|
في شأن الذاكرة والسلطة والرقابة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2738 - 2009 / 8 / 14 - 06:18
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تلا طيق أية سلطة أن تروى سيرتها، سيرة البدايات بخاصة. لا لأن هذه مجبولة على التعثر ومثيرة للسخرية المخلة بالهيبة فقط، وإنما لأنها تذكر كذلك بالأصل العادي، غير "النبيل" أو "المقدس" أو "الثوري" أو "العبقري" أو "البطولي".. للسلطة ونظامها ومبادئها، وقد تكشف جوانب مبتذلة أو وضيعة من سيرتها. ومن هذا الباب فإن السلطة السياسية، المطلقة أو"الشمولية" منها بخاصة، أو الطغيان المحدث، عدوة للذاكرة، ترفض أكثر من غيرها أن تتذكر أو تُذكّر. ولعلها من هذا الباب تحرص على التخلص من الطبقة السياسية التي زامنت ولادة حكمها، بل ويدشن الزعيم الأقوى، وليكن اسمه ستالين، عملية تصفية لأنداده، ليس لأنهم يعرفون من هو وما قيمته ومن أي طين هو مصنوع، ولكن لأن مجرد وجودهم تذكير بعاديته، وبأنه "عينة" من صنف أوسع. ويتخلص صدام حسين من زملائه، بخاصة أولئك الذين تعاملوا معه باستخفاف ذات يوم، أو حتى بندية. ويقتل غيرهم خصومه صبرا، أي بسجنهم حتى الموت. فالذاكرة تؤكد أنه كان للطاغية أنداد، وأنه لم يكن الأول في كل شيء طوال الوقت. إنه الأول اليوم بفعل عملية "تأويل"، لم تخل من عنف ووحشية ودم، تخلص بها من رفاقه ومنافسيه. الذاكرة خطيرة أيضا لأنها تعرض الطابع المتلجلج والمتردد والتجريبي لتبلور النظام والزعامة والسلطة، وتظهر أنه لم يولد كاملا على نحو ما يفضل القائمون عليها تصوير الأمر. تذكر البدايات مزعج بخاصة لأنه صورة مقلوبة عن النهاية. ما له بداية ينتهي، فجأة أو بالتدريج. قد يبدأ الطغيان بـ"انفجار عظيم"، لكنه ينتهي بـ"نواح خافت" على نحو ما ينتهي عالم ت. س. إليوت في "الأرض اليباب". *** السلطة المستبدة تعادي الأرشيف، تحذف من سجلات تاريخها ما لا يروقها أو يناسب موقفها الآني. كانت مهمة وينستون سميث في رواية "1984" لجورج أورويل تنقيح الماضي لجعله موافقا للحاضر. فأعداء اليوم كانوا أعداءنا دوما، وأصدقاء اليوم هم الأصدقاء في كل آن. السجل مطواع، قابل لإعادة تشكيل غير نهائية. وهو مع هذا غير قابل للكشف. لا يتاح السجل للعموم بعد جيل ولا بعد أجيال. إذ لا بد له من أن يحتفظ بآثار التغير وعلامات الزمن. من شأن إتاحته أن تظهر عادية السلطة، والسلطة المطلقة عدوة العادية قدر ما هي عدوة الذاكرة والأرشيف والتغير والتاريخ. وعبر إعادة تشكيل السجل تتوسع السلطة المطلقة إلى الماضي وتسيطر عليه. ومن هذا الباب أيضا الذاكرة الحية عدو. فهي سجل يمتنع على إعادة التشكيل. ولعل هذا هو مغزى الحكاية التي تتكلم على سلطان أمر بقتل كل المسنين بين رعاياه. هؤلاء شهود على عادية السلطان وابتذاله، وعلى الطابع العارض لحكمه. قبله كان غيره. وما دام له قبل فالأرجح أن يكون له بعد. ليس خالدا إذن، وسلطانه ليس حتميا. والوظيفة المختص بطرد العادية، وبحذف البدايات والتركيب والنقص و"التأويل"، هي الرقابة. السلطة المطلقة رقابة مستمرة، عملية حذف ودمج وتعديل، وإعادة بناء مستمرة لصورة النظام، بغرض إثبات أنه كان مطابقا لذاته دوما؛ ووظيفة الرقابة قمع التذكر الذي هو قوة كاسرة للمطابقة الذاتية. يؤكد التذكر أن للسلطة تاريخا، لم تكن دوما ما هي عليه اليوم (وتاليا قد تتغير يوما أو تزول)، فهو يحبط مشروعها لتأبيد الحاضر ومنع انصرام الزمن. وهو لا يثبت أنها ليست هي: تتحول وتتبدل، أو تكون وتفسد؛ بل يثبت كذلك أن غيرها هي: ثمة عقائد غير