كريستين دلفي
الحوار المتمدن-العدد: 835 - 2004 / 5 / 15 - 06:16
المحور:
حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
يحكى دائما عن مكتسبات الحركة النسائية. لكن أي تقدم اجتماعي حتى لو كان مسجلا في القانون ليس منقوشا في الصخر. هذا ما يبرهن عليه التاريخ المعاصر باستمرار. فالمكتسبات النسائية الهشة بصورة خاصة تواجه أنواعا عدة من العقبات: الهجمات "الذكورية"، الردة[1] الإيديولوجية وسؤ النية السياسية إضافة إلى التطريق الدائم بأسطورة المساواة المحققة.
يمكن ملاحظة الهجوم البطريركي المضاد في البلدان كافة. وفي جميع الحالات ترسل النساء إلى المقدمة للقول أن تحرير المرأة لن ينجح أو لم ينجح، انه ليس مجديا أو لم يعد كذلك أو انه كان ضارا أو تحول إلى ضرر. وتأتي في عدادهن بعض الملتزمات أو المحبذات السابقات للحركة النسائية يصغى بتلذذ مريض إلى كلامهن كما كان يصغى إلى "اعترافات" الستالينيين التائبين.
تتكرر الموضوعات المستعارة في الغالب من الولايات المتحدة ومفادها أن أنصار التوجه النسائي يبالغون في تصوير اضطهاد المرأة اليوم وقد انتهى ذلك الزمن من التحرش الجنسي وكذلك الاغتصاب بين الأزواج[2]. تترافق المرافعة مع الأسلوب الفرنسي المعهود بحيث يجب الاعتقاد انه حتى في قضايا السلوك هناك "استثناء فرنسي"[3] تقترب فيه العلاقات بين الجنسين من النموذج المثالي. فالذكورية الأجنبية الفظة تخلي الساحة لصالح "الإغواء" الفرنسي الناعم الملمس. كيف يمكن لبعض الناس الاعتقاد، بالرغم من الأرقام والأبحاث الحقلية وما يتناقله الإعلام من أخبار تؤكد التشابه المفرط بين البلدان، إن اضطهاد المرأة يتوقف عند حدود فرنسا كما كان يمكن الاقتناع بان غيمة تشرنوبيل الذرية لا تخترق حدود البلدان الأخرى؟
عندما تبقى المعاهدات الدولية أو التوجيهات الأوروبية حبرا على ورق وعندما لا تجد القوانين الداخلية المناهضة للتفرقة بين الجنسين طريقها إلى التطبيق على غرار تلك المتعلقة بمناهضة التمييز العنصري، إزاء كل ذلك يمكن الكلام عن تواطؤ غير معلن لكن حقيقي بين الأطراف الفاعلين كافة: أصحاب العمل، النقابات، القضاء، الدولة ووسائل الإعلام. ففي فرنسا لم يطبق أبدا قانون 1983 حول المساواة في مجال العمل ويمكن القول أن هذا القانون اقر كي لا يطبق كونه لا ينص على أي عقوبة وكان قانون "جينيسون" (2001) ادخل بعض العقوبات وقد أعلن رئيس الجمهورية عشية الانتخابات المحلية عن نيته في وضع هذه العقوبات موضع التنفيذ[4]. وجاء هذا الوعد بمثابة إقرار رئاسي بان القانون لم يلق أي احترام.
فقانون الإجهاض يتعرض للخرق صبحا ومساء في المستشفيات وعلى أيدي مديري الأقسام الطبية والخدمات الاجتماعية والدولة الذين لا يؤمنون مراكز الإجهاض التي ينص عليها القانون. وقد يضطر الأمر إلى معركة لمنع التلكؤ في تطبيق لقانون والتهديم الذي تمارسه اللوبيات المعادية لحرية الاختيار من القضاء على الإجهاض بشكل تام.
