|
شهر صناعة -أشرف الناس-
جلال القصاب
الحوار المتمدن-العدد: 2749 - 2009 / 8 / 25 - 07:38
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
جمعية التجديد الثقافية الاجتماعية
"أشرفَ الناس" وصفٌ أطلقه سماحة السيّد نصرالله.. مُعدّدا في خطابه الرائع الأخير أسبابَ نصر الله للشعب اللبناني على الكيان الصهيوني بملحمة تموز، وأنّ أقوى أسبابها التكاتف الشعبيّ بكلّ قواه وأطيافه وطوائفه في التئام لا يعكّره صغائرُ اختلافاته المذهبية والطائفية والسياسية.. مشكّلاً جبهة صمود داخلية صمّاء ضدّ الطامعين.. فبمثل هذه الوحدة ترتدع وتنهزم جحافل الأعداء وتحسب مليون حساب.. هذا الشعب المتلاحم هو "أشرف الناس"..لأنّه أعلا قيَم المروءة والشرف والتراحم الإنساني.. على قيَم التفكّك والأنانية والتعالي بالعصبيّات.
فالتسامي على الخلافات الضيّقة وتهميشُها، والإحساس بقيمة الآخر المختلف عقديّا وسياسيا.. وبضرورة وجوده ومشاركته والتعاون معه.. وبأنّه عنصرُ قوّة ومنَعة.. ثمّ رصّ الصفّ به، هو ما يُحوّل أيّ فسيفساء شعبي متناثر إلى كتلة عصيّة الاختراق والانهيار كشعب لبنان المُقاوم بتمّوز، الكتلة التي صوّرها القرآن "كالبُنْيانِ المرْصوصِ".. رُصّت من "المجاهدين" و"المناصرين": "الذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا" مع "الذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا".. ولن يبلغ شعبٌ هذا إلا بدعامتيْن: 1- توحيد بوصلته نحو عدوّه الحقيقي المشترك.. 2- تراحم أطيافه.. وبالتعبير القرآني: "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ.. رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ"..
شهر رمضان هدفُه حفز هذا "التراحم والتلاحم"، حين تتعاطف الناس لتعيش أحاسيس إنسانية وروحية مشتركة.. فلا غرو أن أفرز رمضان ملاحمَ انتصارات "بدر الكبرى" و"فتح مكّة" مع تباشير الرسالة.
أمّا بالنسبة لأيّ عدوّ بشريّ، (بل ولأيّ تهديد ولو طبيعي)، فسيرى "بتراحمنا وتلاحمنا" قوّةً تُفزعه وتدحره، سيستلم مِن قوّتنا تردّدَه وضعفه، مثلما يقتنص من تنازعنا وضعفنا قوّته، تلاحمُنا هو "الخوف المزعج" الذي تُكسر عليه "شهوة" غطرسته للاستحواذ علينا، هو كما قال حكيمٌ: "لا يُخرج الشهوةَ من القلب إلا خوفٌ مزعجٌ أو شوقٌ مقلقٌ".. حكمةٌ ترسمُ سبيل خلاصنا عن أيّ برمجة تستلبنا وتسلب مقوّمات عزّنا.. إن بالإكراه أو بالطوع.. "فالشهوةُ" تغلبُها "غريزةُ" الخوف، أو شوق "العقل"..
جيش العدوان الصهيوني، كأيّ عدوّ "يشتهي" اجتياحنا، شأنه كالقصص التي يتبجّح فيها مُتبجّحنا ببطولةٍ ما.. ثمّ يُلطَم ويُصدَم بمرارة الواقع.. لتنفضح أحدوثتُه، أكثرُنا لا حدّ "لاشتهاءاته".. ومستعدّون من أجلها ركوب المخاطر المحتملةِ مقدورةِ التحمّل! كالذي "اشتهى" فتاةً مليحة ولحقها لقريتها يتغزّل فيها، لكنّه بمجرّد أن رمق إخوانها يُلاحقونه بالسواطير أطلقت "غريزتُه" رجليْه هلعاً.. بسرعة حطّمت أرقام عدّائي أثيوبيا.. ليعود لا يمرّ بتلك القرية أبداً.. هنا تغلب "الغريزةُ" "شهوتَنا" إن لم يغلبها "العقلُ" قبلُ.
