|
البناء النصي عند الشاعر محمد الماغوط
ذياب شاهين
الحوار المتمدن-العدد: 2737 - 2009 / 8 / 13 - 11:25
المحور:
الادب والفن
"سرير تحت المطر" أنموذجا
ثريا النص
يتكون هذا النص أي"سرير تحت المطر"من (30)مقطعاً، وهو منتظم ابتداء بثمانية عشر مقطعاً يعقبه بياض( ) ثم يلي البياض أحد عشر مقطعاً،والعتبة لا تشير إلى شيء وكأنها عائمة كما أن الملفوظات الثلاثة لا تحيل إلى معنىً عميق مرتبط بحالة نفسية أو إحالة إلى نص سابق أولاحق سواء كان أسطوريا أو غير ذلك أو حتى إلى صورة طازجة، بل هي جملة تمتح شعريتها من لا معقوليتها وغرائبيتها فهي تثير الكثير من الخيالات لدى المتلقي، وتجعله يتساءل عن جدوى وجود السرير تحت المطر وربما يتساءل المتلقي هل أن سرير الشاعر حقا في العراء تتقاذفه الأمطار والعواصف والرعود، ولكننا نفترض ذلك من حقيقة المعاني المباشرة والقاموسية للملفوظات المكونة للثريا وهي (سرير،تحت،مطر)إلا أن الشعر وهذا ما يفترضه التلقي هنا لا يتعامل بما هو قاموسي وسطحي للدوال(الملفوظات) ولكنه يذهب بعيدا من المداليل إلى مداليل المداليل وربما أبعد أي إلى متاهة المعنى وجوانيته، وهذا ما سوف يخوض فيه التلقي باحثا في متن النص وليس خارجه وما يثيره نفسيا في الذات القارئة وهي مقاربة تحاكم العتبة النصية بوصفها موجها قرائيا إلى متن النص من خلال المتن ذاته وبه فقط وليس بغيره.
متن النص
يبدأ الشاعر محمد الماغوط بجملتين تعبران عن حالته النفسية أو ما يمكن افتراضه تأثيراً خارجيا مجتلباً راسماً عن طريق الكلمات وقع هذا التأثير على ذاته حيث نقرأ:-
الحب خطوات حزينة في القلب الضجر خريف بين النهدين
في الجملة الأولى نلمح علاقة توازي بين الحب(إحساس)وبين الخطوات والتي هي فعل ميكانيكي في مستواه الحركي ليس باتجاه السعادة ولكن باتجاه الحزن، وهذا الاتجاه الذي خلعه الشاعر على الخطوات هو في واقعه لتعميق حالة الإحساس وإعطائها تأثيراً أعمق من الصدق واليقينية وخصوصا بعد أن وضعها الشاعر في مكانها المناسب وهو القلب، وبالرغم من أن الشعر غير معني بيقينية أو صدقية عملية التوازي هذه بين الحب والخطوات الحزينة إلا أن التلقي يفترض ذلك ولكن هذا الافتراض يدحضه البيت الثاني وهو(الضجر خريف بين النهدين)،وهنا المشابهة بين فكرتين كل منهما تنطوي على ملفوظ مختلف، فالضجر حالة نفسية مؤقتة عكس الحب الذي يكاد يكون عبارة عن عملية نفسية دائمة، وبالتالي فالتوازي الذي يخلقه الشاعر بين الضجر والخريف يتشاكل بنائيا مع السطر الأول، إلا أن المشبه به ينتمي لتفاصيل الزمن (الخريف هنا) والذي كما هو معروف موسم مؤقت ولكنه يتميز بالاعتدال إلا أنه يتأطر ضمن حالة مكانية غير عادية (بين النهدين)، ولو فهمنا الملفوظتين برمزية مفترضة على مستوى التلقي يكون الخريف أسطوريا بمعنى الموت والنهدين رمز للحياة، وكأن حالة الضجر هذه والتي تعتري الشاعر نفسيا هي حالة بديهية كانبجاس الحياة من الموت، ولو عملنا مطابقة بين السطرين الشعريين أعلاه نلاحظ عدة ملاحظات هي:- أ- ملفوظ الحب ينطبق على الضجر وكلاهما إحساس روحي ونفسي إلا