|
الإسلام والعلمانية
مروان سراج الدين
الحوار المتمدن-العدد: 2741 - 2009 / 8 / 17 - 04:59
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ثمةأطروحات عديدة حاولت فهم علاقة المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة بالعلمانية. من ذلك ما اعتبر أن مصير الدين في التاريخ والاجتماع البشري متجه نحو الأفول، وأن ما حدث في التجربة الغربية من إزاحة للدين عن الفضاء السياسي والاجتماعي وحلول العلمانية هو صيرورة إنسانية وعالمية ليست حصراً بالتجربة الغربية. وأن إنتقال المجتمعات من الطور الديني التقليدي إلى الطور العلماني الحداثوي هو عملية شبه حتمية.غير أن صعود الإسلام السياسي في المنطقة العربية ثم في مناطق أخرى من العالم مثل تحدياً لأطروحة «العلمنة»، أضيف إليه بروز اصوليات مسيحية ويهودية وهندوسية وغيرها، أفرزت حالة من الردة عن التعلمن المتواصل إلى حقبة من التدين المستجد واستدعاء الدين إلى الفضاء الاجتماعي والسياسي العام. بيد أن هذا الصعود لـ الديني على حساب العلماني وانتشار الحركات الدينية نظر له من بعض زوايا التحليل التاريخي على أنه بمثابة الحشرجة ولفظ الأنفاس الأخيرة. من زاوية الإسلاميين أنفسهم فإن النظرة إلى العلمانية وعلى مدار عقود طويلة ماضية اتسمت بالسلبية التامة والعداء شبه المطلق. فهى حسب فهم الإسلاميين معناها فصل الدين عن الدولة، وفتح الباب لكل ما هو غير إسلامي كي يتمدد في المجتمع على حساب الدين. والعلمانية بحسب التحليل الإسلامي الحركي هي حركة طارئة على المجتمعات العربية والإسلامية ولن تلبث أن تأفل، لذلك فإن نظرية العلمنة المتواصلة للتاريخ الإنساني مرفوضة من وجهة نظر دينية وتاريخية. بروز العلمانية واكتسابها لمساحات جديدة يعنيان، بالنسبة الى الإسلاميين, أفول الدين وخسارته لتلك المساحات. معظم ما تنادي به العلمانية، حسب ما يراه الإسلاميون فيها، ينادي بعكسه الدين، ولذلك فالخصومة هي ناظم العلاقة، نظرياً وواقعياً. العلمانية لا تقبل خلط الدين بالدولة، بينما رؤية الإسلاميين للإسلام هي أنه دين ودولة والعلمانية (الحداثوية الليبرالية على الأقل) تعزز الفردانية وتقدس الحريات، فيما الإسلام وكل الأديان تعزز فكر الجماعة وتضبط الحريات وفق الحدود الدينية. لذا فالعلمانية هي نزع للمقدس عن الطبيعة والكون وبالتالي عن الاجتماع البشري بينما الدين هو إضفاء للمقدس على ذلك كله . ويندرج إدراك معظم الإسلاميين للعلمانية في التعريف الأقصر والمباشر لها: فصل الدين عن السياسة, ومن هنا ينبع معظم عدائهم لها. على رغم ذلك ثمة منظرون إسلاميون، مثل الراحل الدكتور عبدالوهاب المسيري، قاموا بتوسيع تعريف العلمانية مما سموه العلمانية الجزئية أي فصل الدين عن الدولة إلى العلمانية الشاملة وهي فصل كل ما هو مقدس عن كل ما هو دنيوي حتى لو لم يكن سياسياً. والعلمانية الشاملة بحسب تعريف المسيري تتصف بأنها كامنة وعضوية وتطال حياة الفرد ونظرته الى الحياة والوجود وتعيد تشكيل سلوكه اليومي والاجتماعي والمهني بشكل مادي بحت، و حوسلة الأشياء والقيم وحتى الأحلام والرغبات، أي النظر إليها على أنها وسائل مادية تحقق أهدافاً مادية ملموسة ليس إلا. وبالتالي فإن هذه العلمانية تصهر الحياة الإنسانية برمتها وفق قالب مادي ليس فيه دور لـ المقدس والدين. لكن مقاربة المسيري للعلمانية (في كتاب موسع من جزءين بعنوان العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ( متناقضة وتزيدها غموضاً أكثر مما تقدم منهجا عملياً للتعامل معها. فهو من ناحية لا يبدو معترضاً على العلمانية الجزئية وفصل الدين عن الدولة، حيث يقول .. نحن نذهب إلى أن ثمة فصلاً حتمياً نسبياً للدين والكهنوت عن الدولة في كل المجتمعات الإنسانية تقريباً إلا في بعض المجتمعات الموغلة في البساطة والبدائية . حيث نجد أن رئيس القبيلة هو النبي والساحر والكاهن فالمؤسسة الدينية لا يمكن أن تتوحد مع المؤسسة السياسية في أي تركيب سياسي حضاري مركب. وفي الوقت نفسه فإن توسيعه لتعريف العلمانية بـ العلمانية الشاملة والكامنة ينطبق على معظم إن لم نقل كل جوانب الحياة المعاصرة: شكل التنظيم الحياتي، المهني، تقسيم العمل، العلاقات، الاقتصاد، الثقافة والفن، وكل ما يقود هذه المجالات من حوافز