شهر رمضان فرصةُ عتقنا.. بتغلّب "عقلنا" على سطوة "شهواتنا" فضلاً عن "غرائزنا"، شهر الممانعة للأكل والجنس والثرثرات الفائضة لاستصدار كلمة "لا" الرافضة لسلَسِنا وانجرارنا "الغرائزي" و"الاشتهائي"، "لا".. نشهرها لنُبرهن بقاء بقيّة إرادة عندنا، وتكون المحقِّقَ الفعلي لكوننا مخيّرين، فالبعضُ يرفض دهرَه أن يكون مسيّراً بالقيَم والضوابط العقلانيّة الإنسانية، لكنّه بحقيقته راضخٌ ومستعبَدٌ ومسيّرٌ "بالشهوات" والبرمجات المجتمعية والدعائية.. ويزعم ويظنّ أنّه مخيّرٌ ومُريد، هو يريد ما تريده الناسُ، السُّلطةُ، المشايخُ، الإعلامُ، الشلّةُ... ريشةٌ بمهبّ الريح، يريدُ وتريدُ الريح.. ولا يكون إلا ما تريد الريح..
إنّ أحدَ عوامل فرقتنا.. وبالتالي تناحرِنا.. وبالتّالي ضعفِنا لافتراس الأعداء والظلَمة.. كطوائف وكأطياف وكأفراد أيضا، هو استيلاء برمجات "غريزية" أو "شهويّة" على إرادتنا الإنسانية "العاقلة". فمثلاً.. حبّ الحياة "غريزة".. (أي "برمجة دنيا") لكنّها حين تعلو على القيم (أي "البرمجة العليا" والتي يُريد رمضان تكريسها)، كالوفاء والمروءة والإيثار وحبّ الآخرين وحبّ الخدمة.. نتهارش كالذئاب والضباع.. متى تناقضت مصالحُنا وتباينت مسالكُنا. أمّا "الشهوات" فهي أمور فوق-غرزية.. "كشهوة" الاستئثار بالأموال والعقار، و"كشهوة" الاستبداد بالرئاسة والسلطنة، و"كشهوة" التفنّن بالجنْس وألوان الأكل، و"كشهوة" بذخ العمران والتفخّم بالإطراء، هذه "الشهوات" تُثبت أننا سلالة أرقى من الحيوان، فالحيوان كائن "غريزي"، والإنسان كائن "غريزي، شهوي، عاقل".. ويتبيّن تطوّرُه ورقيُّه لمستواه الثالث (أي "العاقل") بممارسته "عقله" (والعقل والعقال هو الرباط) أي بتحكّمه بالمستويين الأدنييْن فيه: "الغريزة" و"الشهوة". الحيوان يأكل "بغريزته" إذا جاع.. فلا يُحوّل الخروفُ برسيمَه ملوخيّةً! والأسد لا يصنع لحمَ فريسته "باربيكيو" أو "برياني"، أمّا الإنسانُ فمتى جاع أكل "بغريزته"، وتفنّن بالأكل طبخاً وتأنّقاً وألوانًا "بشهوته"، ثمّ متى ارتقى "بعقلِه" فقد يُضحّي بأكله اللذيذ لآخرين (تفطيراً لصائم، أو إطعامَه "مسكيناً ويتيماً وأسيراً")، أو يصوم عن الأكل بإرادتِه.. دونما مرض، أو بداعٍ ذاتي كالرياضة والتخسيس.. أو لمجرّد التهذّب والسيطرة على نفسِه..
