غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2780 - 2009 / 9 / 25 - 17:45
المحور:
الادب والفن
في رواية سحر التركواز, تأخذنا مي خالد إلى رحلة البحث عن الذات, واختبار الرغبات, من خلال علاقات قص تبادلية بين ليلى المصري الراوي الظل لبطلة الرواية الأساس نيرفانا والتي تراوح بين الحضور والغياب, أثر محاولة انتحار غرقا في البحر..
وتقوم الرواية على تفكيك الأزمنة والأمكنة وتداخل الأحداث, وبعثرتها بالتهويم والتداعي والحلم والتأمل الواعي المدروس, لحياة عائلة جنوبية تعيش الصراع بين التمسك بقيمها وعاداتها ومواريثها وتقاليدها والاندفاع إلى فضاءات جديدة..
تتجلى في فضاء النص قدرات مبدعة محصنة بمعرفة واسعة, تقبض على شروط القص باقتدار, وتتعامل من الرواية مشروعا معرفيا, ومساحة للكشف وإطلاق الأسئلة, يساعدها على ذلك مخيلة رحبة, ولغة متمكنة هامسة حاملة شفراتها ورموزها, تقف بين البوح والاعتراف, وتتأمل تفاعل المادي مع الروحي في تشكيل شخصية ووعي الأفراد والجماعات..
ما قبل الدخول
في استدراك ما قبل العتبة الأولى, نقف عند رباعية صلاح جاهين:
غمست سنك في السواد يا قلم
علشان ما تكتب شعر بقطر ألم
مالك جرالك ايه يا مجنون.. وليه
رسمت ورده وقلب وعلم..
فهل تمردت الراوية ليلى المصري على التعاليم المسبقة, واستجابت لصوتها الداخلي, إيمانا منها "بأن ما يتعلمه الإنسان في عشر ساعات من الألم, يفوق ما يتعلمه في عشر ساعات من السعادة, وأن السعادة تفيد البدن, أما الألم ينشط العقل.."
هل يكمن سؤال الرواية هنا؟ أم أنه سيتناسل على فيض من الأسئلة, بالإبحار في عوالم تقوم على تداعيات تستحضر الغياب من خلال سيرة من رحلوا, ومن بقوا, وذلك بالحضور المتألق لنيرفانا التي تعيش الغيبوبة بفعل صدمة القارب لها, في السابع من سبتمبر, يوم دخل المريخ برج العذراء, والذي هو يوم ميلاد ليلى أيضا..
فهل هي أقدار برج العذراء, حامل رمز الحصاد, وفصل القمح عن القش, وفرز الغث عن الثمين.. فهو فصل النقاء الداخلي, والعري أمام الحقائق والرغبات..
وهل سيقلب ذلك اليوم, معادلة رسخت في عالم الأسرة, عن الذين اختاروا الموت في الوقت المناسب ليؤكد أن نيرفانا بعد أن غادرت الغيبوبة, قد عاشت في الوقت المناسب..
الحياة في الوقت المناسب
تقوم الرواية على مسارين متداخلين, يصبان في تأويل وتفسير أفكار, ورؤى وخطرات فلسفية وتأملية حول الحياة, والموت, والقدر, والتناسخ, ومدركات الألوان, والأشكال, والأحجار الكريمة, والكائنات التي تدب على الأرض, وما يؤثر في الذات الفردية والجمعية من المعتقدات والأساطير والأديان, التي تتفاعل عبر كيمياء سحرية, تقف وراء الظاهر من التصرفات والسلوك, وترسل إشارات غير المعلن من الرغبات والأشواق, التي تتشكل عبر مساحات الأبيض والأسود وما بينهما من أطياف على صفحات الحياة
يتفجر ذلك فجأة أمام ليلى, فتقف عند بؤرة الحقيقة, مذهولة من غرق نيرفانا هروبا أو انتحارا, بالعوم في منطقة دوامات خالية من المنقذين, وهي لا تجيد العوم, لكن قاربا يظهر فجأة, ويشج رأسها ويتم نقلها إلى المستشفى في حالة غيبوبة الموت, ما يدفع بليلى إلى القاهرة, للحاق باختبار التمثيل الذي هربت منه, وفاءً لرغبة نيرفانا, ورداً لتهمة أنها حاملة لجينات التخلي, لكونها ابنة امرأة غريبة تمردت على أعراف العائلة, واختارت الحياة في مسقط رأسها على شاطيء البحر..