أن الأول دائمي والآخر مؤقت. ب- انطباق (خطوات حزينة)على ملفوظ (خريف) إلا أن الأول فعل ميكانيكي (حركي) يشير إلى تلازم زمني مكاني بينما ملفوظ الخريف ينتمي إلى الزمن كما أسلفنا سابقا وهو لا يدل سوى على ذاته. ج- وأخير ينطبق ملفوظ القلب على ملفوظ (النهدين) وهما أعضاء بشرية معروفة يحيل الأول على شيء مختبئ وهو مكان للحدس وللإحساسات أما الثاني فهو ظاهر ونافر ومكان للجنس والرغبة. نستطيع أن نقول أن البيتين أعلاه هما مقدمة توسلها الشاعر لإدخالنا إلى نصه وتمهيدا لما سيلي من الأسطر الشعرية حيث يفاجئنا محمد الماغوط بما يلي:-
أيتها الطفلة التي تقرع أجراس الحبر في قلبي
والسطر هذا يمثل تغييرا لحركية النص وتحولا من الإخبار إلى المخاطب (أيتها الطفلة).. والطفلة هذه هي من يلهم الشاعر، إنها شيطان الشاعر أليس لكل شاعر شيطانه؟ ،وهي التي تقرع أجراس الحبر، وأجراس الحبر هي دماء الشاعر، وقلبه إنما يمثل الدواة، وعندما تـُقرع هذه الأجراس يتوهج الشعر ليصطف على شكل ملفوظات وجمل على سطور الورقة، إن الشعر هنا يمثل حدسا يبتكره قلب الشاعر، أليس قلب الشاعر هنا هو الذي تسرب إليه الحب مثل خطوات حزينة كما قرأنا ذلك في أعلاه...
من نافذة المقهى ألمح عينيك الجميلتين
نافذة المقهى تفتح للشاعر عالم الخارج، والشاعر هنا مؤطر في عالم الداخل ضمن حالة أكبر قليلا هي جدران المقهى ، كما أن العيون الجميلة تفتح عالماً أعمق هو عالم الجمال، إن حركية النص المتماوجة والمتغايرة على مستوى الدلالة والبناء النصي تكشفه هنا حالة الابتداء بالجار والمجرور عكس الجمل الأولى(والتي كانت اسمية كما لاحظنا)، وكأن الشاعر يريد منا التركيز على الابتداء (أي نافذة المقهى)، فالنافذة تقودنا إلى العالم العميق أو إلى عوالم قصية في ذات الشاعر.
من خلال النسيم البارد أتحسسُ قبلاتك الأكثر صعوبة من الصخر
وبالرغم من طول هذه الجملة التي شطرها الشاعر في سطرين، إلا أنها بنائيا تشاكل الجملة الشعرية السابقة لها، والتوازي البنائي هذا يتوسله الشاعر الماغوط لتعميق الأثر النفسي لدى المتلقي، وهذا التطابق في الملفوظات يحيل إلى تداعيات نفسية تنقل الشاعر من حالة الرؤية البصرية إلى حالة من التذكر أو حالة خيالية فكلاهما جائزان ، والمقصود بحالة التوازي هي:-
من نافذة المقهى↔من خلال النسيم البارد ألمح ↔ أتحسس عينيك ↔ قبلاتك الجميلتين ↔الأكثر صعوبة من الصخر
ويبدو واضحاً أن التشكيل الجملي متشاكل وكأن الثاني يريد تفسير الأول ويؤكده والتلقي يقرأ الجملة الأولى بوصفها سببا والثانية بوصفها نتيجة، والشاعر وهو يخاطب المحبوب(أيتها الطفلة) إنما يخبرنا بما يعتلج في داخله ، فهو أمام حبيب سهل ممتنع حبيب كالشعر جميل وعصي، وكأن الحب يتماهى مع العيون الجميلة والضجر يتماهى مع القبلات التي لا يستطيع الشاعر أن يحصل عليها فهي أكثر صعوبة من الصخر، إن هذه الطفلة التي لا تصغي إلى قلب الشاعر ولا تلتفت إلى تأوهاته، يراها الشاعر وقد تحولت إلى مخلوق آخر، مخلوق جبار ومستبد وغير عادل:-
ظالمٌ أنت يا حبيبي
