|
من الاقتصادوية إلى الثقافوية إلى السياسوية إلى آخره
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2768 - 2009 / 9 / 13 - 21:25
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في السنوات الأخيرة، التالية لحدث 11 أيلول 2001، برز بوضوح تيار فكري عربي وعالمي يفسر أوضاع العرب بثقافتهم، ويزكي حلولا ثقافية لمشكلاتهم العويصة، ويقرر أنه من دون هذه الحلول ستمعن أوضاعهم في التردي، وربما "ينقرضون". لم ينبثق هذا التيار من رحم الحدث الإسلامي الأميركي في مطلع هذا القرن، لكنه اكتسب منه زخما كبيرا. كان أخذ بالظهور منذ ثمانينات القرن العشرين، بالتوازي مع طفرة الكتابات التراثية في ذلك الحين، وبالتعارض إيديولوجيا مع التوجه الغالب عليها، وكنوع من رد الفعل على الاقتصادوية الماركسية التي كانت تمعن حينها في الجمود نظريا وسياسيا. على أن رد الفعل الثقافوي هذا ينسخ تماما البنية الذهنية للاقتصادوية. كان تحليل اقتصادي مبتسر شاع بين ستينات وثمانينات القرن السابق يقرر أن الاقتصاد أساس المجتمعات، وأن نمط الإنتاج المادي يحدد العلاقات السياسية والثقافية والحقوقية في المجتمع المعني، بوصف هذه بنى فوقية لا تتغير دون تغير نمط الإنتاج الذي هو البنية التحتية. الكلام على استقلال ذاتي نسبي للسياسة والثقافة، وعلى أنهما يردان التأثير على الأساس الاقتصادي التحتي، دخل التداول عربيا منذ السبعينات، لكنه ظل خطابيا، يحيل إلى حرج من الاقتصادوية التي كانت توصف بالميكانيكية دون أن يتشكل في نسق نظري متسق. هذا ما ورثته الثقافوية التي شرب بعض أساطينها من الماء الاقتصادوي لوقت كاف. الثقافة هنا، مردودة في الغالب إلى الدين، هي التي تفسر السياسة والمجتمع والقوانين والأخلاقيات (وربما الاقتصاد أيضا)، فضلا عن موقع العرب العالمي وتفاعلاتهم الدولية. فإن لم تتغير الثقافة ستبقى أوضاعهم دون تغيير. وتشترك الثقافوية والاقتصادوية في الحتموية، على مستوى التفسير (الاقتصاد هو "المستوى المحدد"...) أو على مستوى العمل (تغيير الاقتصاد شرط شارط لأي تغيير آخر). قد يقال شيء عن "الاستبداد" وعن أوضاع جيوسياسية غير ملائمة، لكنه يبقى خارج الإشكالية، مجرد ألفاظ لا دلالة فاعلة لها. ما ترتب على 11 أيلول هو رفع عتبة نقد هذه النظرية التبسيطية أو تسهيل القبول بها. كل العالم يتكلم على الأصولية الإسلامية وعلى الإرهاب الإسلامي وعلى التعثر الحضاري العربي والإسلامي... ما يقلل من الترددات والوساوس حيال نظرية كان يمكن أن تظهر تحفظات أقوى حيالها في سياقات عالمية أقل ثقافوية وأدنى تركيزا على الإسلام والإسلاموية. لكن الإسهام الأبرز لتفاعلات ما بعد 11 أيلول تمثل في تقوية اتجاهات كانت سابقة له، وتعود أقرب أصولها إلى ثمانينات القرن الماضي أيضا، أعني الجنوح اليميني غربيا، ثم الميل الذي ظهر في التسعينات إلى رؤية العالم كتراصف "حضارات" منفصلة عن بعضها ونزاعة إلى التصارع فيما بينها، الإسلامية منها بخاصة ضد الغربية منها بخاصة. هذا الضرب من المقاربة الماهوية لا يختلف عن ضروب سابقة له إلا في تمحوره حول فكرة الحضارة أو الثقافة (المردودة أيضا إلى الدين). سبق أن أسندت الفوارق إلى الأعراق: سود وبيض وصفر... وإلى اللغات: سامية وآرية...، وإلى الجهات الجغرافية: شرق وغرب... وإلى الأديان ذاتها دوما. ويبدو لي أن شتى تنويعات المذهب الماهوي تتناسب مع أوضاع وعلاقات امتيازية، وتعكسها وتعمل على تسويغها وتثبيتها. كانت ضروب من ماهوية العرق أو اللون أو الدين هي التسويغات الأنسب للتوسع الاستعماري الأوربي. وكانت الاقتصادوية الماركسية، مستندة إلى ما قد يسمى ماهوية الطبقة، سوغت استبدادا شموليا كاسحا حيثما فرضت كمذهب رسمي. وتنويعات الثقافوية عربيا تجد نفسها قريبة بصورة ثابتة من هياكل السلطة الاستبدادية والامتيازية في مجتمعاتنا المعاصرة، وهي صريحة كفاية في الاعتراض على الديمقراطية بحجج تنسخ حرفيا ما كان يقال عن "الأكثرية العددية" أو "أكثرية الكم" في جنوب أفريقيا العنصرية. إلى ذلك، الصلة