تقف أمام السؤال:
هل اندفاعها نحو التمثيل بسبب رغبة داخلية, أم هو الانبهار بعبقرية حازم الذي يتحكم بمصائر الشخوص, ويرسم إيقاعات حياتهم على خشية المسرح..
أمام ذهاب نيرفانا إلى الغيبوبة أو الموت, تستعيد ليلى ما كان بينهما, للوقوف على التراسل والتخاطر, وحدود التماهي والاختلاف بينهما.
تستعيد ليلى من خلال نيرفانا سيرة الأسرة التي تعيش حياة راسخة في مدينة "المنيا", وتصدر أولادها المتعلمين إلى القاهرة, ليعيشوا حول النيل يحرسونه يراقبون أحواله, وكأنهم في مهمة قدرية منذ تناسل الفراعنة الأوائل الذين حملوا في جيناتهم نور الحقيقة.
هذه الحياة رسمتها نيرفانا على صفحات كراسة الرسم في طفولتها وصباها المبكر, ولونت رسوماتها, واحتفظت بشفرات ورموز, تعكسها مضامين ومعاني الألوان والرموز الساكنة على مساحات اللوحات.. لتقول ما لم تستطع قوله جهرا..
نيرفانا, وهي الطبيبة, تدرك أنها أسيرة غيبوبة قد تمتد ساعات, أو أيام أو سنوات, فتتوهج مع ذكريات مرت بها مثل حلم في مدينة "فيوسن" على قمم جبال الألب في ألمانيا, حيث التقت بمهند الذي بسط لها خريطة روحها ببساطة وبنقاء, وأرسل لها إشارات روحه الراغبة, فنالت منها, ووضعتها أمام حقيقتها الملتبسة في أسرة لا تستوعب رؤاها, لكنها لا تتخلص من قيودها وتختار العودة خلف الأسوار, وكأنها لم تغادر صفحات الكراسة, لتعيش عذابا تستكين أمامه كقدر محتوم..
وفي الغيبوبة يطل عليها مهند بإلحاح ويؤكد لها ما كانت تردده دائما " إن نقاط التحول تكون بسبب أحد, او من أجل أحد.."
عندما غضب إله الخمر
تلوذ أسرة نيرفانا بالنهر العظيم, تحط على ضفافه بالقرب من المتحف الفرعوني, فيما الأقارب يتبعثرون من حولهم في الأحياء المجاورة..
ينفلتون مع العائلة الكبيرة في شهر الصيف إلى الإسكندرية ليجتمعوا في شقة اسبورتنج, الواسعة التي تطل على فضار البحر, حتى من تزوجت منهم خارج العائلة تلتحق بالركب في شوارع مجاورة.. تنتظم الأسرة رجالا ونساء وأطفالا وخادمات أصبحن جزءاً من نسيج العائلات المصريات في ستينات القرن الفارط, الذي شهد طفولة نيرفانا وصباها المبكر, والذي صار ذاكرة..
نيرفانا ابنة, طارق مهندس حماية الشواطئ الذي يذهب الى مقر عمله القريب في ساعات النهار ليراجع مخططات الحماية’ ويجلس على الفراندا يراقب النهر ليلا..
وابنة سلوى معلمة اللفة العربية في المدرسة الفرنسية المجاورة للبيت, والني أصبحت فيما بعد معلمة للدين الإسلامي بتعاطف من إدارة المدرسة, لتوفير الوقت لها للعناية بابنها خالد المريض, بسبب جرعات الجاز, التي سقته إياها الخادمة حتى ينام, وتتفرغ للحديث مع خادمات البيوت في العمارة..
تعيش نيرفانا طفولتها في المدرسة الفرنسية مع التلاميذ المصريين, حيث يفصل الذكور عن الإناث, ويحجبهم سور عن فصول أولاد الطليان المختلطة, فينظرون إليهم ككائنات جميلة تنتمي إلى عالم سحري آخر.
