|
عن التماهي مع الشاعر في حضرة غيابه
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2751 - 2009 / 8 / 27 - 08:00
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في مقاله عن محمود درويش بعد أيام من رحيله، قدم حسن خضر مفتاحا مهما لفهم اتساع نطاق الأسى على فقد الشاعر الراحل: "كان بإمكانه، دائما، قول أشياء، لا يجد الناس صعوبة في التماهي معها" ("عشنا في زمنه"، "السفير" 20/8). ويشير خضر إلى أن هذه سمة لما يسمى في لغات أوربية "الشاعر القومي". ليس واضحا إن كانت القومية التي يومئ إليها خضر فلسطينية أم عربية، لكن يبدو أن كلتيهما تنطبقان على محمود درويش. مضى وقت كان درويش يوصف فيه فلسطينيا بأنه "الشاعر العام". في هذا اللقب مقابلة مع "القائد العام"، لقب المرحوم ياسر عرفات الذي كان صاحب "جدارية" قريبا منه، وامتنع حتى النهاية عن مخاصمته. ولعل فيه إيماءا ساخرا، غير منصف بلا ريب، إلى "سلطة" حازها الشاعر من موقعه هذا لا من فنه. لكنه ينطوي على إدراك أن درويش، وليس غيره، هو الشاعر، على كثرة ما في فلسطين من شعراء. لكن إلام تعود سهولة التماهي مع شعر وكتابة محمود درويش عربيا؟ ترد إلى الخاطر أربعة عناصر في هذا الشأن. أولها فلسطينية الشاعر. فقد تربى جيلان من العرب على مركزية فلسطين وعلى أسبقية همها على همومهم بالذات، بسبب حدة وتجدد المصاب الذي لحق بشعبها، وفاض إلى عرب آخرين كثيرين. ليست فلسطين قضية العرب الأولى على نحو ما يقرر تعبير مستهلك، إلا لأن العروبة في صيغة القومية العربية متشكلة أصلا بفلسطين، وفصول محنتها المتتابعة. ولطالما قيل إن الوحدة العربية وتحرير فلسطين هما ركنا المسألة القومية العربية. ما من شيء يعوق إذن تماهي الشعور العربي العام بما هو فلسطيني، أو لنقل إن الإعاقة هنا أدنى مما حيال بلدان عربية أخرى. الهوية العربية لفلسطين والهوية الفلسطينية للعرب بمفهومهم القومي نتاج لهذا التماهي الميسور أو المنخفض العتبة. ولعل النزاعات السياسية والإيديولوجية الفلسطينية وما تتسبب به من رفع عتبة التماهي مع المتنازعين (وقبلها تدهور القومية العربية، حركة وقيمة وفكرة)، لعل ذلك يوجه تيارات المشاركة نحو الثقافة التي تحتفظ بصفة جامعة. وإن كان من شخص واحد تتمثل فيه الثقافة هذه، وهنا العنصر الثاني، فهو محمود درويش. أولا لأنه شاعر، والعرب أمة شعراء، سواء كان هذا حسنا أو سيئا. وثانيا لأنه كان أقرب من أكثر المثقفين الفلسطينيين إلى حركة المقاومة الفلسطينية، إلى حد أنه سمي شاعر المقاومة. كان درويش يضيق ذرعا بهذه التسمية، إلا أن قربه من "القضية" عاد عليه بعوائد معنوية وعاطفية كبيرة لا مجال لإنكارها. وحين اتجه منذ ثمانينات القرن العشرين إلى شعر أخفض نبرة وإيقاعا كان يستند إلى رصيد وموهبة يتيحان له أن يأخذ ذائقة جمهوره معه، ليس بدون صعوبة وليس بدون ممانعة، لكن كان من شأن الصعبة والممانعة أن تكونا أشد حيال غيره. لقد رفع درويش عتبة التماهي معه، ومع ذلك قفز فوق هذا الحاجز كثيرون وانضموا إليه. غير أن آخرين لا يزالون يحنون إلى أيام التماهي المبذول، أن "يعبر" عنهم الشاعر لا أن يتشكلوا من جديد معه. في المقام الثالث ثمة صفة درويش كشاعر كبير أو رفيع المستوى. يرغب أناس في التماهي مع شيء سام ومحترم لأنهم يمنحهم شعورا بالسمو والرفعة. قد نحب فنانا لا يتطلب منا جهدا، لكن احترامنا له سيقل حين نستطيع ولوج عالمه بسهولة بالغة. لقد "أحرق" الجمهور شعراء ومغنين وروائيين وكتاب قصة كثيرين بهذه الآلية: يصفقون لهم ويستهلكونهم بكثرة لبعض الوقت، ثم يملونهم وينصرفون عنهم، لأنهم لا يطرحون على الجمهور تحديا، ولا يتوقع هذا منهم جديدا. ولو استمر محمود درويش يكتب "شعرا مقاوما" لانصرف عنه حتى محبي قديمه. بالمقابل، أُنقذت كرامة القديم وقيمته بعد تجاوزه، وبفضل تجاوزه بالذات، وذلك عبر النظر إليه كـ"مرحلة"، كطور منقض ابن زمنه. لا نعرف كيف نشرح معنى عبارة "شاعر كبير"، لكن من المرجح أن نعتبرها متعارضة مع التماهي السهل أو المنخفض العتبة. قد نذكر، أخيرا، أن مظهر الشباب الدائم الذي ميز محمود درويش وأناقة ملبسه ونحول جسمه وانتصاب قامته وقلة الشيب في رأسه، تسهل كلها الشعور بالقرب منه أو الرغبة في تمثله، وبالخصوص الأسى على فقده. كثيرون فوجئوا بأنه في السابعة والستين، ومع ذلك تكرر كثيرا القول إنه كان يمكن أن يعيش 10 سنوات أو 15 إضافية. أن يكتب 5 كتب أخرى أو أكثر. لا منافس لمحمود درويش في حيازة مؤهلات التماهي الواسع به بين الفلسطينيين والعرب: فلسطيني (وليس سوريا أو لبنانيا أو مصريا أو مغربيا..)