|
ابواب
خالد السلطاني
الحوار المتمدن-العدد: 2790 - 2009 / 10 / 5 - 18:41
المحور:
الادب والفن
نعرف ان الباب، مفردة معمارية؛ نعرف ايضاً انها مفردة هامة: تكوينيا وتنفيذياً. بمعنى ان ثمة جهداً خاصأ يُولى لها، سواء في الحل التصميمي، ام في الاجراءات التنفيذية. وهذا الجهد المميز المبذول، له ما يبرره. فهي تقع على تخوم الخارج والداخل، المغلق والمفتوح، الخاص والعام، الحميمية ونقيضها. كما انها تجمع في "ذاتها" الدال والمدلول، مثلما يمكن لها ان تعبر عن ذهنية "رب" العمل، وحذاقة "صانع" العمل في آن واحد. وهي في النتيجة، بمفهومها الواقعي، وبحمولتها الرمزية، ماهي الا باب للدار، وباب لمباني الانشطة الانسانية جميعا، وهي ايضاً باب الفرج، وباب الفتوح، وباب الحوائج، وباب الامل المرتجى!. من هنا أهميتها، ومن هنا تميزها. ومناسبة هذا الكلام كتاب صادر حديثاً للمصور الفوتوغرافي الايراني "هادي هراجي" بعنوان: ، طهران 2007. انه كتاب شيق بـ 120 صفحة من القطع الصغير وباخراج مميز. يتضمن صور ابواب عديدة خاصة بابنية سكنية وعامة، ملتقطة في مدن ايرانية مختلفة، المشترك فيما بينها انها جميعا ابواب تقليدية، ومعمولة من الخشب، المطعم بالمطارق والمسامير الحديدية. يثير موضوع تصوير الباب شهية الفوتوغرافيين في بلدان كثيرة. وقد شاهدنا كتبا خاصة بابواب فرنسا ومقاطعاتها، كما اطلعنا على كتب ابواب المدن الامريكية والالمانية، وآخرى خاصة بابواب المباني الانكليزية، والروسية والدانمركية، وهناك كتب تتضمن صور لبوابات الهند والصين واليابان والمغرب. وفي جميع تلك الاصدارات، سعى المصورون الفوتوغرافيون وراء لفت انظارنا الى تلك المفردة المعمارية، والى اسلوب تصميمها وطريقة تنفيذها، والى نوعية موادها. انهم يحرصوا في مؤلفاتهم الى جر انتباهنا نحو وظائف تلك الابواب الواقعية وما ترمز له من دلالات. والمصور " هادي هراجي" واحد منهم. انه مسكون في هوى هذه المفردة وبمهماتها، وتواق لتقديمها لنا من وجهة نظره الخاصة. وصور ابوابه المنشورة في الكتاب تشي بحضور تلك المهمات الطباقية المركبة. عندما اشاهد صور "هراجي" احس بان اللقطات المصورة، هي لابواب شاهدتها في الكثير من المدن العراقية التى مررت بها، وادهش لتماثل اشكال الابواب، وتشابه صنعتها. ترى هل ُكتب ان تكون "ابواب" المستضعفين والفقراء متشابهة؟. بيد إن ذلك التشابه لا يحرم المرء من "لذة" الاستمتاع بالصنيع المرئي. فالمصور يحرص الى رسم اطار محدد الى لوحته" البابية"، ثم يدعونا للتمعن بانتباه الى مافي هذا الاطار من مطارق متنوعة ومسامير كبيرة، والاخيرة يراد بها ان توحى الى متانة وثبات خشب الباب المتهرئ، هو الذي بات سطحه مكانا ملائما "لخط" كلمات متنوعة يكتبها مؤلفون مستطرقون!. تظهر الصور المنشورة اهتمام المصور بتفاصيل ابوابه، وخصوصا اظهاره ادوات المطارق وتنوع هيئاتها؛ والكثير منها جاءت على شكل منحوتات معدنية لا تخلو من قيمة جمالية،عاكسةً تطبيقات الفن الشعبي ومستواه في مناطق مختلفة، كما انها ايضا تعبر عن إهتمام الصناع بصنيعهم وعنايتهم به. تبين المطارق ذات المقاسات المختلفة، تنوعيا تشكيلياً مدهشا؛ إن كان في اساليب التصميم ام في نوعية التفاصيل وغزارتها. ويساورني ظن، بان مبعث هذا الاهتمام الفني الزائد، يعود الى اسلوب تعاطي الصانع مع مطرقته، التى لا يريد لوظيفتها ان تقتصر فقط على جانبها العملي، النفعي البحت؛ وانما ينزع الى ان يسبغ عليها دلالات رمزية مضافة توهم "برجع" صدى الآمال المرجوة، التى عادة ما "تنشأ" اثناء فعالية الطرق. وبهذا المعنى، يبدو اضفاء قيمة جمالية معبرة على هيئات المطارق امرا مقنعا، وحتى ضرورياً. انها تظهر باشكال مختلفة: حلقات بسيطة احيانا، ومقابض معقدة الشكل احيانا آخرى ، وثالثة منحوتة بهيئات تمثل "الكف" الذي يسهم مع اليد القارعة، في احداث طرقات مموسقة، تنتظر الجواب والصدى: جواب الطرق المتكرر، وصدى الآمال المعقودة. امام صور ابواب "هراجي" الموصودة، ذات المطارق الحديدية الضخمة، تستحضر الذاكرة كلمات الشاعرة "فدوى طوقان" هي التى كانت ايضاً تنظر تحقيق "رجاءات" نشأت فجأة اثناء قرع "بابها" الموصود، في قصيدة لها بعنوان :
" هلاَ تفتح لي هذا الباب وهنت كفّي وأنا أطرق، أطرق- بابك أنا جئت رحابك أستجدي بعض سكينة وطمأنينة لكنّ رحابك مغلقة ٌ في وجهي، غارقة في الصمت ياربً البيت مفتوحاً كان الباب هنا.."