الأسرة محكومة بسجن الشقة, فجميع الأقارب يأتون إليهم لمميزات موقع سكناهم, وللجلوس في الفراندا التي تطل على النيل والهواء فيها يرد الروح, وكذلك لتصيد طواقم التلفزيون, التي تعتلي سطح العمارة, وتصور مناظر النيل, وحركة الحياة, ما قد يتيح فرصة لظهور احدهم في الكادر على الشاشة الصغيرة, فيحضرون بكامل زينتهم ويفرضون على نيرفانا وأخيها استعدادا دائما لاستقبال ضيوف..
هذه العوالم التي تحيل الحياة من سجن العائلة في المنيا إلى سجن شقة النيل إلى سجن شقة أسبورتنج, رغم مظاهر الانطلاق الصيفية..
الإسكندرية توفر فضاءً للانطلاق, ونيرفانا لم تكبر في نظر الأسرة لضآلة حجمها, فأطلقوا عليها لقب "نونو" ريما لصعوبة لفظ اسمها وعدم تداوله في الأسرة, أو ربما لشعورهم أن هذه الصغيرة الحجم كبيرة العقل تحمل رؤى خاصة.. فتغاضوا عن عمرها مما أتاح لها فرصة إرهاف السمع للخالات والعمات والجدات والخادمات, وجعل الشبان يصطحبونها معهم إلى صالات الديسكو لاصطياد الفتيات والرقص معهن..
وفي الشقة تلوذ بكراسة الرسم, وتعيد إنتاج العالم من حولها على شفرات الألوان والرموز وتجعله سجلا تهديه فيما بعد إلى ليلى..
فهل كانت التجربة البصرية مع الألوان, اختزالا سريا لحياة الأسرة, التي تأخذ فيها النساء, دور آلهات فرعونيات, فيما يقبع الرجال في ظل اللون الرمادي الوقور, وكأنهم من توابع المقدسات تحقيقا لضرورات التناسل جيلا بعد جيل..
وهل لنيرفانا من اسمها نصيب؟
فالنيرفانا "هي الانعتاق من الجسد ورغباته, والوصول إلى أقصى درجات النقاء الروحي, الذي يوقف تناسخ الأرواح في أجساد مخلوقات أخرى "
هل كانت نونو كذلك؟ أم هي جاءت ضد المعنى؟ وهي المؤمنة بنظرية البدائل التي خلصت ليلى من غضبها على مدرس الكمبيوتر الذي مد لها حبال الود, فاكتشفت بالصدفة انه متزوج وأنه أب لطفلة!!
وتؤمن بنظرية المناداة, التي تفترض أن الأمكنة تنادي الشخص الذي حدثت معه حادثة للعثور على شيء فقده في المكان, وذلك حسب نظرية الطاقة, حيث يبقى تاريخ الأحداث منقوشا على جدران وحوائط وأرضيات الأمكنة, ما يجعلها تؤثر على تصرفات البشر المقيمين فيها..
هل هو التماهي مع الموجودات؟ أم التكامل؟ أم الثورة على الأوضاع المقلوبة؟؟ أم هو الرغبة في التجاوز, الذي جعلها تنحاز إلى ليلى, لكونها ثمرة زواج ملتبس بين الجمود والانعتاق, بين أب تمرد على صورته الضعيفة في نظر الأسرة, فاختار امرأة غريبة من خارج المدار عاشت مع فضاء البحر في الإسكندرية, فلفظتها العشيرة لأنها طارئة على النسل المقدس, ما جعل نيرفانا أول من يستقبل وليدتها ليلى, وتمرر أمام عينيها خاتم فضة مرصعاً بفص كبير من العقيق الأحمر, وتقرأ معه تعويذتها "لي لا" يا ابنتي المشتهاة.. أنت موضوعة في برج العذراء فاعرفي نفسك, ستتمتعين بقدرات خارقة على التحليق دون غيرك ليس لأنك أفضل منهم, بل لأنك لن تقبلي سوى بالتسلسل المنطقي مبررا لكل جزيئات حياتك, ليس هذا بالشيء الأصلح, ليس كل ما في الحياة مبررا, فلتقبلي ببعض الأمور على فطرتها في حينها سيأتيك التبرير لاحقا.
