رباح آل جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 2744 - 2009 / 8 / 20 - 08:21
المحور:
الادب والفن
من يوقف النزيف ، في ذاكرة المحكوم بالإعدام قبل الشنق ؟! .
هكذا ابتدأت حديثي ، قبل عشرين سنة ، مع الشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي آخر عمالقة الشعر العربي الحديث .. بين نزيف ، وإعدام ، وشنق .. حتى أننا تصورنا أنفسنا في تلك اللحظات شهود إثبات في معتقل ! .
كانت تلك أول مرة ألتقي فيها عبد الوهاب البياتي ، وأجلس أمامه ، ويومها كان ممتلئا بعنفوان عجيب ، وهو عنفوان لا يخلو من الترفع ، والكبرياء ، وعزة النفس وقوة الروح .
وطال حواري أكثر مما قدرت ، ثلاث ساعات متواصلة ، وأهداني نسختين من ديوانه ( بستان عائشة ) ، إحداها بعث بها معي إلى المفكر الكبير مدني صالح ، راجيا مني أن أرتب لقاء بين الاثنين قبل عودته إلى مدريد .. بعدها كنت حريصاً على أن ألقاه وأسمع منه .. ولقيته ، وسمعت .. ثم جمعتني بعدها بالبياتي صداقة وثيقة ، أتاحت لي فرصة أن أتأمله ، وأستكشف أعماقه ، وفي بعض الأحيان ، كنا نتبادل الرسائل عن طريق بريد الغربة ، بعد أن سافرت أوطاننا في صناديق البريد .. وذلك ما يذكرني برواية ( زوربا ) ، كنت قرأتها في أعوام التسعينات ، تتحدث عن يوناني مهاجر اسمه ( كارايانيس ) ، خرج من بلاده ، لأنه يحبها إلى درجة الوجع ، وبالتالي فانه لم يعد قادرا على البقاء فيها ، فيقرر ( كارايانيس ) أن يهاجر ، وهو يحمل اليونان في قلبه ، ويحبها حبا يبلغ درجة الكراهية ، ويكرهها كراهية تبلغ درجة الحب .
ثم إذا بي وأنا اكتب هذه السطور ، تعود إلى ذاكرتي حكاية حدثت معي قبل خمسة عشر عاما ، عندما حملنا أنا وعدد من الأصدقاء ، كان أبرزهم الصديق الشاعر المبدع عدنان الصائغ أمتعة عبد الوهاب البياتي على ظهورنا ، وكان يومها قادما من أسبانيا، ونقلناها إلى دار ابنه ( علي ) في شارع فلسطين ببغداد ، ووضعناها في سيارة منتدى الأدباء الشباب ، ووقفنا في تلك اللحظات ، وقد تدبقت الأشياء ، نسأل البياتي ، ونقول : أي وطن هذا الذي يعلمنا كيف نحزم أشياءنا ، ثم نرحل ؟!.. والبياتي يرد على سؤالنا ، متأففا : آه ... من العمر بين الفنادق لا يستريح ، ثم يقرأ من شعره : ( غرباء يا وطني نموت .... وقطارنا أبدا يفوت ) !!.
عاد البياتي من غربته في اسبانيا ، وكانت أحواله لسوء الحظ متردية ، وأسوأ من ترديها في حد ذاته ، ما أحاط بهذه الأحوال من أجواء ، وملابسات .. ووجد نفسه في وطنه حائراً بين الكلام ، وبين السكوت .. يسأل نفسه ، إذا كان الكلام مجدياً ، أو بمعنى أدق مسموحاً به ولو بالحد الأدنى ، مع يقينه بأن السكوت ، إزاء ما يراه ، لن يكون من ذهب ، طبقا للمثل العربي المأثور ! .
لكن البياتي ليس من النوع الذي يستطيع أن يداري ، أو يرابي ، أو ينافق ، ولم يحفظ ( آداب السلوك في حضرة الملوك ) .. وكنت أراه كما هو دائما فيما عدا انحناءة بسيطة مالت بقامته إلى أمام ، لكن رأسه بقي مرفوعا بنوع من الاطمئنان لمجمل ما اعتنقه من آراء .
ووقفت إلى جانبه ، وجلست إلى جواره .. فوجدته ينام أقل من ربع النهار ، ويقضي أكثر من نصفه بالقراءة والتأمل ، وربعه الآخر في التسكع ، والبحث عن حدائق خفية في مدن يغطيها الصقيع .
ووجدته لا يفرح الفرح المحض ، ولا يحزن الحزن المحض ، إنما هنالك نار تتقد في داخله ، ليل نهار ، وتحيل عالمه إلى حرائق ، وكان هو وسط هذه الحرائق يبتسم متى تقطر حزنا وفرحا .