ويزداد التحدي مع الحجم الذي تتخذه اللوبيات "الذكورية" الحسنة التنظيم والثرية كما في فرنسا وعلى المستوى الدولي. يوما بعد يوم وعاما بعد عام تقدم مجموعات الضغط هذه إلى الوزراء والنواب اقتراحات لإعادة النظر في قوانين الإجهاض والتحرش الجنسي والطلاق. ونادرا ما يلجأ هؤلاء إلى النشاط العلني المكشوف كالكومندوس ضد الإجهاض إذ يعمدون إلى العمل الصامت من خلال إعداد الخبراء الذين يقدمون شهاداتهم أمام المحاكم أو يؤلفون الكتب في "علم النفس" والتي تقدم الحجج إلى محامي الرجال المتهمين بارتكاب العنف أو بسفاح المحارم والى النساء اللواتي يكتبن دفاعا عن الارتداد على حقوق النساء[5]. وهم يستهدفون، إضافة إلى حق الإجهاض، القوانين التي تعاقب العنف الذكوري ضد النساء والأطفال.
إن الدفع في اتجاه تبني القوانين ومن ثم تطبيقها يستهلك الجهد الرئيسي للحركة النسائية. لكن ذلك غير كاف كهدف بحد ذاته. فانعدام المساواة الفاضح بين الرجال والنساء في سوق العمل يتكئ على استغلال العمل المنزلي والذي تقوم به النساء بنسبة 90 في المئة. ويشكل هذا الاستغلال صلب النظام الاجتماعي مثل التقسيم الطبقي، والواقع انه لا يمكن إصلاح البنية الاجتماعية من طريق القانون بل على العكس إن هذه البنية هي التي ينبثق منها القانون ولو كانت الآلية خفية.
كيف يمكن إعادة النظر في جانب الاستغلال الاقتصادي للنساء العائد في ما يبدو إلى اتفاقات فردية بين الأزواج بينما يرتكز هذا الاستغلال على التنظيم البطريركي لمجتمعاتنا؟ إن الانطلاق من هذه الزاوية هو التحدي الذي لم تتصدّ له بعد الحركة النسائية ولو انه تم اقتراح بعض المسارات[6].
إضافة إلى ذلك فان جيلين أو ثلاثة من النساء الشابات والمفترض بها الاستمرار في النضال النسائي في السبعينات قد بقيت بعيدة عن الحركة التي انتقلت إلى هامش ضيق وخاص. وقد اختارت وسائل الإعلام معارضة المطالب النسائية من خلال حملات تتضمن التقديم السلبي لأنصار حقوق المرأة على أنهن "ذميمات ومعقدات" أو "مناهضات للرجال" أو حتى من "المثليات الجنسيات"... لكن السلاح الأمضى هو تكرار الفكرة القائلة بان جميع الحقوق مصونة ولا يبقى سوى التشمير عن السواعد لتقديم البرهان أن النساء يستحققن هذه المساواة[7]. وإذا عجزت النساء عن ذلك يتحملن هن المسؤولية و...عقدة الذنب.
إن التأكيد أن المساواة حاصلة ليس فقط كذبة بل سمّ يدخل نفوس النساء ليدمر تقديرهن لأنفسهن وإيمانهن الهش بأنهن أشخاص كاملات الإنسانية. فاحد تحديات الحركة النسائية اليوم هو الإضاءة على هذا الوضع وتقديم البرهان انه ما من بلد في العالم وما من علاقة اجتماعية تشهد تغيرا من دون مقاومة أصحاب الامتيازات. لذا يجب إقناع النساء ودفعهن إلى النضال في هذا الاتجاه والأمر ليس سهلا.
نصبت في كل مكان سدود إيديولوجية أمام محاولات تحقيق المساواة الحسية وذلك باسم... المساواة نفسها. ففي فرنسا مثلا تتذرع الطبقة السياسية بيمينها ويسارها ومعها قسم من الانتلجنسيا بمفهوم الجمهورية لمعارضة مطالب الجماعات التي تكونت باسم الاضطهاد المشترك وهم النساء والمثليون الجنسيون والعمال وضحايا التمييز العنصري. فكل إشارة إلى فئات محددة أو جماعات تعتبر مخالفة للروح الجمهورية وبالتالي منتقصة من المساواة. هذه هي المسلمة التي رفض بموجبها المجلس الدستوري عام 1982 اقتراح "الكوتا" النسائية (25 في المئة) على اللوائح الانتخابية.