ستتمتعين بميزة التفكير, لكن احذري أن تظل الفكرة أسيرة رأسك (ضعي سراجك على منارة لينظر الداخلون)
أما تيست لها لون جميل لكنها في النهاية حجر يفقد بعضا من زهوه لو تعرض للشمس.. "ولي لا" لها اللون نفسه لكنها وردة تزدهر تحت الضوء"
فهل هذا ما كشفه مهند لنيرفانا في مصادفة غريبة على قمم جبال الألب في ألمانيا, وهل كشف عن ذاته وذاتها في أسطورة الفتاة الطيبة اماتيست التي تصادف مرورها وإله الخمر في حالة غضب على واحد من بني البشر, فيطلق عليها نمران يأكلانها, ولكن الإلة ديانا حولتها إلى حجر من رخام أبيض, فحزن اله الخمر, وذرف دمعة سقطت في كأس نبيذ كان في يده, واندلق الخمر على الحجر فتحول إلى لون موف جميل..
وهناك وبعد أن قطعت الطريق الرومانسي أرهفت نبرفانا بوجد إلى الأغنية:
" لو لم تكن موجوداً, قل لي لماذا أعيش"
لمن تعيش نيرفانا؟ وهي التي شعرت أنها امرأة بلاستيكية عندما قبلها طارق, شعرت بالغثيان وكأنها ترتكب المعصية, ذلك الغثيان الذي داهمها عندما شاركت في جماعة تعليم المكفوفين, الذين يتشابهون في رسم الابتسامة الجفاء الودودة على وجوههم..
لمن تعيش؟ وقد افترقت عن مهند الذي اخترق حجبها وتربع على ناصية القلب منها..
هل لأن الأماتيست, يشفي الروح, ويهدئ النفس, ويعين صاحبه على تقبل الفواجع مثل الموت واليأس, وفقدان الحبيب.
لماذا تنتحر إذن؟
هل هو المخبوء في رباعية صلاح جاهين كما يفهمها مهند البعيد؟ أم هو التراسل أم الاستنساخ؟!!
" لا تجبر الإنسان ولا تخيره
يكفيه ما هو فيه من عقل بيحيره
اللي النهارده بيطلبه ويرضاه
هو اللي بكره يشتهي يغيره"
ومهند البعيد عاش طفولته, في حواري الحسين مع جده لأمه, صاحب محل المجوهرات, وتنقل بين ورش التصنيع, والوازانين, والملمعاتيه, واللحامين, واللضامين,وحارة اليهود, يكبر ويدرس الفلسفة, وينجح في امتحانات الخارجية ليصبح سكرتيرا في السفارة في بلد بعيد, ويبقى على شقاوة الطفل الأول, حاملا معه أحلامه ومواريثه أينما حل, حتى وجد من خلقت له على قمم جبال الألب, جاءت تمثل مصر بعد فوزها ببطولة الجامعات في لعبة تنس الطاولة, التي خبرت أسرارها بالتجربة لكثرة ما لعبتها على طاولة السفرة في شقة العائلة, مع أخيها ومع ضيوف العائلة فهي اللعبة المتاحة في البيت..
الهروب إلى الموت!!
سجلت نيرفانا موقفها من الأسرة في مرحلة الستينات؟ واهدته إلى ليلى بتأثير التناسخ الروحي بينهما, لعل ليلى تستطيع ما لم تقدر هي على تحقيقه, فلماذا كان هروبها إلى اللون؟ وهل توقفت عن الرسم بعد ذلك؟ ولماذا ظهرت اجتهاداته لا حقا في تصاميم الدعاية لمدرسة تعليم صناعة الحلي والجواهر الذي سيفتتحها مهند ابن مهند الذي أصبح سفيرا في البرازيل.. ومهند الثاني هذا, نتاج زواج مصري من أوربية استوعبت أحلامه, ومنحته طفلا له ملامح مصرية, ولكنه يحمل جينات الولاء لمسقط رأسه وينتمي إلى حرفة جده الجواهرجي, يفتح مدرسة وصالة لتعليم وعرض المجوهرات المصرية النادرة في البرازيل, ويعود ليفتتح فرعا في القاهرة في شارع المعز لدين الله الفاطمي.!!
فهل صار الوطن فرعا للمهجر؟ أم هو اغتراب الوطن عن الوطن عند الفرنكفون؟ أم هو البعد عن الوطن ليزداد حضورا وبشكل مغاير وعلى قيم مغايرة..؟!!
