بصفات ومؤهلات وخبرات وسيرة عطرة لا تتوافر عند غيره من زعامات المؤتمر وحلفائه. فكونه هندي الأصل والفصل أنهى جدلا مريرا بين بعض المتزمتين داخل حزب المؤتمر وخارجه حول مخاطر تسليم القيادة إلى شخصية من أصول أجنبية كسونيا غاندي. وكونه من الشخصيات القليلة في عالم السياسة الهندية التي لم تتلوث سيرتها بالفساد أو الفضائح أو سؤ استخدام النفوذ ، ولم يعرف عنها سوى العصامية و البساطة في المعيشة والتواضع مع الجميع و كره الأضواء (إلى الدرجة التي لا يعرف معها الكثيرون بناته الثلاث أو وظائفهم) ، يعزز صورته في أعين مواطنيه ويوفر له دعما شعبيا. ومثل هذا الدعم قد يأتي أيضا بسبب ما عرف عنه من انحياز إلى الوطن عوضا عن الانحياز إلى الطائفة. فحينما اتهمت جماعات سيخية الدولة بارتكاب العنف ضدها انتقاما من اغتيال انديرا غاندي ، فند سينغ هذه المزاعم ولم تثنيه الاتهامات بالوقوف ضد طائفته عن موقفه. إلى ذلك فان هدوءه و سعة صدره ، معطوفين على خصلة حميدة لازمته طوال حياته العملية هي طلب المشورة من زملائه حتى في مجال تخصصه الدقيقة (بدعوى أن الإنسان غير قادر على الاحاطة بكل شيء مهما بلغت علومه وخبراته التراكمية) ، من شأنها ان تحافظ على تواصله مع مختلف الاطياف السياسية.
على أن الأهم من هذا وذاك هو مؤهلات الرجل العلمية وخبراته الطويلة في دهاليز البيروقراطية والسياسة والاقتصاد ، مما يبعث الاطمئنان لدى أوساط المال والأعمال داخل الهند وخارجها ومعها شرائح اجتماعية هامة في صفوف الشعب ، من أن إنجازات البلاد الاقتصادية المشهودة خلال السنوات القليلة الماضية لن تتعرض إلى انتكاسات خطيرة. فسينغ قبل كل شيء هو الذي قاد الهند نحو الانفتاح اقتصاديا على العالم على نحو ما سيأتي ذكره ، وبسبب من ذلك لقب بأبي الإصلاح الاقتصادي.
وإذا كانت ثمة مشكلة سوف يعانيها الرجل ، فإنها حتما لا دخل لها بكفاءته أو قدراته القيادية أو صواب مرئياته ، وإنما بسبب القيود المحيطة به والناجمة عن الظروف التي أفرزتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة. وبمعنى آخر فان سينغ ليس طليق اليدين في اتخاذ ما يراه مناسبا من قرارات، بل تحكمه حقائق تحالف حزبه مع 15 حزبا سياسيا صغيرا لكل منها طموحاته وأجندته الخاصة التي قد لا تتقاطع مع سياسة حزب المؤتمر ، ناهيك عن حقيقة حاجته المستمرة إلى دعم برلماني خارجي من قبل أحزاب اليسار. وهذا بطبيعة الحال يعقد مهمة الرجل ، خاصة إذا ما علمنا أن ضمن شركائه في السلطة شخصيات لطالما عرفت بالانتهازية والفساد والمشاكسات وإيثار المصلحة الشخصية على المصلحة الوطنية من أمثال لالو براساد ياداف زعيم ولاية بيهار الملقب بالمهرج السياسي والمتهم في أكثر من قضية فساد ( يحتفظ حزبه بعشرين مقعد في البرلمان) ، و كارونانيدي زعيم ولاية تاميل نادو (يملك حزبه 19 مقعدا برلمانيا) الذي يتداول الهنود الكثير من القصص عن سؤ استخدامه لنفوذه وضلوعه في علاقات مشبوهة مع حركة نمور التاميل الإجرامية في سريلانكا. وفي وضع مقيد كهذا فان المرء لا يملك إلا أن يشفق على سينغ، هو الذي عرف عنه كره الرضوخ لاملاءات وتدخلات الآخرين.