ودوافع ومعظمها الرغبة في الاستكشاف والمراكمة والسعي نحو التحسين. ومن ثم فإن هذا التعريف وتفكيك شكل الحياة المعاصرة بناءً عليه لا يقدم حلولاً ولا يشرح، وهو الأهم، سبب غلبة هذه العلمانية الشاملة وبنيتها الكامنة على الرؤى الأخرى للعالم غير العلمانية ولماذا يتم تبني هذا النمط العلماني للحياة من قبل شعوب وثقافات العالم وهناك تطلع دائم نحوه ورغبة بامتلاكه. وهو من ناحية ثانية يفتح للدين العودة إلى السياسة من النافذة بعد أن سد عليها الباب وإن بمواربة، برفضه نزع المقدس عن كل جوانب الحياة. ومن دون الحاجة للتوسع والاستطراد هنا فإن المقاربة الأكثر غنى حول موضوع العلمانية والمجتمعات الإسلامية هي التي يطرحها جورج طرابيشي في كتابه هرطقات عن الديمقراطية والعلمانية بجزءيه ويجادل فيهما حول أن بذور العلمنة السياسية موجودة في الممارسة الإسلامية منذ القرن الأول الهجري وأن انفصال السياسة عن الدين كان في جوهر الواقع المعاش في مسيرة التاريخ الإسلامي وأن التوتر والعداء الإسلامي المعاصر للعلمانية مردهما نشأتها الحديثة في الغرب وليس ماهيتها نفسها. يمكن القول عموماً إن رؤية وتفسير كثير من الإسلاميين الحركيين للعلمانية يتسمان بالميكانيكية واللاتاريخية بمعنى أنها رؤية ينقصها العمق التاريخي وإدراك تجربة المجتمعات والحضارة العربية والإسلامية على مدار أربعة عشر قرنا. وهي رؤية متأسسة على تفكير وتفسير حرفي للأصول يحيد التاريخ. فإذا كانت العلمانية هي الجزئية أي فصل الدين عن الدولة فإن التجربة التاريخية الإسلامية تشير إلى أن الدولة الإسلامية في عهود ازدهارها الأموي والعباسي والأندلسي مثلاً كانت أقرب إلى الدولة العلمانية منها إلى مثال الدولة الإسلامية النموذجية الذي يعتقده ويفترضه الإسلاميون الحركيون اليوم. كان الإسلام هو الشعار الفضفاض العريض الذي تتحرك تحته سياسات المصالح والمطامع والأنانيات والحروب والصراعات التي يتم تفسيرها وفهمها وفق عنصر المصلحة السياسية البحتة. وكان الشعار الديني وسيلة للتوظيف السياسي وقد ساهم في إنجاح المشروعات السياسية والتوسعية لكثير من الحكام والخلفاء المسلمين. بيد أن جوهر التسيس اليومي والعلاقات التي تنسج حوله كان بعيداً عن تحكم الدين. لذلك فإن التطلع نحو حلم الدولة الإسلامية كما يرسمه الحركيون الإسلاميون اليوم والاستشهاد بمراحل ازدهارها ونسبة ذلك الازدهار إلى أن النموذج المعتمد كان الدين والدولة هو قراءة قاصرة وافتراضية للتاريخ العربي والإسلامي. وهي لا تاريخية أيضاً لأنها تستثني تجربة الأربعة عشر قرناً من التسيس الإسلامي (العلماني في جوهره) لكن غير المعادي للدين بل المتحالف معه أي ربما أمكن وصفها بـ العلمانية المؤمنة. وتجربة تلك القرون الطويلة هي جزء عضوي لا يتجزأ من الإسلام التراكمي الذي أرادت الحركات الإسلامية أن تبني عليه لكنها عملياً قطعت معه. وهذا القطع تم بطريقة لا واعية حين أرادت هذه الحركات أن تبعث نموذجا إسلامياً لم يتحقق تاريخياً. وفي أقصى حالات الطوباوية فإنها تقفز عن كل تلك التجارب التاريخية الطويلة لتستأنس بالحقبة الراشدية الأولى قافزة عن أربعة عشر قرنا من التجربة الغنية والمتداخلة والمتنوعة بنجاحاتها وفشلها وخبراتها وتعود إلى البداية النقية - كما هي رؤية سيد قطب اللاتاريخية أيضاً. فقطب دعا إلى العودة إلى الينابيع الأولى للإسلام طارحاً التجربة التاريخية جانباً وغير آبه بها. وقد كان ولا يزال أحد أهم خلافات الإسلاميين مع العلمانية (والديموقراطية استتباعاً) هو مصدر الشرعية ومصدر التشريع وهو حقل سجالي عريض يستنزف نقاشات أوسع وأعمق. لكن تكفي الإشارة هنا إلى أن اعتراض الإسلاميين الكبير على المنهج العلماني في السياسة والاجتماع يكمن في اعتبار الإرادة الإنسانية والتوافق الإنساني مصدرين للشرعية والقوانين والمنظومة الأخلاقية. فيما يرى الاسلاميون أن في مثل هذا الاعتبار تحدياً مباشراً وصريحاً لمصدر الشرعية في الإسلام وهو الشريعة الإسلامية والنص الديني. لكن في مستويات أدنى من المستوى المهم والرئيسي الخاص بالشرعية ومصدرها يختلط ما هو ديني بما هو دنيوي عند كثير من الإسلاميين بخاصة في حقل الممارسة اليومية.
#مروان_سراج_الدين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|