في أجندة اللون, وعلى الصفحة الأولى, خطوط طولية, مثل قضبان السجن ترمز إلي الحياة المحصورة بين النهر, والشقة, والمدرسة الفرنسية والسور الذي يفصل الطلاب المصريين عن الطلاب الطليان..
وفي الصفحة الثانية إسقاط على طنط هدى, التي تسكن مع زوجها شهاب في شارع الدلتا في شقة شهدت انتحار ضابط جُرد من رتبته العسكري, فأنهى حياته مشنوقا معلقا في ماسورة دش الحمام..
هدى خارج المرآة, امرأة بشعر أحمر ووجه ملون بأصباغ, فاقعة وأقراط مدلاة, وعقد كبير, أما داخل المرآة, امرأة ملونة بدرجات من اللون الأصفر!!
وفي سهرة من سهرات العائلة في فندق سيسل, تشرب هدى كوبين من البيرة مستغلة وجود الرجال على البار لاحتساء الويسكي, وتصرح:
" غداً سأريح شهاب مني للأبد"
وفي الصباح أبلغ شهاب عن موتها بالحبوب المنومة..
أي مواقيت تحالفت مع انتحار أو موت هدي؟ هل هو تأثير روح الساكن المنتحر المكان؟ أم هي عتبة فندق سيسل الذي يقال أن كليوباترا تناولت السم على الأرض التي تقوم عليها العتبة؟ أم هي المفارقة أن تكون نيرفانا وطارق في كازينو نفرتيتي يشاهدان زفة اسكندراني, وكأنهما يزفان هدى!!
وهل كل هذا ما كرس اعتقاد العائلة أن هدى ماتت في الوقت المناسب؟
صفحة طنط سميرة, مقسومة إلى قسمين, في الأول خلفية بكل الألوان وكل الدرجات وامرأة تمسك بيد رجل, وفي القسم الثاني خلفية تبدأ باللون الرمادي وتنتهي بأقصى درجات الأسود,
طنط سميرة, صديقة الجدة آمنة, ماذا كانت تخفي سميرة وراء ظهورها الزاعق والمشاغب؟
انهارت في شبابها عندما خذلها حبيبها, فوقع في غرامها الطبيب المسيحي المعالج, فانحاز إلى جبهتها الدينية. وغير اسمه من ناجي فأصبح محمد ناجي نصيف مهدي..
هل عاشت خدعة أخرى مؤلمة؟ لأن زوجها لم يغير دينه, ولم تهبط صورة مار جرجس وهو يقاتل التنين من أعلى سرير نومها, توصي بأن تدفن في مقابر المسلمين, في فيما يصطحب الدكتور نصيف قس الاعتراف, ويدعو لإقامة القداس على روحها الطاهرة في كنيسة المرعشلي.
فهل عاشت سميرة الخديعة وأفاقت عند ذهول النهاية؟
وهل صحيح أنها ماتت في الوقت المناسب, كما قالت الجدة آنة ورددت العائلة؟
وفي لوحة الصفحة الخامسة, رسم من خطوط بالأسود والأحمر والأبيض, وبقعة ذهبية تفسيرا للوحة الكنفاه التي طرزتها الجدة رؤية بدقة بالغة, وإسقاطا على شخصية زوجها الطيب بابا جلال الذي كان يعامل الجميع, وخاصة الصغار معاملة الأبناء, بطيبة متناهية.. يتبنى ورؤية وفاء الصغير ويغمرها حبا طفلة وشابة مما يثير غيرة رؤية..
هل رحل في الوقت المناسب, قبل أن يكتشف أن رؤية قد أخفت عنه عدم قدرتها على الإنجاب,بسبب جراحة في الرحم, وظلت توهمه بحضور الدورة الطمثية التي لا تأتي, فلا يملك حينها غير دموعه, مثل وحيد القرن أبيض لا يعرف الحقد..
وهل موت سعد زوج وفاء الطبيب البحري راكب الخيل والمصاب بالصرع كان في الوقت المناسب أيضا, بعد أن عذب وناء في المحاكم ثمانية سنين,
من الذي يحدد التوقيت المناسب للموت؟ وكيف؟
وهل اختارت نيرفانا الرحيل في الوقت غير المناسب فساقت الأقدار القارب, ليغير مسار المعادلة في العائلة, وتعيش نيرفانا من جديد وفي الوقت المناسب!!