ولد سينغ في 26 سبتمبر 1932 لعائلة كان ربها غورموك سينغ يعمل في تجارة الفواكه. أما مكان الميلاد فقد كان في مكان يدعى غوه الذي يقع اليوم ضمن الأراضي الباكستانية. وكالكثيرين من أبناء الهند البريطانية الذين جربوا أهوال تقسيم الوطن الواحد إلى كيانين منفصلين في عام 1947 وما رافقه من تهجير قسري ونزوح في الاتجاهين ، فان سينغ قاسى لبعض الوقت آلام الانفصال عن عائلته قبل أن يجتمع شملها مجددا في مكان جديد.
ومنذ سنوات طفولته أظهر الرجل نبوغا وذكاء حادا ، بدليل تفوقه في مختلف مراحل التعليم الأولية. وحينما تخرج من جامعة البنجاب في عام 1957 حاملا الإجازة الجامعية العليا في الاقتصاد كان ترتيبه الأول على دفعته ، الأمر الذي اتاح له الاستفادة من منحة دراسية مجانية للالتحاق بجامعة كمبردج البريطانية التي نال منها شهادة ماجستير ثانية في الاقتصاد في عام 1962 ، ومن ثم الالتحاق بجامعة اكسفورد التي منحته في عام 1965 درجة الدكتوراه. وفي أعقاب عودته إلى الهند في عام 1966 مسلحا بأعلى الشهادات من اعرق الجامعات ، ومفتخرا بتتلمذه على يد نخبة من أشهر علماء الاقتصاد من أمثال جون روبنسون و موريس دوب ، انضم إلى هيئة التدريس في جامعة البنجاب كأستاذ لمادة الاقتصاد. واستمر كذلك حتى عام 1969 الذي شهد انتقاله إلى كلية دلهي للعلوم الاقتصادية كأستاذ للتجارة الدولية. وخلال عمله الأكاديمي هذا ، استطاع سينغ أن يترك بتواضعه الجم و أسلوبه الهاديء و معارفه الغزيرة أثرا في نفوس طلابه بحيث صار قدوة للكثيرين منهم ، تماما كما كان الحال مع عالم الاقتصاد الهندي الحائز على جائزة نوبل أمارتيا سين. ويتذكر احد الذين تلقوا العلم على يد سينغ في الستينات أن الأخير كان معارضا منذ ذلك الوقت المبكر لسياسات بلاده الجمركية والحمائية ومؤمنا بأن الصناعات الهندية تستطيع المنافسة بنجاح في الأسواق العالمية لو تخلت البلاد عن النهج الاشتراكي ، وهو ما ثبتت صحته لاحقا.
ويمثل عاما 1971 و 1991 منعطفين مهمين في مسيرة سينغ. فالأول يؤرخ لانتقاله من السلك الأكاديمي إلى جهاز الدولة البيروقراطي الذي قضى فيه نحو عقدين من الزمن متنقلا من وظيفة مستشار اقتصادي بوزارة التجارة الخارجية إلى كبير المستشارين الاقتصاديين في وزارة المالية فوكيل لوزارة المال فنائب لرئيس مفوضية التخطيط فحاكم للبنك المركزي فمستشار لرئيس الوزراء للشئون الاقتصادية أما عام 1991 فيؤرخ لدخوله الفعلي في عالم السياسة ، من بعد أن كان قد اعد العدة في عام 1990 للعودة إلى التدريس الجامعي مقتنصا حاجة جامعة البنجاب إلى أستاذ في مادة الاقتصاد. ولولا انحياز المكلفين بالاختيار للمتقدمين للوظيفة من جيل الشباب ، لكان سينغ اليوم متقاعدا من العمل دونما ذكر له في تاريخ بلاده.