يولي عادة، البناة، (وبضمنهم المعماريون بالطبع)، أهمية خاصة الى موقع الباب في المبنى. ويفردون لـها "كاداة" للتعبير عن الشئ ونقيضه، مكانة مرموقة في الحل التصميمي. اذ تغدو "الباب" لديهم بمثابة الفاعل.. والمفعول به، فهي الناظر والمنظور اليه. والمصور "هادي هراجي" ينشد عبر صوره العديدة الملتقطة الى تكريس هذا المعنى. في كثير من الصور المنشورة بالكتاب، مثل باب مسجد "آغا نور"في اصفهان،(ص، 19)، وباب خان في اردبيل (ص،31)، وباب دار في همدان، (ص،69)وباب دار في شوشتر بخوزستان (ص، 80) وكذلك بوابة خان شاه عباس في يزد (ص،115) وفي غيرها من الصور، يبدو فيها اسلوب التقاط تلك الصور وطريقة عرضها للمتلقي، وكأن الباب هي التى تتمثلنا وتنظر الينا، اكثر بكثير من اننا ننظر اليها. ذلك لان تمامية ظهورها المكتمل وهيمنتها الواضحة على اجزاء حيطان مجاوراتها، يمنحها مزايا وخصوصية ذلك الدور. في حين تؤسس الصور الاخرى المنشورة بالكتاب مثل مطرقة باب في كرمان (ص،13)، وتفصيل لبلب في بوشهر (ص،15)، ومطرقة باب في همدان، (ص،34) ومطرقة باب في كاشان (ص،74) مجالا للتمعن فيها من قبل رائيها، والتلذذ في متابعة صنيع تفاصيلها. لقد وفر"هادي هراجي" لنا متعة التجوال معه، واشركنا في رحلاته بحثا عن "ابواب" تخفي خلفها ضروباً من الاحياز الواقعية .. والمتخيلة. فجاءت معظم صور كتابه منطوية على قيمة تصميمية مميزة، لا تخلو من جمالية. بيد ان الامر المهم في كل هذا، يبقى اظهار قدرة المصور الايراني على جعلنا نرى "ابواباً"، ربما لم نعر اهتماما كافيا لها من قبل، لولا شغل عدسته البهيج، وحبه وتعاطفه مع اشيائه... "الملتقطة"!. □□
د. خالد السلطاني مدرسة العمارة/ الاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون
#خالد_السلطاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عمارة، عمارة
-
قول في اعادة نصب الجندي المجهول
-
عدالة قضية الاكراد الفيليين ومحنتهم
-
تداعيات القرارات المستعجلة
-
العمارة .. الآن
-
في معنى هوية بغداد
-
-لقطة- الحياة اليومية، إذ تضحى لوحة فنية
-
اغتيال حالم .. وحلم
-
معروضات بيت موندريان: الزمان والمكان
-
مدارس -اكوام- الطين
-
تنويعات العمارة -القوسية-
-
العمارة الأسلامية، بصفتها مرجعية ابداعية
-
كتاب (خالد القصاب: ذكريات فنية): -نصوص- على ضفاف النص الاساس
-
نصف قرن على مشاريع - رايت - البغدادية: تصاميم العمارة المُتخ
...
-
نصف قرن على مشاريع - رايت - البغدادية: تصاميم العمارة المُتخ
...
-
العمارة، بصفتها رمزاً شعبوياً
-
خاتمة كتاب - تناص معماري : تنويع على تطبيقات المفهوم- ؛ الصا
...
-
ثمانينية قحطان المدفعي :التعقيد ... والتعبيرية في العمارة *
-
عمارة قحطان عوني :المفهوم الخاص للمكان
-
الطليعة المفقودة : عمارة الحداثة الروسية
المزيد.....
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|