الكشف وذهول الفجيعة
وفي صالة الديسكو تتفرج على الراقصين, أظفر قدمها يكاد ينخلع عن اللحم, فقد كان عليها استخدام حذاء تسلق أوسع قليلا فالأجسام عند الارتفاع تتمدد بسبب انخفاض الضغط.. يهديها مهند جعراناً من الفيروز..
" خدي الجعران ده من الفيروز, إعمليه تمميه تتباركي بها ويشفيكي زي ما جدودنا كانوا بيعملوا, كمان حجر التركواز ده له سحر خاص, مفروض أنه بيشفي من الأمراض الجسمانية ويزود بالحكمة والشفافيه ويمنع عنك الحسد ويكفيكي شر الذكاء الخارق يا زيكو "
وعند رقصة القبلات لا ينضم مهند,جلس يحدثها بحكاية الجعران والخنفسة كما لخصها صلاح جاهين:
حدوته عن جعران وعن خنفسه
اتقابلوا حبو بعض في ساعة مسا
لا قال لهم حدا ختشوا عيب حرام
ولا حد قال دي علاقه متدنسه
مهند يفتح لها بوابات اختبار أحاسيسها ومشاعرها لتراجع الحياة التي عاشتها, وهي ترصد ما حولها بمنتهى العقل والحياد, وتغلف تمردا سلبيا ضد الأسرة والمجتمع, ولكنها لم تخرج عن الخطوط المرسومة لها سلفا..
تسير في المدينة على قدم واحدة, بعد أن نزعت الظفر عن الأصبع بجراحة بسيطة.. تتسوق بعض الهدايا, فيما ينتظرها مهند على المقهى.. تشري انسامبل من الحرير الموف هدية ل" لي لا" وترتديه, فالجو يدعو إلى ارتداء نسيج رائق..
تقف ومهند أمام فاترينة لعرض الخواتم والأقراط والأساور, يشير مهند إلى خاتم الزفير الأزرق:
- ده هيبقى خاتم زواجنا
ترد كالملسوعة:
- مش شايفني لابسه دبله وسولتير ألماظ!!؟
يشترى الخاتم ويقدمه لها..
وفي الغيبوبة أو في الصحو البعيد, تحضر الجدة رؤية, وتحدثها عن الفتاه التي تشترط الزواج من الرجل الذي يصنع الأسورة التي تحلم بها ورسمتها, فلا يتمكن من ذلك غير الشاب الذي أنقذها وأخرجها من البئر, لأن الحبيب حبيبه بعين قلبه قبل أن يرى جسده كما تستخلص الحكاية؟
هل كان مهند ذلك الشاب الفرانكفون, هو الذي طالما حملت به, ومن كشف أمامها خداع الألماظ.. يقدم لها عقدا صنعه بنفسه من حجر الأماتسيت, لكي يكمل جمالها انسامبل الموف؟
هل وضعها وجها لوجه أمام قلبها, الذي لطالما حجبته بفعل طاقة عقلها المشغولة بالتحليل والتأويل والإسقاط , ما دفعها إلى القبول الايجابي رقصا في صالة الديسكو..
" يحتويني تماما, تتلاشى المسافة الفاصلة بيننا, ويتلاشى معها إحساسي بجسدي أيضا, لا اشعر بوجودي وكأنني كائن أثيري له روح ومشاعر"
هل أدركتها حالة كشف؟ أم حالة ذهول وفجيعة!!
العودة إلى عين النبع
ميونخ تستعد لمهرجان البيرة, ومهند يحتسي عددا من الكؤوس بانتظار نيرفانا التي انطلقت للتسوق.. تعود له ببخور هندي يذكره بها.. يسرح إلى ما قبل المكان هناك, ويشدو على وتر قلبه..
وفي قلعة البجعات أعلى الجبل, وعند النافورة التي يتوسطها التمثال الذهبي تنتقل إليها أرواح من عاشوا في المكان, وتتلبسها روح الأميرة النائمة, فيما يمثل مهند قائد اوركسترا يحسم الحدوتة المتروكة بلا نهاية:
- نيرفانا, لم يعد لدينا وقت لنضيعه, احسمي أمرك, وأكملي حياتك معي.. "
يضعها أمام الاختيار وهي التي تضيق بضفتي النهر, والأسوار وحكايات اسبورتنج, وتتوق إلى النهايات المفتوحة, صارت مثل عصفور الزينة الذي يخشى الخروج من القفص!؟ وعادت إلى القفص من جديد, تكمل المشوار مع طارق خيار الأسرة وتتزوج , ويأتي ولدها مازن الذي يحرك الشخوص على خشبة المسرح, وكأنه يحمل بعض طموح مهند,
فهل ترى تحقق ليلى ما عجزت عنه نيرفانا عند الاختيار!!
