|
فلاديمير ماياكوفسكي... نبذة مكثفة عن حياته وإبداعه
أيمن أبو الشعر
الحوار المتمدن-العدد: 2759 - 2009 / 9 / 4 - 16:11
المحور:
الادب والفن
ولد فلاديمير ماياكوفسكي عام 1893 في بلدة بغدادي في جورجيا، البلدة التي حملت اسمه فيما بعد، وكان والده فلاديمير قسطنطينوفيتش ، وكذلك والدته الكسندرا الكسييفنا من سلالة أسر قوزاقية، فوالده روسي من أصول تترية، وأمه من أصول أوكرانية . وكانت الأسرة غير الميسورة ماليا محبة للأدب والفولكلور والثقافة مما أتاح لماياكوفسكي تلقي التعليم الأولي في المنزل، ثم تابع الدراسة الإعدادية في مدينة كوتاييسي حيث بدأ يتشرب الحس الديمقراطي - الثوري. وتلعب ثورة عام 1905 دورا كبيرا في مشاعر (الطفل) فلاديمير، فينخرط رغم صغر سنه في نشاطات الحركات الثورية، ويعتبر مشاغبا بالنسبة للسلطات ، لكن الوضع الخاص بالنسبة لجورجيا آنذاك - حيث كانت أشبه ما تكون بمنفى للثوريين- ساعده في تتبع المنشورات السرية ، وأعطته نداءاتها دفقا جديدا مما دفع إلى توحد الشعر والثورة في رأسه ،كما يقول نفسه عن تلك المرحلة.
يغادر فلاديمير ماياكوفسكي مع والدته وشقيقتيه إلى موسكو عام 1906 بعد وفاة والده ، وتبدأ مرحلة مضنية تسعى فيها والدته لسد الرمق من صناعة بعض التشكيلات الفولكلورية وبيعها، وتأجير غرف في شقتها المستأجرة أساسا ، وينخرط فلاديمير في العمل السياسي وينتمي إلى حزب العمال الديمقراطي الاشتراكي وهو في الرابعة عشر من عمره ، فقد كان ذا مظهر رجولي وقامة طويلة، وقد شارك ببعض الأعمال الثورية بما في ذلك حفر نفق تحت السجن هربت خلاله سجينات كانت السلطات تستعد لإرسالهن إلى المنفى، وعرف ماياكوفسكي السجن المنفرد وهو لايزال بعد في الصف الخامس الابتدائي:
عندَ الشبيبة دروسٌ كثيرة
ندرسُ القواعدَ أغبياءَ وغبيّات
ها إنَّهم طردوني وقذفوا بي
من الصفِ الخامسِ إلى سجنِ موسكو
ينتسب عام 1911 إلى كلية الفنون ، وتبدأ أولى محطاته الجدية في مساره الإبداعي بعد تعرفه إلى الشاعر بورليوك الذي كان مرشده ومشجعه الأول . تصدر أولى أشعاره عام 1912 وتكون أولى خطواته الشعرية المتميزة عبر المستقبلية التي كان لها أكبر التأثير على أسلوبه الفني.
كان الحب بالنسبة لماياكوفسكي محرقا متجددا، كان محرقا لأنه أحب بكل جوارحه، وكان متجددا لأنه أحب الكثيرات، لكن ليلي بريك كانت التجربة الأقوى والأقسى والأغنى إبداعا في حياته . وليلي بريك هي شقيقة إلزا تيروليه حبيبة أراغون، وكانت ليلي شخصية جذابة ومؤثرة، لكنها كانت زوجة الأديب والناقد أوسيب بريك حيث كان ماياكوفسكي يزورهما ، وقد أهداها أروع أشعاره :
انتزعتِ قلبي
وببساطةٍ ذهبتِ لتلعبي به
كطفلةٍ تلعبُ بكرتها
على أن الثورة وبناء العالم الجديد ظلا هاجس ماياكوفسكي الأول والمسيطر، حيث ينغمس بأجواء الثورة والسلطة الجديدة حتى يغدو داعية ومحرضا إلى درجة أنه كان يكتب الأشعار الساذجة أحيانا للتوعية والإرشاد والتوجيه. ومن غير الإنصاف بالطبع أن ينظر إلى نتاجات من هذا النوع وكأنها تمثل جانبا هاما من شعر ماياكوفسكي، بل على أنها توضح مدى انغماسه حتى كل خلية في جسده ورعشة في روحه بأتون الثورة وعبيق ربيعها المنتظر. وكان يولي اهتماما كبيرا لصوغ الشعارات واللوحات الإعلانية الدعائية للثورة، لكن جل أشعاره النوعية كانت بعيدة عن ذاك النمط الدعائي الفج وإن حاول أن يكون قريبا من فهم عامة الناس:
اليومَ ينهارُ الماضي المديد
اليومَ يُعادُ النظرُ من جديدٍ في أساسِ العوالم
اليومَ نعيدُ صنعَ الحياةِ حتى آخرِ زرٍ في ثيابِها
شكل نسف الماضي العتيق وعادات المجتمع التي يرى أنها لا تستحق سوى التحطيم ولعا خاصا لدى ماياكوفسكي والشعراء المستقبليين عموما ( كصفعة للذوق العام )، وقد عُرف عنه ميله للمشاكسة والتحدي، وكانت صوره الشعرية متأثرة بالفن التشكيلي ، وسرعان ما غدا من أشهر شعراء المستقبلية ( انظر بحثنا الموجز عن المستقبلية في الحلقة الرابعة من أنطولوجيا الشعر الروسي في هذا الموقع ) . لقد أغنى ماياكوفسكي المستقبلية بذاك الحس الإنساني المتوقد على الرغم من سعيه إلى الغرابة، حيث تظهر الصور بين حين وآخر منتزعة من صميم الواقع ، ناهيك عن توحده مع مشاعر المقهورين :
هذهِ روحي أنا
مزقٌ من غمامةٍ منتوفة
في سماءٍ محترقةٍ
على صليبٍ صدىءٍ لبرجِ الأجراس
ولاشك أن للمستقبلية الروسية نكهة وجدانية تميزها عن المستقبلية في أوربا ، وخاصة لدى خليبنيكوف الذي كان من أوائل الذين ركزوا على هذا الجانب، وخطا ماياكوفسكي خطوات جدية في هذا المجال منطلقا أساسا من رفض الموروث الذوقي والبحث عن صور جديدة توصله أحيانا إلى نقيض ما يبحث عنه فيقع في دوامة الوحدة بدل التوحد بالآخرين:
إنني وحيدٌ كالعينِ الأخيرةِ
لدى امرىءٍ مشرفٍ على العمى
هذا الاحساس بالألم دفعه بعنف نحو الانصهار في درب من يعتقد أنهم سيزيلون الألم، وأن يكون فاديا ونبراسا كالصورة التي يعلن فيها أنه سيشلع روحه لكي يقدمها دامية كراية للآخرين، وهي تذكر بصورة البطل ( دانكو) لدى غوركي في قصة "العجوز إيزيرغيل" ، حيث يحمل دانكو قلبه شعلة ليضيء بها الطريق في الغابة. كما أجاد ماياكوفسكي استخدام الحوار والمماحكة كنهج رئيسي معبر عن حركة الواقع نفسها.
ويمكن القول أن ولعه بالمستقبلية أبقى لديه ذاك التوثب الدائم نحو الجديد والطموح في التعبير اللغوي، كما أن الحس الثوري المتجذر في أعماق ماياكوفسكي أنقذه من الضياع في الشكلية والتجريب المحض ، وظل مهتما بالمشاعر الإنسانية وبناء الغد الأفضل وفهم جوهر حركة التاريخ، من ذلك إدانة الحرب ومشعلي الحروب في وقت انخدع فيه عدد غير قليل بشعارات الحرب كحافز للنضال الوطني ، مركزا على أن المسحوقين دائما كانوا وقود الحرب لا مشعليها .
ونميل إلى الاعتقاد بأن جذور الإيقاعات عند ماياكوفسكي من خلال الجناسات المتلاحقة ، والتركيز على الإيقاعات الصوتية يمكن أن نجدها عند خليبنيكوف وساشا تشورني ، وخاصة في الصور المفاجئة، فيقول ماياكوفسكي في قصيدته "سحابة في سروال":
إلى حينِ تتبخرُ مدوزنةً بالقوافي
تمزجُ الدسمَ خافقةً ما تغليه
من الحبِّ والبلابل
ويقول ساشا تشورني عن صوت الفنان الذي يغني من أعماق روحه:
يخفقُ الدسمَ الحلوَ
من الحبِّ والبلابلِ والقمر
وكان ماياكوفسكي معجبا أيما إعجاب بساشا تشورني وهو من أوائل شعراء المستقبلية.