الجنس "غريزةٌ" يُمارسها الحيوان والإنسان، التفنّنُ بطُرُق ممارسة الجنس "شهوةٌ" يُمارسها الإنسان فقط، ضبطُ هذه الممارسة بقيَم الحياء والآداب أو الامتناع منها إراديّا (كما بأيّام رمضان).. هي الخصيصة الحضاريّة للإنسان "العاقل" الذي سما على الإباحية الحيوانية والبشريّة، أمّا "شهوة" الممارسة الجنسيّة للمِثل كاللواط والسحاق، فليست "غريزة"، وليست مجرّد "شهوة"، وبالأكيد ليست "عقلاً"، بل هي "إسراف بالشهوة" وشذوذٌ عن الطبيعة.. مهما حاولتْ الثقافةُ والبرمجاتُ والتقنيناتُ الغربيةُ تحبيبها وتسريبها، فالعقلُ والفطرةُ (ما لم يُقهَرْ العقلُ وتُمسخْ الفطرةُ) يُدركان هذا ببساطة، والقرآنُ عرّف قوم لوط "بإسراف الشهوة": "إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ".. شهرُ الله مضادّ حيويّ للإسراف بشهواتنا..الإسراف الذي يجعلنا أنانيّين، وبالتالي لا نتراحم ولا نتلاحم.. ولن نتكوّن كـ"أشرف الناس" حين البأس..
#جلال_القصاب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرّية والكرامة حسبَ الوصفات الساركوزية
-
-خَلقَ الإنسانَ مِنْ علَقٍ- وما يزال..
-
لصالح رونالدو
-
-حلاّل المشاكل-
-
أهلُ الخير حين يصبحون أهلَ الخير
-
لعبة الخنازيز..ولعنة الخنازير
-
قانون الشهامة ومسرحيّات الأمن
-
الأجرُ الجزيل.. بالجُهد الهزيل
-
كياناتنا الدينيّة والمدنيّة.. ذاتُ الفلقتيْن
-
أفواهٌ وأرانب.. وتسوسُها ذئاب
-
تُجّار الأذكار ونيْل الأوطار
-
الصهيونية الملعونة على لسان عيسى
-
فبراير.. تحيّة وذكريات وآمال
-
دعه في النار وأنا في الدار
-
-الحجاب- وشرعية فرضه أو منعه
-
شهرزاد.. هل شيءٌ زاد؟!
-
بومبو وتوكتو وبدرو
-
الحكم لله أم لشريعة المتعاقدين-1؟
-
أفغانستان وجورجيا وترقّبنا المهديّ
المزيد.....
-
الجيش الإسرائيلي يوسع عملياته في الضفة الغربية و-يجبر- عائلا
...
-
-ديب سيك- تطبيق صيني يغير معادلة الذكاء الاصطناعي العالمي..
...
-
الأزهر يعلن رفضه القاطع لمخططات تهجير الفلسطينيين
-
إقالة 12 مدعيا شاركوا بمحاكمة ترامب
-
أميركا تواصل ترحيل مهاجرين إلى غواتيمالا وتتجاوز الأزمة مع ك
...
-
سوريا.. ضبط شحنة كبيرة من الحبوب المخدرة على معبر نصيب الحدو
...
-
حرصا على كرامتهم.. كولومبيا تخصص طائرات لإعادة مواطنيها المر
...
-
مجلس الشيوخ يصوت على تعيين سكوت بيسنت وزيرا للخزانة
-
تاكر كارلسون: بلينكن بذل كل ما بوسعه لتسريع الحرب بين الولاي
...
-
دراسة تتوقع ارتفاع الوفيات في أوروبا بسبب شدة الحر بنسبة 50%
...
المزيد.....
-
الخروج للنهار (كتاب الموتى)
/ شريف الصيفي
-
قراءة في الحال والأداء الوطني خلال العدوان الإسرائيلي وحرب ا
...
/ صلاح محمد عبد العاطي
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
المزيد.....
|