لأن نقاط التحول تكون بسبب شخص ما أو من أجل شخص ما, أو صدفة, أم هي الأقدار تسوق أحدا فتحدث نقطة التحول, فهل كان هذا الأحد هو احدي صديقات الرحلة, هاتفتها وأخبرتها بوفاة عم مهند, وأن العزاء في بيت أخيه السفير في القاهرة, لترى في صالة الاستقبال, كهفاً من الأماتيست يضم صورة العائلة محاطة بإطار من الفضة, وترتكن على الكهف صورة مهند وزوجته الأجنبية يحملان طفلا بملامح مصرية..
هل وجد مهند من تفهمه؟ وهل انبثقت له نيرفانا أخرى في مكان قصي من الأرض تكمل مشوارها, وتهديه ولداً أسمياه مهند!! وهل تفهمه كما تفهمه عندما يغني كما غنى لها:
"صوتك يا بنت الايه كأنه بدن
يرقص يزيح الهم يمحي الشجن
يا حلوتي وبدنك كأنه كلام
كلام فلاسفه سكروا ونسيوا الزمن "
هل ينسى الفلاسفة الزمن؟ أم يعيدون صياغته في مراحل لاحقة؟ وهل توقف زمن نيرفانا عند حدود السور والأسلاك؟ وهل بقي لديها طاقة للعبور إلى زمن العولمة. لتعيد ترتيب الأزمان؟ ربما هذا ما أخذها إلى الحاسوب لتبدأ من جديد, وتبحث عن نيرفانا..
تقرأ من جديد:
" تقول الأسطورة أن حجر التركواز يحمي الخيول من الأمراض, كما أنه يحفظ الفارس من الوقوع عن فرسه "
فتهتف إذن على ليلى أن تعلق في رقبة مهرها "رماح" حجر فيروز, أو ترتديه تممية عندما تمطي ظهره..
يستمر البحث ويخرج عليها مهند بن مهند سفير مصر في البرازيل, بخبر افتتاح يفتتح صالة لعرض الحلى الفريدة, ويدير مدرسة لتعليم صناعة الحلي والمجوهرات, في شارع المعز لدين الله الفاطمي
مهند الثاني يتناسخ عن مهند الأول الذي حفظ الدرس عن جده لأمه الجوهري في الحسين, ويعود بحلم أبيه..
هل كانت الفجيعة بحجم الموت يا نيرفانا؟
أم كانت الصدمة بوابة إلى الحياة؟
وهل هو القدر التي حمل رسالة مهند السفير, في صورة القارب الذي صدمك لينقذك من غرق محقق.. هل همس في أذنك وكان متأملا وحزينا..!؟
يأسك وصبرك بين إيديك وأنت حر
تيأس ما تيأس الحياة راح تمر
أنا دقت مندا ومندا عجبيى لقيت
الصبر مر وبرضك اليأس مر
وهل سجلت نيرفانا أنها عادت من الموت, لتعيش في الزمان المناسب؟
أما قبل
فالكاتبة مي خالد, تقف على ضفاف الحالة, مزحومة بالأسئلة, مشغولة باستقصاء ما هو أبعد من الظاهر,تتكئ على معرفة معمقة متعددة, واطلاع على التجارب العالمية في القص, يمكنها من تخطيط بنية السهل الممتنع, تتقمصها روح شاعرة راغبة في الجلوس على بساط غيمة, لترصد الحياة على الأرض من خلال بلورات مطر شفيف, يمتص ضوء النهار ويحلله إلى أطياف قوس قزح السبعة, التي تندغم حضورا في الأبيض, وتتلاشى موتا في الأسود,ما يزودها بقدرة العزف الصوفي على مراتب الأطياف في محاولة لاستيعاب سر الوجود, بعيون امرأة تنشد العدل في عالم محاط بالكواسر..
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