علي شكشك
الحوار المتمدن-العدد: 2789 - 2009 / 10 / 4 - 15:05
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ماذا يتبقى حين يُمَسُّ جوهرُنا ومتنُ كينونتنا وآيةُ كتابنا ومسرى رسولنا ومعراجُ روحنا, حين تتفاعلُ كلُّ هذه الكليات وتصبحُ نحن ذاتَنا بما ندركُ وما لا ندركُ فينا, بما فينا كرامتُنا واعتبارُنا, دون أن نتحدَّثَ عن دورنا في التاريخ والتكليف, وعن إرث الأجداد والأنبياء وعهد الله لنا, ودون أن نتحدَّثَ عن حقوقنا التاريخية وأعراف الأمم والأخلاق والقوانين والشعوب, بل ماذا يبقى في الحياة, والحياة بين الأمم اعتبارٌ وكرامة وعزٌّ وتفاخرٌ بين الناس والأجيال عبر الأماكن والقرون, إذ مازلنا نرفع الرأسَ بأبطالنا من خالد وصلاح وعلمائنا من الرازي إلى ابن حيان, ومكاننا محفوظ مادمنا نحاولُ عِزّاً, "أو نموتُ فنُعذَرا",
حين تهول الهوّةُ بين اللغة وبين الغضب, ويصبحُ الصراخُ تسريباً سلبياً للطاقةِ والانفعال, قد يكون من الحكمة اللجوءُ إلى الشعر بديلاً من الانفجار أو الجنون, ولأن المساحة شاسعةٌ بين هذين المذكورين {الغضب وقدرة اللغة على التوصيف والتوصيل} فقد كان شعراؤنا بيتَنا ومأوانا, نعبرُ إليهم لنعبرَ بهم هذه الهوّة الماجنة بينهما, حين لا تستطيعُ اللغة ولا المتاحات من أدوات السياسة ومعادلات البطش أن تعيدَ إلينا توازننَا الكيانيّ الكلّي الإنساني والحضاري والاعتباري, قيمتنا في معيارنا وصورتنا بين الشعوب وصورتنا أمام وطننا نفسه أرضه وسمائه وتاريخه, انتمائه لنا, خجلين منه ومنا, ومن أرواحنا وطقوسنا, وائتمان آبائنا وأنبيائنا إيّانا على ما أورثونا, وارتباطُ كلّ ذلك بدور الإنسان على الأرض ومحورية القدس وفلسطين في التكليف الإلهي الإنساني لهذا الدور, واختيارنا لهذا التكريم,
حينها قد يكون الشعر بلسماً يعيد للحكاية مفرداتها الأولى, ويضعُ الحدثَ الكبير والغضبَ العظيم في سياق الرواية الكلية, وجذورها الأوّليّة, فنجد أنفسنا في إحداثيات التاريخ حيث مكنونات النهاية موصولة بأغوار الكون ودقائق البداية ومتفاعلة مع تفاصيل الراهن وحروف الأنبياء لنستريح قليلاً إلى حكمة التاريخ, ونطمئنَّ إلى أسِّ الحقّ في مفردات الكون وما استكنّ في ضمير الإنسان وبديع الخلق من حتمية ابتهاج العدل في المآل, فما المكابدة إلا لكسر روتين السيرورة وابتلاء الإنسان, وقد يفسِّرُ هذا تعلّقَنا بشعرائنا, إلى درجة أن يصبحوا وطناً راهناً لنا, نسكنه دون تردّدٍ بسعادةٍ وامتثال, في حركة تسامٍ على عجز عالمِ الممكن, وكأنّنا ننقل الصراع وأطرافه إلى مستوىً آخرَ من مستويات المجال, فلا نفقدُ السياق ولا نخسرُ الرهان, وقد يفسر ذلك غيظَ العدوِّ من شاعرٍ نسكنه وينقذنا من محاولات الإبادة الكلّية, إذ يفسدُ عليهم أهدافهم, ويموتون حسداً حتى من ثقتنا بتجاوزهم ولو في منطقة اليقين, إذ أنَّ الأمر في جوهره يكمن في هذا اليقين, ومجالُه الحقيقي هو داخل النفس وعميق الروح ورسوخ القناعات, وتجليات السمات الأولى الوضيعة في الإنسان؛ الحسد والغيرة, بالإضافة إلى المكانة في التاريخ وأمام البشر وعند الله,
وربما كان هذا هو ما ألح على الإنسان من قديم الزمان لاستلهام المعاني والإيقاع شعراً وفضاءً معادلاً للعالم, والحرمان والطغيان,
لكنّ من الحكمة أيضاً أن نردم تلك الهوة بأدواتٍ تجسرها, وآلياتٍ تحوِّلُ الغضب إلى طاقةٍ واعية متراكمةٍ حكيمةٍ ومنجِزة, بحيث تكبح في النهاية مصدر الاستثارة وتحول دون تكرار أسبابه الأولى, وهذه بالتأكيد قضيةٌ مكابِدة وصبورةٌ وتقتضي حكمة بالغة, قد يكون من أدواتها الغضبُ ذاته لكنه في هذه المرة موظَّفاً في إطارٍ يجعله فاعلاً وهادفاً وضمن منظومة مرسومة وخطّةٍ محكومة تملكه ولا يملكها, لا يبدّدُه ولا يبدِّدُها,
