|
لغة الجسد في ((قلعة الحاج سهراب))
ثائر العذاري
الحوار المتمدن-العدد: 2766 - 2009 / 9 / 11 - 22:36
المحور:
الادب والفن
في السنوات الأخيرة انتشر في العالم علم إنساني جديد أطلق عليه تسمية ((لغة الجسد))، وهو العلم الذي يحاول فهم أفكار الناس واستجاباتهم من خلال حركاتهم وهيئاتهم.، وقد تم تأليف عشرات الكتب ومئات المقالات التي وضعت الأسس النظرية والتطبيقية لهذا العلم، لعل من أهمها كتاب (آلان بيس) الموسوم BODY LANGUAGE How to read others’ thoughts by their gestures الذي سنعتمد عليه في هذه المقالة، حيث يؤكد الكاتب أن الكثير من التواصل بين البشر يتم عبر الإشارات وحركات الجسم، إذ يبدو أن الانسان يعرفها بالفطرة، ولعل اشارات مثل هز الرأس إلى الأعلى والأسفل للتدليل على الموافقة، وهزه بين الجانبين للتدليل على الرفض، من أشهر الإشارات العالمية التي يستخدمها الناس من غير أن تكون لها علاقة بلغتهم المحكية، فضلا عن استخدامهما من قبل الصمّ والبكم، الذين قد لا يعرفون لغة محكية على الإطلاق. والشيء المهم في هذا العلم إثباته أن البشر متفقون على معظم مفردات لغة الجسد بالفطرة وإنهم يستخدمونها في حياتهم اليومية للتواصل مع الآخرين من غير الحاجة إلى تعلم المزيد منها. وهذا يرجح كما يقول (آلان بيس Allan Pease) فرضية أن تكون هذه اللغة موروثة للبشر من أسلافهم الحيوانات، وهو يضرب مثلا في هيئة التكشير عن الأسنان عند الغضب، فهذه الإشارة عند الحيوانات تدل على اتخاذ الحيوان وضعا هجوميا. وقد لاحظنا أن كتاب القصة القصيرة يلجأون كثيرا إلى استخدام لغة الجسد في قصصهم، بوصفها وسيلة فعالة لبناء الشخصية وتنميتها بلغة مكثفة، وحين نتحدث في هذه المقالة غن مجموعة القاص العراقي هشام توفيق (قلعة الحاج سهراب) المطبوعة في بغداد عام 2007 فإننا لا نريد القول أن لهذا القاص ما يميزه من غيره في هذا الجانب، بل لقد اخترناه نموذجا عشوائيا لإيضاح الفكرة, والحقيقة أن كل كتاب القصة تقريبا يوظفون لغة الجسد معتمدين على الفهم البشري المشترك لنا تدل عليه. السارد في (قلعة الحاج سهراب) - القصة التي تحمل المجموعة اسمها – امرأة تروي حكاية (تسفيرها) إلى إيران مع عائلتها وعودتها بعد الاحتلال الأمريكي، وتصف تلهفها للعودة إلى أملاك العائلة في مدينة بدرة الحدودية، التي أبرزها قصر جدها الحاج سهراب الذي كان يتوسط بستانا غناء، ويعد أعجوبة عصره في التصميم والعمارة. غير أنها بعد أن تصل المكان مع زوجها قادمة من بغداد تقع تحت تأثير صدمة كبرى عندما تكتشف أن القصر والبستان تحولا إلى أثر بعد عين، وصارا محض أنقاض تحكي حكاية مجمد زائل. أول شخصية تظهر في القصة شخصية (الخان الصغير) الحاكم الظالم الذي بنى القصر قبل أن يشتريه جد البطلة الحاج سهراب، وحين يريد القاص التعبير عن مدى سعادة هذا الرجل بقصره يلجأ إلى لغة الجسد ليصف هيئة من هيئاته: ((..... وزرع على ضفاف ترعه أبصال النرجس العنقودي الذي كان يحب زهرها كثيرا، وطالما شوهد فيما بعد جالسا أمامها، يدخن الحشيش ويستملي جمالها ألأخاذ ورائحتها الزكية)) ولا شك أن هذه العبارة صورت بكلمات قليلة ومن غير الوقوع في المباشرة والتقريرية الترف الذي يعيش فيه هذا الحاكم من خلال جلسته تلك. بعد سفرة بالسيارة كانت تبدو شديدة الطول بسبب التلهف إلى رؤية قصر الجد: ((قال زوجي وهو ينعطف بالسيارة باتجاه فرع ترابي منفصلا بذلك عن الشارع الرئيس الصاعد قدما باستقامة صوب ناحية زرباطية: -أخيرا، ها نحن نقترب. فانتبهت لنفسي، وأنا أتثاءب: -ماذا..؟ هل كنت نائمة؟)) التثاؤب في مثل هذه المواقف، كما نعرف وكما يؤكد آلان بيس في كتابه، تعبير بلغة غير محكية عن سأم الانتظار والملل والضجر، وقد وفق القاص في اختيار هذه الطريقة لإعطاء القارئ الانطباع عن مدى تلهف بطلته إلى الوصول إلى قصر الجد، فربما كان احتمال الزمن الذي قطعته السيارة من بغداد إلى بدرة أصعب احتمالا لديها من العشرين عاما التي قضتها بعيدا عن الوطن. ربما تكون العيون واحدة من أهم وسائل لغة الجسد، غير أن هشام توفيق يستخدم طريقة شائعة أكثر كثافة وذلك بإسناد الصفة الشعورية إلى العين، كما في الشعور بالذهول عندما تصطدم البطلة بالخراب الذي حل بقصر الحاج سهراب: ((..... أين القصر وأين البستان؟! وبعينين ذاهلتين مجلودتين من هول المفاجأة نظرت إلى زوج، كان هو الآخر مصعوقا لا يستوعب الصدمة)). يلاحظ هنا أن الصفة (ذاهلتين) ليست صفة حقيقية للعينين، بل هي صفة لمفردة من مفردات لغة الجسد اعتدنا على تداولها مثل (نظرة ذهول، نظرة تأمل، نظرة رضا ......)