عقيدتها حطمت، وقيادات منافسة قتلت أو اغتيلت، و"قداسات" مثل قداستها دُنِّست، وتمردات عليها سحقت. إذا كانت الذاكرة عدو السلطة المطلقة، فإن النسيان حليفها الموثوق. تعوّل على أن ينسى الناس. ينسون أن الحكام مثلهم وأنهم هم مثل الحكام. والنسيان هو نسيان البدايات، وتاليا توهم أن أصل الحاضر هو الحاضر، وهو ما يناسب السلطة المطلقة تماما، سلطة أية فكرة أو مؤسسة أو عقيدة أو "شخصية" ترفض المساءلة. تكره النظم الاستبدادية أن يحتفظ ضحاياها بذاكرتهم، أن تكون لهم سير وسرديات مختلفة ومعرفة بالبدايات. وهي تحرص كل الحرص على مصادرة أية وثائق مستقلة قد تكون أساسا لسجل بديل. لا ينبغي أن تتولد سرديات مستقلة. فإن ولدت مع ذلك، فإما تقمع في مهدها، أو يشكك في صدقيتها وتسخف، أو تتجاهل، أو تحتوى. ومنع تكون خطابات مستقلة هو وظيفة إضافية للرقابة تساندها فيها الأجهزة المختصة بالقمع. القمع موجه جوهريا ضد فكرة أن ثمة بديل، أو كل ما يوحي بأن الواقع القائم ليس الممكن الوحيد. والسلطة التي تعادي انبثاق التذكر المستقل وكلامه، قوية الذاكرة بالمقابل حيال خصوما وأعدائها. تحتفظ بأرشيفات أو "أضابير" أو "ملفات" مفصلة ما استطاعت لكل منهم، من مروا بسجونها وأجهزة تحقيقها بخاصة. يحصل أن تسمى هذه "قيودا". وهي بمثابة نسخة من كل شخص، مخزونة في "عالم آخر"، عالم الظلمات والسر المحمي بالأسوار والقوة الوحشية من أجل ألا يختلط بالعالم العادي، عالم لا يجوز بحال أن تتسرب أضابيره و"قيوده" إلى السجلات المعترف بها في عالم الجهر. إنها قيود بالفعل، كأنما نصف الشخص يبقى سجينا دوما، كأنما نصفه فوق الأرض ونصفه تحتها. والاحتفاظ على هذا النحو بقيود أو سجلات للخصوم والأعداء هو فعل تقييد رمزي، يوسع مساحة تصرف السلطة ويضمن لها أمنا نسبيا من جهة هؤلاء المقيدين. بالمقابل، إن كشف السجلات وإظهار القيود للعلن فعل محرر، يستعيد بموجبه كل "مقيد" تكامله وسيادته على نفسه وسلامته واحتكاره الشخصي لذاكرته. فعل كاسر لهذا الضرب من النسيان المصنوع بالقوة والمسيج بالظلام والمحروس بالخوف. من هذا الباب فإن سلطة مطلقة لا تتغير فعلا إن لم تكشف سجلاتها وقيودها وأرشيفها كاملا وتعرض علنا للجميع. لا تتغير إلا بقدر ما ينطلق فعل التذكر ويتحرر من إساره، وتنال السرديات المقموعة الاعتراف العام. بهذا ربما يتكامل كل الناس وكل واحد منهم على سطح الأرض، متحركين، متحررين من قيودهم، طلقاء.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيما خص أزمة الثقافة النقدية..
-
منظومتا استثناء، لا واحدة، في سورية
-
تعقيب على نقاش منتدى -هلوسات- حول مشروع قانون الأحوال الشخصي
...
-
في أصول صناعة التشاؤم العربية
-
بصدد العنف والنخبوية
-
ملحوظات أولية في نقد السياسة
-
ماذا يعني مفهوم الحريات الاجتماعية؟
-
موقع -الديني السياسي- في وثيقتين معارضتين سوريتين
-
من خرافة سياسية إلى أخرى..
-
عودة إلى مشروع قانون الأحوال الشخصية السوري
-
-الحل- غير موجود... أين هو؟
-
في بئري الدين والدولة
-
في شأن الديمقراطية والإصلاح السياسي... سيرة استهلاك إيديولوج
...
-
الطائفية والأحوال الشخصية في سورية
-
عالم السادة الرجال -المسلمين- وما وراءه
-
بحثا عن توازنات جديدة.. إيران تتحرك!
-
تساؤلات بصدد السياق السياسي والمؤسسي لمشروع قانون الأحوال ال
...
-
نتنياهو، كيف حصلنا عليه؟ وأي سلم يتحصل منه؟
-
ما معنى البقاء في السلطة إلى الأبد؟
-
الكثير الذي فات خطابك يا أخ أوباما!
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|