فقد تم الهجوم على مبدأ التوازي بين النساء والرجال من منطلق جمهوري كوني. بالطبع يمكن انتقاد فكرة الكوتا، لكن الواقع إنها تهدف إلى رفع تمييز لا شك فيه تعاني منه النساء في الترشح إلى الانتخابات. كذلك ينظر إلى المثليين الجنسيين والى أبناء المهاجرين أحيانا أنهم يتآمرون على التقليد الجمهوري عندما يتجمعون في هيئات خاصة بهم، لكنهم بفعلتهم هذه لا يطالبون إلا باندماجهم في تلك الجمهورية! في خضم الخلط بين المساواة المعلنة والمساواة الحقيقية يصل البعض إلى حد تحويل الجمهورية إلى سلاح ضد المساواة الحقيقية مما يضع أمام الحركة النسائية التحدي التالي: إن المساواة مثال أعلى يجب بناؤه على أنقاض واقع قائم على انعدام المساواة.
الحركة لا تعني فقط التقدم على الطريق بل الإشارة إلى هذه الطريق إذ أن خريطة القمع وترسيمة التحرير لا تنتهي أبدا. وعلى الصعيد النسائي الداخلي فان الهدف الرئيسي يتمثل في استعادة انطلاقة الحركة النسائية على قاعدة المفهوم الخاص بها لعدم الخلط بين الجنسين، إذ أن هذا النموذج لتحرير النفس يسمح للمظلومين (النساء) ليس فقط بالنضال من اجل التحرر بل أيضا بتقديم التعريف الواضح لهذا التحرر.
إن النضالات النسائية متعددة في موضوعاتها (من اجل حرية الإجهاض، حقوق المثليات جنسيا، مناهضة العنف الخ...) وفي أشكالها التنظيمية (مجموعات محلية، اتحادات وطنية مثل "تضامن النساء"، التحالفات مثل المجموعة الوطنية من اجل حقوق المرأة، لجان وروابط ومنظمات دولية غير حكومية). إن الحيز الأكبر من النشاطات النسائية يحصل عبر مجموعات مشكلة من النساء والرجال، سواء عن خيار مسبق أو من طريق لجان شؤون المرأة في النقابات والمنظمات غير الحكومية أو الأحزاب. إن هذا الاختلاط ضروري من اجل نشر العمل النسائي وانتشاره في أمكنة النضال كما داخل المؤسسات (كالجامعات حيث تتقدم الدراسات والأبحاث حول المرأة). وتعطي هذه الهيئات المختلطة الدليل على توسع العمل النسائي إلى جمهور جديد وقدرته على النجاح والتأثير.
بيد أن فكرة عدم الاختلاط لم يعف عليها الزمن وهي عندما طرحتها في 1970 "حركة تحرر المرأة" أثارت صدمة في المجتمع وحتى في أوساط المناضلات النسائيات من الجيل السابق. ذلك أن فكرة عدم الاختلاط ولدت من قطيعة مبدئية تعيد النظر في التحليلات السابقة حول تبعية المرأة إذ لم يعد مطروحا "وضع المرأة" الذي يلحق الضرر بالنساء والرجال على حد سواء بل أن التركيز بات على الظلم اللاحق بالنساء تحديدا.
لم يكن هم "حركة تحرر المرأة" الرئيسي سن القوانين بل كان هدفها أكثر طموحا وطوباوية. فكانت القوانين نتاجا ثانويا مرحبا به لنضال مجاني من دون أهداف ملموسة مباشرة كما هي حال البحث العلمي الأساسي مثلا. وإذا ظهرت هذه المنتجات الثانوية فلأنها أيضا لا تشكل الهدف النهائي ولان سقف الأطروحات كان أكثر ارتفاعا. إن هذا الطموح اللاواقعي والذي لا يهتم للفعالية المباشرة قد أعطى الأشياء دفعا أدى في النهاية إلى الفوز في الواقع.