إنه تركيز عال وشديد على غنج الحبيب وتعاليه(ظالم)، فهي الابتداء والملفوظ محمل بكل الحيف والظلم واللاعدالة التي يبديها الحبيب نحوه، ومع ذلك فهو لا يريد إنزاله من هذه العلياء والمكانة، فهو لا يزال الحبيب برغم معاناته:-
وعيناك سريران تحت المطر
وهنا عودة إلى تقنية التشبيه (عيناك سريران)، والسطر أعلاه يحيلنا إلى عتبة النص(سرير تحت المطر)، ويبدو وكأن هذا البيت هو صدى لبيت السياب الخالد (عيناك غابتا نخيل ساعة السحر)، وإذا كان بيت السياب يحيلنا إلى عالم الجمال والحركة إلا أن بيت الماغوط يحيلنا إلى عالم العراء، وكأنه يشكو من عالم غير آمن وجد نفسه فيه من جراء دلال المحبوب وصده، إن عيون المحبوب يتمناها سريرا وراحة لأحاسيسه ولكن هذا السرير الذي يتمناه الشاعر منصوب في العراء تتلاعب به الرياح والغيوم والمطر، لذا وجدناه يطلب الرفق والرحمة من هذا الحبيب القاسي:-
ترفق بي أيها الإله الكستنائي الشعر
ويمكن ملاحظة تكراراً تكرسه موسيقى القافية في الملفوظات (الصخر، المطر‘الشعر) وهذا التكرار يتوسله الشاعر لتبيان حالته النفسية التي سببها الحبيب المتعالي الذي هو إله أكثر منه حبيب وما يسببه من آلام تشاكل أمطارا تنزل عليه من السماء والتي لا يستطيع لها ردا، إن الأذن العربية لا تستطيع أن تغفل إيقاعا يحاول أن يقمعه الشاعر بوصفه يكتب قصيدة نثر وليس شعرا موزونا، لأن الإيقاعات الكامنة في الملفوظات تختفي وتظهر تبعا للبنية الفونيمية الكمية(الزمنية) المتراكمة في الملفوظ، رغم محاولته التنويع في الأداء الجملي على مستوى الابتداء والذي فارق التقنيات المستخدمة في الجمل الأولى(جملة اسمية،أو جار ومجرور) إلى تقنية أخرى هي تقنية الجملة الفعلية التي يكررها تارة أو ينوع عليها كما في أدناه:-
ضعني أغنية في قلبك ونسراً حول نهديك دعني أرى حبك الصغير يصدح في الفراش أنا الشريدُ ذو الأصابع المحرقة والعيون الأكثر بلادة من المستنقع
إن هذا (الحبيب-الإله) قد لا يكون بحاجة إلى محبيه ولكنهم بحاجة إليه، فحبهم له لن يضيره إلا أن عدم استجابته لهذا الحب سيكون قاسيا على محبيه، فالشاعر يطلب من الحبيب أن يضعه أغنية في قلبه ولا شك في أن ذلك مطلب غير عادي وكذلك يريد منه أن يضعه نسرا حول نهديه، وكأن الشاعر يريد من حبيبه أن يكون له روحا وجسدا إنه يريد امتلاك الحبيب، وعلى هذا الحبيب أن لا يصدح إلا باسمه وألا يشاركه الحب والحياة والفراش إلا هو، لأن كل هذه الأماني تمثل معادلا موضوعيا لغربة الشاعر وعذاباته فهو شريد وتكاد أصابعه تماثل النار التي تأكل كل شيء يقف أمامها، أما عيونه فهي حائرة وبليدة تشاكل مستنقعا ميتا لا تعيش فيه سوى الديدان والضفادع ولا شك فأن هذه صورة كئيبة يضفيها الشاعر على ذاته لكي ينال ما يريد من المحبوب، إن هذه الصور المحزنة في واقعها أعطال روحية وذهنية تتوسل عقاقير ناجعة ليشفى منها الشاعر، إلا أن العقاقير هذه عصية ولا يمكن نوالها وهذا هو سبب حزن الشاعر وصمته المريب:-
لا تلمني إذا رأيتني صامتا وحزينا فإنني أهواك أيها الصنم الصغير أهوى شعرك، وثيابك، ورائحة يديك الذهبيتين