، وهذه التقنية تختصر الانطباع مرتين، الأولى بالاعتماد على لغة الجسد، والثانية بتسخير المعرفة المشتركة لمفردات هذه اللغة، فهو لا يحتاج أن يصف نظرة الذهول، لأننا جميعا نعرف أنها تعني فتح العينين على سعتهما وتجمدهما وفتح الفم قليلا وربما تغطيته بالكفين كما يصف ذلك مؤلف الكتاب المذكور. في كثير من الأحيان نبني انطباعات عن أناس نتعرف بهم للمرة الأولى من خلال النظرة الأولى معتمدين على ملامح الوجه، وما تفسره أدمغتنا اعتمادا على قاموس لغة الجسد المضمن فيها بالخلقة، وهكذا تفعل بطلة القصة عندما تلتقي امرأة لاجئة من القصف الأمريكي على بغداد إلى أطلال قصر الحاج سهراب: ((كانت امرأة في عقدها الرابع، وجهها المؤطر بــ (الفوطة) ينم عن جمال زائل ولكنه في الوقت نفسه ينم عن طيبة وود )). والانطباع بالطيبة والود يأتي من وجه دائري مبتسم وممتلئ. والقاص هنا يستخدم عملية عكسية فهو يعطينا الانطباع الذي تدل عليه لغة الجسد، لنستنتج منه نحن الحركة والصفات، فمن كلمتي (طيبة وود) يمكننا تخيل شكل وجه المرأة. وفي هذه العبارة: ((كل ما أتذكره أنني كنت أتحسس التراب بقدميّ تحسسا في مشي وئيد)) يصور القاص من خلال حركة البطلة شدة تشبثها بحلمها بذلك القصر، فهي لا تريد تصديق ما ترى وتحاول التأكد من حقيقة المشهد عبر تحسسه بقدميها. وترسم البطلة، من ذكرياتها، صورة لجدها الحاج سهراب: ((بيد أ، صورة جدي سهراب ظلت ترف على مخيلتي مستلق فيه على سجادته الكاشانية لأخذ قيلولته المعتادة،، ومسبحته الكهرب الصفراء تطقطق، حباتها بين أصابعه قبل أن يغفو...)) يبدو من هذه العبارة أن لا لغة الجسد لا تخلو من شيء من المحلية، فالعراقي سيفهم من هذه العبارة الكثير من صفات شخصية الحاج سهراب، فهو رجل قوي الشخصية، يسيطر على كل شؤون العائلة ويتحكم بها مع قدر كبير من الطيبة، وقيلولته تلك كانت لحظات تأمل على إيقاع (طقطقة سبحة الكهرب)، قد تنتهي باتخاذ قرارات حاسمة ينام بعدها مطمئنا ويعلنها بحزم بعد استيقاظه. ومثل هذه المعلومات لن يستطيع غير العراقي استنتاجها من القيلولة والسبحة لأنها لغة جسد محلية غير موجودة في قاموسه.
#ثائر_العذاري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فلسفة الأدب النسوي (حكايات شهرزاد الجديدة) نموذجا
-
سلوك اللغة في القصة القصيرة جدا
-
(أرابيسك) لعلي عبد الأمير صالح لعبة التخفي
-
علم النفس الرقمي
-
أنا شاعر..إذن أنا موجود
-
وقفة مع التراث (1) / البلاغة في الصناعتين
-
الرسم بالكلمات
-
هكذا كنا... فكيف أصبحنا....
-
الفن والتاريخ / حول مسلسل الباشا
-
الموت والحياة في شعر محمود درويش
-
تقديم لمجموعة القمر المنشور القصصية
-
بلند الحيدري وأزمة الإنسان المعاصر
-
القافية.. حقيقتها ووظيفتها - القسم الأول
-
شعراء الكيس
-
قطار محمود درويش الساقط من الخريطة منذ ستين عاما
-
مقتل سحر وموهبة ميسون أسدي
-
الواقعية الشعرية في النص المفتوح – إشارات أولية / أشرعة الهر
...
-
مناحة نبيل ياسين على بلاد الرافدين
-
الفضاء الفاعل في نصوص خالدة خليل
-
علم الأدب
المزيد.....
-
قدّم -دقوا على الخشب- وعمل مع سيد مكاوي.. رحيل الفنان السوري
...
-
افتُتح بـ-شظية-.. ليبيا تنظم أول دورة لمهرجان الفيلم الأوروب
...
-
تونس.. التراث العثماني تاريخ مشترك في المغرب العربي
-
حبس المخرج عمر زهران احتياطيا بتهمة سرقة مجوهرات زوجة خالد ي
...
-
تيك توك تعقد ورشة عمل في العراق لتعزيز الوعي الرقمي والثقافة
...
-
تونس: أيام قرطاج المسرحية تفتتح دورتها الـ25 تحت شعار -المسر
...
-
سوريا.. رحيل المطرب عصمت رشيد عن عمر ناهز 76 عاما
-
-المتبقي- من أهم وأبرز الأفلام السينمائية التي تناولت القضية
...
-
أموريم -الشاعر- وقدرته على التواصل مع لاعبي مانشستر يونايتد
...
-
الكتب عنوان معركة جديدة بين شركات الذكاء الاصطناعي والناشرين
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|