إلى جانب كل ذلك كان ماياكوفسكي قد حسم امره منذ زمن بعيد مع الفكر الغيبي، من هنا كان يعبر بحزم عن رفضه ربط مصائر الإنسان بالقدرية، وهذه التوجهات لم تأت بعد انتصار الثورة والفكر المادي ، بل قبل ذلك في إطار المواجهة العنيفة مع ممثلي الفكر الغيبي، وكنوع من التحدي. ومع إيقاع الثورة وانتصارها كان ماياكوفسكي في مقدمة المنافحين عن جموحها وأشرس الداعين إلى أن تكون حاسمة غير مترددة كما في نشيد اليسار:
شدِّدِ القبضَ على عنقِ العالمِ أيها البروليتاري
انهضْ بصدرِكَ إلى الأمامِ أيها الشجاع
انثرْ السماءَ بالأعلام
من ذاكَ الذي يخطو إلى اليمين ..
إلى اليسار.. إلى اليسار
حتى أنك تستطيع أن تتخيل النبرة التي يلفظ بها ماياكوفسكي نداءه الآمر إلى اليسار كصوت راعد محذر.
الملفت للنظر أن ماياكوفسكي أراد أيضا معرفة بلاد الخصم الرأسمالي بنفسه، فسافر أواسط العشرينات إلى أمريكا فاستقبل في البداية كمندوب مروج للأحذية المطاطية، إلا أنه استطاع ان يقيم العديد من الندوات والأمسيات والمناظرات، وكانت انطباعاته ثرة عن أوربا وأمريكا تبدت من خلال كشف الكنه الذي رآه آنذاك من منظوره الثوري محاولا تعميق السخرية من جوهر الأخلاق البورجوازية التي رأى في لطفها وتهذيبها مجرد غطاء للجريمة:
كلُّ البارونات.. والكونتات ..
يعيشونَ في مدنٍ فاخرةٍ مختلفة
يسرقونَ
ويقولون: ( ميرسي ميسيو )
ويغتصبونَ
ثم يقولون: ( باردون مدام )
هذا ناهيك عن التجسيد التمثيلي للتعبير الصوتي، وتقطيع الجمل والكلمات إلى أداء خاص تعبر عنه صيغة كتابتها المجزأة ، مما يفرض على القارئ أن ينطقها أيضا وفق أدائها الصوتي المقصود:
إيقاعُ الأقدام..:
أع..دا ..ؤ.. كم..
أع.. دا .. ئي..
لابد من الإشارة أيضا إلى أن ماياكوفسكي كان متعدد المواهب والعطاءات، فمن الشعر إلى المسرح إلى الأمسيات والمناظرات والمحاضرات وتأسيس المجلات والتجمعات الإبداعية إلى السيناريو والتمثيل ناهيك عن نشاطه الهائل في المجال الدعائي حيث أنتج وصمم ورسم آلاف اللوحات. ولا يجوز أن ننسى أن ماياكوفسكي قدم إلى جانب كل ذلك قصائد وجدانية وعاطفية بالغة العذوبة والتفجر المشاعري من أعماق قلبه بما في ذلك تمثل الألم الإنساني والذوبان في مكنونه:
هناكَ أنا في كلِّ مكانٍ حيثُ الألم
وعلى كلِّ قطرةٍ من غمامةِ الدموع
صلبتُ نفسي
مات ماياكوفسكي منتحرا في 14 نيسان ابريل عام 1930 تاركا تراثا إبداعيا لا يطويه الموت .
#أيمن_أبو_الشعر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-آثارها الجانبية الرقص-.. شركة تستخدم الموسيقى لعلاج الخرف
-
سوريا.. نقابة الفنانين تعيد 100 نجم فصلوا إبان حكم الأسد (صو
...
-
من برونر النازي معلم حافظ الأسد فنون القمع والتعذيب؟
-
حماس تدعو لترجمة القرارات الأممية إلى خطوات تنهي الاحتلال وت
...
-
محكمة برازيلية تتهم المغنية البريطانية أديل بسرقة أغنية
-
نور الدين هواري: مستقبل واعد للذكاء الاصطناعي باللغة العربية
...
-
دراسة تحليلية لتحديات -العمل الشعبي الفلسطيني في أوروبا- في
...
-
مكانة اللغة العربية وفرص العمل بها في العالم..
-
اختيار فيلم فلسطيني بالقائمة الطويلة لترشيحات جوائز الأوسكار
...
-
كيف تحافظ العائلات المغتربة على اللغة العربية لأبنائها في بل
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|