وثيقة بين الماهوية كمقاربة واحدية تعرف المجتمعات التاريخية بعنصر واحد يفترض أنه يمثل جوهرها أو روحها (الشريرة التي ينبغي التخلص منها، أو الخيرة التي ينبغي الحفاظ عليها) وبين الحتموية نظريا وسياسيا. هذه لا توجد دون تلك. فإذا كان الإسلام روح مجتمعاتنا، وإذا كانت كل جوانب حياتها تتحدد به، فأنها لن تنهض إلا بالعودة إليه (والإسلاموية معرفة على هذا النحو نزعة ثقافوية وحتموية مثل غيرها، ومثالها الامتيازي للتنظيم الاجتماعي لا جدال فيه) أو لن تنهض إلا بتقييده وعزله سياسيا (على ما تقول صيغة علمانية للثقافوية). لا يستطاع، بالمقابل، التخلص من الحتموية دون التخلص من الواحدية لمصلحة رؤية أكثر كثروية وتركيبا للمجتمعات العيانية وللعلاقات الدولية. الرؤية الكثروية تقترن بهياكل وعلاقات سلطة أكثر ديمقراطية وانفتاحا. لقد اقترنت ثورة العلوم الاجتماعية في الغرب منذ القرن التاسع عشر وما واكبها من تنوع المقاربات النظرية والتعدد المنهجي بانفتاح مطرد لنظمه السياسية والاجتماعية. فيما اقترن الاستشراق، ولطالما كان اختزاليا، ومتأخرا منهجيا عن المتاح العلمي في بلدان المستشرقين (كما لاحظ كثيرون من نقاده) بعلاقات سلطة هيمنية مع المجتمعات "الشرقية" المدروسة. ولقد ارتبط صعود الحضاروية في أميركا بسياسات يمينية ومحافظة في الداخل الأميركي قبل غيره. وهل يمكن إنكار الصلة بين الإعلان المتعجرف عن انتهاء التاريخ وبين الثقة الدوغمائية العمياء بآليات السوق والاسترخاء المفرط لأصحاب الامتيازات، وقد أفضيا، بعد انتهاء التاريخ بنحو 15 عاما، إلى أزمة اقتصادية تذكر بأيام مفرطة في تاريخيتها قبل نحو ثلاثة أرباع القرن؟ وقد يفيد هذا التحليل لبلورة استخلاص سياسي نراه ضروريا للعمل الديمقراطي في العالم العربي. الديمقراطية تتعارض منهجيا وفكريا مع التركيز الحصري والأحادي على الاستبداد، أو حتى على السياسة وحدها (كما بالطبع مع الثقافوية والاقتصادوية). هذه المقاربة السياسوية، الحتموية بدورها (تنزع إلى تفسير كل شيء بالاستبداد، وإلى إشراط كل تغيير بزواله)، أنسب لتغذية الاستبداد، إن على المستوى الحكومي أو على مستوى تنظيمات المعارضة الديمقراطية ذاتها. وبينما قد تكون معبّئة على المدى القصير وحين يكون الاستبداد في أزمة، إلا أنها لا تصلح أساسا لتنشيط العمل الديمقراطي وتجدد الفكر الديمقراطي على المدى الأطول. للمذاهب الثلاث، الثقافوية والاقتصادوية والسياسوية، بنية مشتركة تقوم على الماهوية والواحدية والحتموية. إنها مذاهب تعبئة وتحشيد، ربما يتشكل حولها عصبة أو رابطة، لكن ليس معرفة مفتوحة، ولا سياسة تحررية. كانت حصيلة الاقتصادوية هزيلة في مجال الاقتصاد أولا. ومثلها، ليس في سجل الثقافوية ما هو أساسي في مجال الثقافة. وليس من شأن السياسوية أن تكون أفضل إنجازا في المجال الذي تفضل أن تعرف نفسها به. هذا طبيعي. إنه عقم الواحدية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثلاث أسئلة بخصوص كتاب عبدالله العروي -السنة والإصلاح-، وثلاث
...
-
في تأسيس المحاصّة الطائفية معرفياً
-
ربيع الأقوياء العائد... مخيف حقا!
-
عن التماهي مع الشاعر في حضرة غيابه
-
سياسة التعقيد ك-جدار فصل- للفلسطينيين عن قضيتهم
-
في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور
-
الحداثة كخير عام، كوني وضروري
-
في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
-
فيما خص أزمة الثقافة النقدية..
-
منظومتا استثناء، لا واحدة، في سورية
-
تعقيب على نقاش منتدى -هلوسات- حول مشروع قانون الأحوال الشخصي
...
-
في أصول صناعة التشاؤم العربية
-
بصدد العنف والنخبوية
-
ملحوظات أولية في نقد السياسة
-
ماذا يعني مفهوم الحريات الاجتماعية؟
-
موقع -الديني السياسي- في وثيقتين معارضتين سوريتين
-
من خرافة سياسية إلى أخرى..
-
عودة إلى مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري
-
-الحل- غير موجود... أين هو؟
-
في بئري الدين والدولة
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|