يبقى الحبيب طوطما مقدسا لدى الشاعر، إن هذا الصنم الجميل شكلا وثيابا ورائحة يورث الشاعر صمتا وحزنا غير عاديين، إنه يضوع جمالا بينما الشاعر ينزف وجدا وشوقا، إن صنم الشاعر هذا يـُحـًبُّ ولا يـحـٍبًُ، يلوم ولا يُلام، وكأنه يقتات على إحساسات الشاعر ومشاعره ويزداد توهجا بتوهجها، وكذلك فالشاعر يزداد حبا وشوقا بزيادة توهج الحبيب وكذلك تمنعه وصده، إن حالة البوح الشفاف والتي تدمي روح الشاعر تتوقف هنا حيث نلمح فراغا وصمتا ( ) ليباغتنا الشاعر وهو يطلب من محبوبه ليتأطر ضمن حالات من الكينونة المتوهجة:-
كــن غاضبا أو سعيدا يا حبيبي كــن شهيا أو فاترا، فأنني أهواك
وهنا أيضا يطالب الشاعر من حبيبه كي يتلون ويتذبذب مثل موجة كهربائية بين حالتي الموجب والسالب، أو بين حالتي الغضب والسعادة، أو بين حالتي الشهوة واللاشهوة، إن الكينونة التي يضفيها الشاعر على محبوبه هي كينونة متماهية مع أية ذات إنسانية أي أنها الذات في أسمى حالاتها الوجودية:-
يا صنوبرة حزينة في دمي من خلال عينيك السعيدتين أرى قريتي، وخطواتي الكئيبة بين الحقول أرى سريري الفارغ وشعري الأشقر متهدلا على المنضدة
وهنا انتقال من حالة المخاطبة الآمرة (كن) إلى حالة الإخبار (أرى)، حيث الرؤيا تتسع فنرى من خلالها قرية الشاعر وخطواته الكئيبة بين الحقول وسريره الفارغ وشعره المتهدل على المنضدة، إنها إحالة لرؤية زمانية إلا أنها سنكر ونية أفقية مع رؤية الحبيب وكأن عيون المحبوب السعيدة تعكس عوالم الشاعر الحزينة منها والسعيدة على السواء، بماضيه وحاضره، بل بما يحب ويكره أيضا، إن عيون المحبوب بوابة مفتوحة عل عالم مترامي الأطراف، عالم غير متسق ، متحرك ، إنها انطولوجيا الذات الشاعرة التي تغذيها اللوعة ووقودها السعادة المتوهجة في عيون الحبيبة:-
كــن شفوقا بي أيها الملاك الوردي الصغير سأرحل بعد قليل، وحيدا ضائعا وخطواتي الكئيبة تلتفت نحو السماء وتبكي
تلك دعوة للحبيب كي يتأطر كينونة رحيمة، فالشاعر يبتدئ رحلته ضائعا ووحيدا ويبدو لي أن الشاعر قد يأس من محبوبه فهو كمن اكتشف أخيرا أن ما يطلبه من غفران ورحمة سيجدها في السماء (الله) فهو الوحيد الذي على الشاعر أن يتوجه إليه أما محبوبه الأرضي فلا جدوى منه فالسماء هي التي تتقبل الدعاء له ولمحبوبه وليس العكس.
#ذياب_شاهين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة في ديوان شجرة الحروف للشاعر أديب كمال الدين: اللاحروفي
...
المزيد.....
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
-
انطلاق فعاليات معرض الكويت الدولي للكتاب 2024
-
-سرقة قلادة أم كلثوم الذهبية في مصر-.. حفيدة كوكب الشرق تكشف
...
-
-مأساة خلف الكواليس- .. الكشف عن سبب وفاة -طرزان-
-
-موجز تاريخ الحرب- كما يسطره المؤرخ العسكري غوين داير
-
شاهد ما حدث للمثل الكوميدي جاي لينو بعد سقوطه من أعلى تلة
-
حرب الانتقام.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 171 مترجمة على موقع
...
-
تركيا.. اكتشاف تميمة تشير إلى قصة محظورة عن النبي سليمان وهو
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|