وإذا كان الأمرُ ضرورياً في قضايا الإنسان الصغيرة فإنه شرطٌ في قضاياه الكبرى, ليس له بديلٌ ولا عنه استغناء, فقد أدمن عدونا تبديدَ طاقتنا واستنزاف غضبنا وتجاوُزَ احتمالات الحكمة لدينا, مدركاً أن الصراخ يخبو ويعتريه التعب واليأسُ والملل, وأن الانفعال عرضيٌّ مهما كان صادقاً, وأن الغضب يخبو مهما كان مُضَرِيّاً, وقد كان غضبُنا بلا حدود, واستثارتنا تُعجِزُ اللغات, وانفعالنا وردّةُ فعلنا أكبرَ من قدرة الوعي على الوعي والروح على الاحتمال, ذلك عندما تجاسروا على اقتحام المسجد الأقصى, إذ أننا نقرأُ ما في نواياهم, وهم لا يخفونها, ويتجاسرون على إغلاق الطريق إلى الله كل مرة يمنعون المصلين في القدس أو في الحرم الإبراهيمي في الخليل, فقد أصبحوا - وهكذا هم يريدون وبه يستمتعون - الواسطة بيننا وبين ربنا, كأنهم يعيدون الكرّة ويرسلون رسالة إلى الماضي البعيد والآتي السعيد أنهم الأوصياء والمتحكمون, وأنهم هم سدنة الأماكن والمعراج, رسالة إلى من ورِثَ النبوة والصولجان, وقد سمعناهم بأنفسنا عام سبعةٍ وستين يهتفون بذلك في الشوارع والميادين, يعلنون انتصارهم على محمد صلّى الله عليه وسلم, وعلى آله وصحبه أجمعين, ولئن كانت القدسُ والمسجدُ الأقصى هما العنوان الكبير, فإنَّ القدس هي كل فلسطين, ذلك أنَّ الله سبحانه قد بارك حوله "المسجد الأقصى الذي باركنا حوله", وهي "الأرض التي باركنا فيها للعالمين", وإنما المسجد هو قدس الأقداس ورمز المكان كله وعنوانه, وفي الأحاديث النبوية الشريفة ما يشبع الروح عن أرض الرباط وسواحل الشام, وهي الأحاديث الأكثر إثباتاً سنداً ومتناً من النصوص المتداولة من العهد القديم,
أما المعركة فقد استعدّوا لها منذ ما قبل المؤتمر الأوّل في بال الذي لم يزد عن كونه تتويجاً لأكثرَ من قرنين من الحراك اليهودي والمسيحي الغربي البروتستانتي, وما تزال, فكل مستوطنة بنيت وكل طائرة تستورد وكل حرب تُشنُّ بل وكل رحلة سياحية هي من أجل هذا الهدف النهائي الذي يعني ما يعني في النظرية الصهيونية المسيحية والضرورية لنهاية العصر الإسلامي الشرير وبداية الألفية السعيدة, كما أنَّ الأدوات متشعبة ومثابرة, عسكرية ومدنية, علمية وثقافية, أكاديمية وسياحية, وللإشارة إلى ما أعني فإنّ سلطة الاحتلال لا تكسب فقط ملايير الدولارات من الرحلات السياحية المنظمة إلى البلاد ولكن هذه الرحلات هي أحد أهم أذرعها لترويج روايتها عن التاريخ "الفلسطيني" حيث لا فلسطين ولا فلسطينيون, وحيث هنا أرض إسرائيل, وحيث عودة أو مجيء المسيح تقتضي دعم إسرائيل وإقامة الهيكل بعد نسف المسجد, وقد قال لذلك دايان: "إنّه من الأسهل على العرب أن يصبحوا طيارين في سلاح الجوِّ الإسرائيلي من أن يصبحوا أدلّاءَ سياحيين", لقد آنَ لنا أن "لا نُعوِّلَ على غيرنا", لا أقصدُ نحن العربَ والمسلمين وأصدقاءنا في كلّ العالم, ولكنني أقصدُ نحن الذين نغضبُ, ولا تكاد لغتُنا تتسع لما يستحقُّ الغضبُ والجريمة من إبداع الحرف ودموع المفردات, آن لنا ألّا نُصدّرَ المسؤولية إلى غيرنا, دون أن يعنيَ ذلك إعفاءَ أيٍّ من المسؤولية, آنَ لنا أن نبادرَ بمباشرةِ آلياتٍ وطرائقَ تُعوّلُ على إنساننا العاديّ, دون انتظارٍ لمعاركَ قد يطولُ انتظارُها, وندركُ جميعاً أنه لا يجدي توسلها, آنَ لنا أن يكونَ غضبُنا ضمن خطةٍ كاملةٍ ومشروعٍ حكيم, يُحوّلُ الغضب إلى منهجٍ غير طارئ, ويسلكه قنواتٍ فاعلة,
وسنكتشف حينها كم يستطيع الإنسانُ العاديُّ أن يحسمَ الأمور, بإبداعه وإيمانه ووعيه, كما استطاعَ نفرٌ قليلٌ من المصلين, عندَ صلاة الفجر, أن يهزموا الجند وحقد الأحبار الواهمين.
#علي_شكشك (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