و لدخول الرجل المعترك السياسي قصة يجب أن تروى. ففي عام 1991 كانت الهند تقف على شفا الإفلاس بخزينة من العملات الصعبة لم يكن فيها سوى بليون دولار أو ما يكفي بالكاد لتمويل الواردات لمدة أسبوعين فقط ، وبعجز في الميزانية تجاوز 8.5 بالمئة من إجمالي حجم الناتج المحلي ، وباقتصاد لا يحظى بثقة المانحين. وقتها كان رئيس الوزراء ناراسيمها راو يبحث عن عقلية اقتصادية فذة تخرج البلاد من ورطتها ، وفي نفس الوقت تملك خبرة في دهاليز البيروقراطية الهندية المنيعة تتيح لها تجاوز عقبات تطبيق أية مقترحات ، فلم يجد أمامه من يملك الصفتين معا سوى سينغ. ولئن قبل الأخير أن يشغل حقيبة المالية ويواجه من خلالها التحدي ، فانه اشترط أن يترك له حرية التصرف. وكان أول ما فعله هو طلب المساعدة من صندوق النقد الدولي ، هو الذي كان قد انتقد سياسات هذه المؤسسة المانحة في كتاب له في عام 1964 بعنوان "رؤى حول الصادرات الهندية من اجل المحافظة على نموها ذاتيا". وهذه الواقعة تصلح دليلا على تحلي سينغ بالواقعية ، بمعنى استعداده للتخلي عن أفكار ما تحت ضغط الواقع المخالف.
وبمجرد موافقة صندوق النقد على إقراض الهند 5 بلايين دولار، شرع سينغ بتطبيق إصلاحات اقتصادية جذرية أسدل بها الستار نهائيا والى الأبد على أربعة عقود من النهج الاشتراكي و التخطيط المركزي. وفي دفاعه أمام البرلمان الهندي عن إصلاحاته، في مواجهة من كانوا يفضلون العلاج بوسائل تقليدية مثل تخفيض الإنفاق العام وشد الأحزمة ، وقف سينغ ليقول أنه لا قوة على وجه البسيطة بامكانها وقف تنفيذ فكرة ما حينما يحين أوانها ، مستعيرا بذلك مقولة فيلسوفه المفضل فيكتور هوغو.
وبنجاحه في اعادة الروح سريعا إلى الاقتصاد الهندي ، قفز اسمه إلى الواجهة على المستويين الاقليمي والدولي كمسؤول من الطراز الرفيع ، بدليل اختياره كأفضل شخصية لعامي 1993 و 1994 من قبل الأوساط الاقتصادية الأوروبية والآسيوية على التوالي.
وحينما خرج حزب المؤتمر من السلطة في عام 1996 ، آثر سينغ الصمت والابتعاد عن المعارك السياسية، رغم تمتعه بعضوية مجلس الشيوخ التي كان قد نالها لأول مرة في 1991 وجددت له في 1995 . لكنه عاد إلى الواجهة السياسية بترشيح نفسه عن دائرة جنوب دلهي في الانتخابات البرلمانية لعام 1999 والتي لم يحقق فيها نجاحا.
عبدالله المدني *باحث وخبير في الشئون الآسيوية تاريخ المادة : 27 مايو 2004 البريد الالكتروني: [email protected]
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الذكرى الأولى لاستشهاد الزعيم بعد تحرير العراق من جلاديه
...
-
عزاء للعرب.. الهند و-إسرائيل- بين زمنين
المزيد.....
-
في ظل حكم طالبان..مراهقات أفغانيات تحتفلن بأعياد ميلادهن سرً
...
-
مرشحة ترامب لوزارة التعليم تواجه دعوى قضائية تزعم أنها -مكّن
...
-
مقتل 87 شخصا على الأقل بـ24 ساعة شمال ووسط غزة لتتجاوز حصيلة
...
-
ترامب يرشح بام بوندي لتولي وزارة العدل بعد انسحاب غايتس من ا
...
-
كان محليا وأضحى أجنبيا.. الأرز في سيراليون أصبح عملة نادرة..
...
-
لو كنت تعانين من تقصف الشعر ـ فهذا كل ما تحتاجين لمعرفته!
-
صحيفة أمريكية: الجيش الأمريكي يختبر صاروخا باليستيا سيحل محل
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان مدينة صور في جنوب لبنا
...
-
العمل السري: سجلنا قصفا صاروخيا على ميدان تدريب عسكري في منط
...
-
الكويت تسحب الجنسية من ملياردير عربي شهير
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|