بعد مرور 33 سنة على تأسيسها لا تزال حركة تحرير المرأة تعاني من قلب المعايير بسبب الممارسة غير المختلطة التي رافقت انطلاقتها. ويتبين أن عدم الاختلاط ضروري لان ليس للرجال المصلحة ـ الذاتية أو الموضوعية ـ نفسها وخصوصا لان على من يتعرضن للظلم أن يحددن بأنفسهن طبيعة هذا الظلم وتحررهن منه وآلا قام الغير بالتعريف عنه[8]. ويستحيل تحديد طبيعة هذا الظلم في حضور الأشخاص الذين ينتمون موضوعيا إلى المجموعة الظالمة من جهة ولا يعرفون ولا يريدون أن يعرفوا ـ باستثناء بعض الحالات الاستثنائية ـ ماذا تعني معاناة المرأة اليومية إذا كانت سوداء أو عربية أو مثلية جنسيا. التعاطف لا يغني عن التجربة في أي حال.
بالطبع إن للرجال دورا في الحركة النسائية لكنهم لا يمكن أن يحلوا محل النساء. لكن عدم الاختلاط لا يحظى بالاعتبار وينظر إلى آن الزمن تجاوزه. لكن حتى في هذه المجموعات غير المختلطة يطغى جدول الأعمال على المشاركة في التجارب المعيوشة مما يحول المعركة إلى نوع من تعاطف غيري إنساني فقط. وعندما تتحول النساء إلى محسنات مع أنفسهن فإنهن لا يتذكرن ـ أو يرغبن في نسيان ـ إنهن هن اللواتي يتعرضن للإهانة. إن المحافظة على قوة المواجهة واستعادتها هي أيضا من أهم التحديات الجديدة أمام الحركة النسائية وأمام جميع حركات المظلومين.
* من مؤلفاتها Pour sortir du liberalisme (avec Yves Salesse), Syllepse, Paris, 2002 et L’Ennemi principal. Penser le genre, Syllepse, Paris, 2001
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر حول موضوع الالتفاف على المكتسبات النسائية كتاب سوزان فالودي المعروف بعنوان Backlash الصادر في الولايات المتحدة عام 1991.
[2] انظر المقابلة مع اليزابيت بادنتر في مجلة "الاكسبرس" في 24/4/2003 ومع مرسيلا لاكوب وهرفه لوبرا في "الأزمنة الحديثة"، الفصل الأول 2003. وردا على هذه الطروحات، انظر Gisèle Halimi “ Le “ complot ” féministe ”,Le Monde diplomatique, août 2003.
[3] Dossier “ femmes : une spécificité française ”, Le Débat, n°87, novembre-décembre 1995.
[4] “ M. Chirac se penche sur l’inégalité homme-femme au travail ”, le Monde, 27 février 2004
[5] من هذه الحجج "الادعاءات الكاذبة" التي يطلقها الصغار أو ما يسمونه ظاهرة "الذكريات الكاذبة" وهي عبارات شاعت في المحاكم وفي مدارس القضاء...
[6] انظر “ A contresens de l’égalité ”, et notamment “ Par où attaquer le partage inégal du travail ménager ? Nouvelles Questions féministes, Vol. 22, n°3, 2003.
[7] Marianne Bellens, “ Deuxième sexe et féminisme…et la génération montante ? ” in C.Delphy et S.Chaperon Cinquantenaire du Deuxième sexe, Paris, Syllepse 2002.
[8] “ Nos amis et nous : fondements cachés de quelques discours pseudo-féministes ”, in “ L’ennemi principal, tome 1, ةconomie politique du patriarcat ”, Paris, Syllepse, 1998.
#كريستين_دلفي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