، وشاعر (وليس منظرا أو رسام كاريكاتير، أو حتى روائيا..)، ومتطور المستوى (وليس "شعبيا" بالمعنى الدارج للكلمة)، و"شيخ الشباب". الأرجح أن محمود درويش كان صعب المعشر عن قرب. بعض عارفيه ذكروا جوانب من ذلك. لكن التماهي علاقة ديناميكية، قرب وبعد من جهة، ووحدة حال واختلافها من جهة ثانية. قلما نتماهى بمن هو قريب جدا منا ومن هو بعيد جدا. كان محمود درويش قريبا بما يكفي لننجذب نحوه، وبعيدا بما يبقي الرغبة في التماثل معه غير مشبعة. قلما نتماهى أيضا مع من هو مثلنا، حاله كحالنا. نحتاج إلى اختلاف كي نتماهى، أي نتماثل. فإذا غاب الاختلاف، وكان التماثل مضمونا سلفا زال التماهي. فهذا جهد وعلاقة صراعية وليس تطابقا سلبيا. لا دافع للتماهي إن كانت عتبته واطئة، ولا يكون ممكنا إن كانت العتبة مرتفعة جدا. عتبة محمود درويش مناسبة لكثير من المتعلمين والمثقفين والشباب والشابات. وأنسب ما فيها أنها كانت لا تكف عن الارتفاع، محرضة "الجمهور" على ترقية لياقته وذائقته. ولعلها بذلك كانت تفرّد تلك الكتلة تدريجيا وتفرّقها، تنال من كتليتها وتجانسها. ظل محمود درويش ينال التصفيق اللاهب من حشد كبير يتجمع لسماع شعره، حتى آخر أيامه. لكن قد يكون الأمر أوثق صلة بمبدأ عطالة يسم عادات الجمهور منه بثبات العرض الشعري لابن البروة. هل لو كان محمود درويش عاش سنوات أخرى، تخلى عن إلقاء الشعر وسط جمهرات من مئات وألوف؟ الأرجح أنه ما كان ليفعل. أظنه كان حريصا على اللقاء المباشر بالناس بين حين وآخر، كما على ترقية فنه الشعري. لم يتخل عن هذا من أجل ذاك، لكنه ربما لم يكن ليتخلى عن لقاء "الجمهور" والإلقاء له بينما هو يلاحق "القصيدة الخالصة".
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سياسة التعقيد ك-جدار فصل- للفلسطينيين عن قضيتهم
-
في نقد السياسة.. أو من تأليف القلوب إلى انشراح الصدور
-
الحداثة كخير عام، كوني وضروري
-
في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
-
فيما خص أزمة الثقافة النقدية..
-
منظومتا استثناء، لا واحدة، في سورية
-
تعقيب على نقاش منتدى -هلوسات- حول مشروع قانون الأحوال الشخصي
...
-
في أصول صناعة التشاؤم العربية
-
بصدد العنف والنخبوية
-
ملحوظات أولية في نقد السياسة
-
ماذا يعني مفهوم الحريات الاجتماعية؟
-
موقع -الديني السياسي- في وثيقتين معارضتين سوريتين
-
من خرافة سياسية إلى أخرى..
-
عودة إلى مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري
-
-الحل- غير موجود... أين هو؟
-
في بئري الدين والدولة
-
في شأن الديمقراطية والإصلاح السياسي... سيرة استهلاك إيديولوج
...
-
الطائفية والأحوال الشخصية في سورية
-
عالم السادة الرجال -المسلمين- وما وراءه
-
بحثا عن توازنات جديدة.. إيران تتحرك!
المزيد.....
-
رصد طائرات مسيرة مجهولة تحلق فوق 3 قواعد جوية أمريكية في بري
...
-
جوزيب بوريل يحذر بأن لبنان -بات على شفير الانهيار-
-
مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين -حزب الله- والجيش الإسرائيلي في
...
-
لحظة هروب الجنود والمسافرين من محطة قطارات في تل أبيب إثر هج
...
-
لحظة إصابة مبنى في بيتاح تكفا شرق تل أبيب بصاروخ قادم من لبن
...
-
قلق غربي بعد قرار إيران تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة
-
كيف تؤثر القهوة على أمعائك؟
-
أحلام الطفل عزام.. عندما تسرق الحرب الطفولة بين صواريخ اليمن
...
-
شاهد.. أطول وأقصر امرأتين في العالم تجتمعان في لندن بضيافة -
...
-
-عملية شنيعة-.. نتانياهو يعلق على مقتل الحاخام الإسرائيلي في
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|