ووجدته يستمع إلى مغن في الجزيرة العربية لا يعرفه كثيرون في العراق ، وهو أبو بكر سالم ، وعندما كنت أسأله عن هذا المغني ، كان يقول لي : انه لا يدرك عمق صوته إلا من عانى الغربة في داخل بيته ، أو في داخل المنفى .. وكان يعتقد ، مازحا ، إن النجم عمر الشريف يحسده ، ويقلده في السر ، وربما كان مثله الأعلى ! .
ولقد اختلفت مع البياتي يوم سألته عن نزار قباني ، وكان جوابه مفاجئا : ( أتسمي نزار قباني شاعرا ؟! ) ، ثم اختلفت مع نزار ، يوم قابلته سنة 1988 في فندق الرشيد ، وكان يشارك في مهرجان المربد الشعري ، ووصف البياتي ، بأنه : ( عانس ، وعاقر ، توقف عن قراءة الشعر وكتابته ، وتفرغ ليشوي زملاءه الشعراء على نار نفسه المريضة ) !! ..
وكان عبد الرزاق عبد الواحد أكثر الناس شماتة في عبد الوهاب البياتي ، ولم أجد له عذرا على سلسلة مقالاته ، التي نال بها من سلوك البياتي ، وشاعريته .. وحاولت في إحدى المرات أن أجمع بين الاثنين ، وكان مثل هذا التلاقي ضروباً من أوهام الخيال، وبدا لي أنّ الفكرة ماتت في مهدها ، وكنت كلّما سألت عبد الرزاق عن البياتي ، أراه يحتد ، ويُصاب بنوبة من الغضب ، وتوتّر الأعصاب إلى حدّ الانفجار ، ويطير من مجاثمه و( برج من عقله على وشك أن يطير ) ، وهو يقول لي : إن البياتي شاعر لا يستحق ما ناله من المجد ، وبالمقابل، فإني سألت البياتي ـ يوماً ـ عن عبد الرزاق ، فكان جوابه : ( أنا أكتب الشعر، فما هو شغل عبد الرزاق ؟! ) ، ولم يكن في كلا الجوابين ما يستوقف النظر، أو يثير .
وقال لي البياتي مرة ، وقد انحشرنا في سيارة أجرة ، من الطالبية نحو شارع فلسطين ، انه غير محظوظ ، وعندما سألته عن الحظ ؟ ، تنهد من قلبه بعد لحظة صمت ، ومرت في عينيه سحابة حزن ، لم أستطع لحظتها ، أن أعرف سبباً لها ، وقال :الحياة لغز غامض ، والإنسان ذرة تتطاير في النور .. الحظ مجرد كلمة ، والحزن مجرد كلمة ، وكل العالم كلمات في كلمات ، ولكن عصا الشاعر السحرية هي التي تجعل لهذه الكلمات معا سياقا ونبلاً وأصالة ، ومن دون الإنسان ليس هنالك في الجبة شيء : ( ما في الجبة إلا الإنسان ) .
ولم أفهم ماذا يقصد .. ولم يسألني ماذا فهمت ؟! .. فلقد اثر الصمت البليغ ، وسرح في ملكوت الله ، في تلك الرحلة الهادئة ، بلا ضوضاء ، ولا أضواء ، ولا ألم .
وفي التسعينات من القرن الماضي كانت موجة التطورات الديمقراطية في أوربا الشرقية قد بدأت .. فسألت البياتي : إذا كان قد تخلى عن ( عقائده ) الاشتراكية ، ويريد أن يكون ( رأسماليا ) بحسب رياح التغيير ( الغلاسنوست ) و ( البروستاريكا ) آنذاك ؟! .. فجلجلت ضحكته ، ولمعت عيناه ، ونظر إلي ، قائلا كان بإمكاني أن أصبح مليونيرا ، ولكن أن تصبح ( الشاعر في روما ) ، كما يقول المثل ، وليس في قرية ، فذلك أمر صعب ، دونه خرط القتاد ، ولهذا فإنني أفضل أن أكون الأول في روما على أن أكون صاحب ملايين ، ولو كنت أملك هذه الملايين لوهبتها للفقراء والمحتاجين ! .
كان البياتي يشعر بارتباط حقيقي وبحنين جارف إلى الأرض ، ولم ترق له فكرة الهجرة ، وكان يقول لي :
إن كثيراً من الناس لم يروا بلادهم ، وإنما فتحوا أعينهم وقلوبهم على الخارج ، وأقفلوها على أنفسهم .
وكنت أقول له : ليس المهم أن يسافر الغريب إلى أرض غريبة ، وإنما أن يعود إلى بلده ، ليقول .. لعل أحدا ينتفع بما قرأ ! .
وعندما ضاقت أرض العراق على البياتي بما رحبت .. وجد نفسه مضطرا للهجرة الأخيرة .. ليموت هناك بعيداً .. وهناك يُدفن .
#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